يبدو أن دول الخليج الثرية المصدرة للنفط ليست هي التربة الأكثر خصوبة للحركات الشعبوية. ومع ذلك، هناك إشارات واضحة على أن الشعبوية، وهي المكمل الطبيعي للقومية، تتقدم بخطى سواءً سريعة أو بطيئة عبر شبه الجزيرة. وكما هو الحال في كثير من الأحيان، من السهل التعرف على هذا التوجه السياسي في الكويت، فهي الدولة الخليجية ذات الإعلام الأكثر انفتاحاً، والمشهد السياسي الأكثر فاعليةً. في الوقت الذي عصفت فيه جائحة فيروس كورونا بالاقتصاد، ويستعد المرشحون للانتخابات البرلمانية المتوقعة في نوفمبر/تشرين الثاني، تبرز عناصر الشعبوية في مقاومة البرلمانيين لقيام الحكومة بكفالة الشركات الكبرى وفي مطالب العامة بطرد العمال الوافدين. كما أن النخبة الحاكمة تغازل الجمهور بحملات مكافحة الفساد التي تستهدف المنافسين السياسيين بشكل لائق.
السجال الشعبي يشكل الاستجابة السياسية مع الجائحة
في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الكويتية جاهدة للحفاظ على رفاهية المواطنين والمقيمين في الكويت في مواجهة الجائحة، فإن المشهد السياسي يتشكل بفعل السجال العام حول هذه الاستجابة. وفي الوقت الذي يقر فيه أغلبية الكويتيين ويقدرون الإجراءات السريعة والشاملة التي تم اعتمادها للتخفيف من انتشار فيروس كورونا الفتاك، فإن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذه التدابير وما يصاحبها من انهيار في أسعار النفط تعمل على تقسيم الجمهور. وجرت العادة أن تكون بعض عناصر القطاع الخاص الكويتي هدفًا لسخرية الجمهور. وعلى الرغم من الخسائر المالية للشركات، كان السياسيون الشعبويون متأهبين ضد الجهود المبذولة للتكفل بالقطاع الخاص والمجموعات التجارية البارزة. وفي غضون ذلك، نادت الحملات الشعبية بالاحتجاج على أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم يستغلون الوضع على حساب السلامة العامة.
وكما هو الحال في جميع أنحاء الخليج، يعاني القطاع الخاص في الكويت من الإجراءات التي اتخذت للحد من انتشار الفيروس. وتميل السلطات الكويتية بشدة نحو اتخاذ تدابير لحماية الصحة العامة، ما أفضى عملياً إلى إيقاف عجلة الاقتصاد لعدة أشهر. ولا تزال الكويت تخضع لعمليات حظر تجول إلزامي، تم فرضها لأول مرة في 22 مارس/آذار؛ وفي الفترة من 10 إلى 31 مايو/أيار، خضعت البلاد لحظر تجول شامل لمدة 24 ساعة يومياً. وأظهر استطلاع رأي أجرته شركة بينسيري الاستشارية (Benserri consultancy) المحلية قبل إغلاق شهر مايو/أيار أن 43٪ ممن شملهم الاستطلاع قاموا بتعليق أعمالهم أو إيقافها، وصرح معظمهم أنهم لا يستطيعون تلبية التكاليف الثابتة لمدة شهرين إضافيين في ظل هذه الظروف المقيدة.
ومع ذلك، كان الدعم الحكومي للقطاع الخاص المحاصر فاترًا مقارنة بالدول المجاورة. فتقوم الحكومة بتعويض القطاع الخاص عن البطالة لمدة ستة أشهر، ولكن فقط للموظفين الكويتيين، الذين يمثلون فقط 19٪ من القوى العاملة في القطاع الخاص. ورفض البرلمانيون الخطط الحكومية الرامية للسماح للشركات بإقرار تخفيضات على الرواتب والإجازات القسرية، في حين أن الكثيرين في وسائل الإعلام، بما في ذلك المرشح البرلماني الطموح، استبعدوا فكرة دعم الشركات. ويستمر غياب حسن النوايا على الرغم من احتشاد الشركات الكويتية خلف الجهود الحكومية الرامية للتغلب على الجائحة، من خلال إنشاء صندوق، وصل الآن إلى 50 مليون دولار من المساهمات، وتوفير المساعدة الطبية والدعم اللوجستي، بما في ذلك وضع الفنادق والمستشفيات الخاصة وأماكن أخرى تحت تصرف الحكومة.
جادل محلل الشئون الخليجية المخضرم مايكل هيرب (Michael Herb) بأن اللامبالاة الشعبية الكويتية تجاه سلامة القطاع الخاص ناتجة عن سوق العمل المتشرذم بشكل حاد، حيث يتولى أكثر من 80٪ من القوى العاملة الوطنية الكويتية مناصب في القطاع العام. وتتمتع هذه “الدولة البيروقراطية” بأهمية سياسية حقيقية، نظراً لأن البرلمان الكويتي منتخب شعبياً، حيث يعمل السياسيون للحفاظ على المنافع العامة، وفي مقدمة ذلك الوظائف الحكومية. كما يلعب هذا التشرذم أيضًا دوراً جغرافياً، حيث غالباً ما يعيش العمال الأجانب – وهم ضروريون لعمل القطاع الخاص وتوسيع الاقتصاد – في أحياء منفصلة عن الكويتيين.
عمل انتشار الجائحة في هذه الأحياء المنعزلة على تأجيج مشاعر الخوف والمشاعر المعادية للأجانب. فبعد احتواء الفيروس في البداية، إلا أن انتشاره تسارع وترسخ في المخيمات المكتظة بالعمال الوافدين غير المهرة، ما سهل موجة ثانية من العدوى، التي أثرت على العديد من المواطنين الكويتيين. وصبّ الجمهور حنقه في البداية على شركات الطيران الزهيدة، التي ينظر إليها على أنها المستفيدة من نقل العمال المصريين إلى البلاد في الأيام الأولى للجائحة. كما كانت هناك دعوات للملاحقة القانونية “لتجار التأشيرات” من أصحاب النفوذ، الذين يستفيدون من جلب العمال إلى البلاد دون تصريح عمل واضح، ما يجعلهم عرضة للاستغلال بشكل خاص. لكن الاستياء العلني من العمال الأجانب أنفسهم سرعان ما طغى على حافز الإصلاح هذا.
بعد ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا في الأحياء التي يقطنها على الأغلب العمال المصريون الوافدون، طلبت الحكومة من جميع المغتربين غير الشرعيين التسجيل للترحيل طواعيةً، مع إعفائهم من جميع العقوبات. وتم احتجاز هؤلاء العمال غير الشرعيين في معسكرات الاعتقال في انتظار ترحليهم. وبعد أسبوعين، لجأوا إلى الاحتجاجات بسبب الظروف المعيشية الصعبة، وانعدام الثقة في الرحلات الجوية أثناء الجائحة. ونظر العديد من الكويتيين إلى أعمال الشغب هذه كإهانة. ولجأ البعض إلى إهانة المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تبجحٌ مهين بشكل خاص لشخصية مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي الكويتية. ونزولاً على المزاج الشعبي، صعَّد أعضاء البرلمان من الخطاب السياسي، مهددين بتشريع حجب المساعدات عن مصر، حتى تلبي مطالب الكويت وتقبل مواطنيها. وحيَّت شخصية إعلامية شعبية ومرشحة للبرلمان في المستقبل السفارة الكويتية في القاهرة على تقديمها شكاوى ضد المصريين، الذين أساءوا للكويت وشعبها على وسائل التواصل الاجتماعي.
رد فعل الحكومة، في حين كان محسوباً، جاء مستوعباً لهذا الغضب الشعبي. وكما يحدث في جميع أنحاء الخليج، يتم ترحيل العمال بأرقام قياسية. ويلمح الوزراء بتحول أكثر ديمومة في سوق العمل، من خلال تعهدات جديدة بمعالجة الخلل في التوازن الديموغرافي في البلاد. وصرح وزير النفط خالد الفاضل أن شركة البترول الكويتية وفروعها لن توظف سوى المواطنين الكويتيين في 2020-2021. وفي رده على مقترحٍ لأعضاء البرلمان باعتماد نظام المحاصصة للعمال الأجانب، أكد رئيس الوزراء الكويتي صباح الخالد الصباح على هدف الحكومة الطويل الأمد المتمثل في تقليص حصة المغتربين من 70٪ إلى 30٪. وتم رفض هذا الهدف من قبل المحللين الكويتيين المطلعين باعتباره غير عملي نهائيًا، ولكنه يعتبر أيضًا مؤشراً جيداً على المزاج الشعبوي الراهن.
حملة ناصر الصباح في مكافحة الفساد
لا تنطلق المواضيع والتدابير الشعبوية فقط من القواعد الشعبية، ولكن أيضاً تنتشر أيضًا، وبشكل استراتيجي، على يد النخبة السياسية الكويتية. في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، قام نجل الأمير ناصر صباح الأحمد الصباح، الذي كان آنذاك يشغل منصبي وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء، عملياً بإسقاط الحكومة، من خلال الكشف عن أدلة على عملية اختلاس حدثت في وزارة الدفاع في عهد سلفه. ويقال إن الأمير لم يرحب بنشر هذه التجاوزات داخل الأسرة الحاكمة على الملأ، حيث ترك ابنه خارج التعديل الوزاري الذي أعقب ذلك.
ومع ذلك، يبدو أن ناصر غير متساهل، واستأنف حملته لمكافحة الفساد، وهذه المرة استهدف بشكل ضمني نجل رئيس الوزراء السابق جابر المبارك الصباح بتورطه غير المثبت حتى الآن في فضيحة 1MDB الماليزية. ومرة أخرى، يلوي ناصر ذراع الحكومة، ورفع القضية من خلال نشر مشاركته في ندوة مغلقة نظمها مركز أبحاث ريكونسنس (Reconnaissance) الكويتي، ومقره واشنطن العاصمة مع مسؤولين أمريكيين بمن فيهم النائب الأول لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى السيد جوي هود (Joey Hood). كان ناصر يهدف إلى “الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة وماليزيا في التعامل مع اختلاس الصندوق السيادي الماليزي 1MDB بشكل خاص، وقضايا غسيل الأموال والفساد بشكل عام”. في الأسبوع التالي، قام رئيس الوزراء الكويتي بإحالة ملف الصندوق الماليزي إلى مكتب المدعي العام.
قدمت المنظمات غير الحكومية داخل الكويت الدعم لحملة مكافحة الفساد، وتحديدًا جمعية المحامين الكويتية والجمعية الكويتية للدفاع عن المال العام، التي كان ناصر بمثابة رئيسها الفخري منذ إنشائها عام 1997. ومن المرجح أن تكتسب حملة مكافحة الفساد زخماً إضافياً إثر التعيين الأخير لعبد العزيز الإبراهيم رئيساً جديدًا للهيئة العامة لمكافحة الفساد في الكويت. وكان قد عمل سابقاً مع ناصر في مجلس الأمناء التابع للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية.
يبدو أن جهود مكافحة الفساد هذه تحظى بشعبية لدى الجمهور، وبالتالي قد تُكسب ناصر دعماً سياسياً في الوقت الحرج عندما تعمل الانتخابات على تشكيل البرلمان الذي سيقول كلمته في الخلافة الملكية القادمة.
انعكاسات في أنحاء الخليج
تميزت الكويت بهذه الطريقة التي تسمح بطرح مواضيع مثل معاداة الأجانب والفساد في السجال العام. ولكن من الواضح أن هذه القضايا رائجة أيضًا في دول الخليج. وفي حين يتنازع قادة الخليج مع السكان الشباب المطالبين بالوظائف والمنددين بالفساد – المظالم التي ظهرت في فترة الربيع العربي- فإنهم يواجهون القومية التي تقودها الدولة. لذلك، ليس من المستغرب أن تتسارع التوجهات المتصلة بالشعبوية، بديناميكيتها المعهودة في إلقاء اللوم على الأجانب والنخب، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية التي لا تطاق، والتي أنبأت بها الجائحة العالمية.