تؤكد مواقف واجراءات ادارة الرئيس ترامب الجديدة المتعلقة بالشؤون الخارجية والأمنية مع مرور كل يوم ابتعادها عن اتباع الأساليب الدبلوماسية المعهودة والأعراف والمقاييس المتعارف عليها إن كان في التعامل مع الحلفاء أم في الرد على الخصوم. وحفل الأسبوع الثاني للرئيس ترامب بأكثر من مثال على رغبته بزعزعة المسلمات التقليدية، إن كان في كيفية صنع القرار في البيت الأبيض من خلال التعاون بين الرئيس مع مجموعة صغيرة من مساعديه المقربين منه، حيث يتم أحيانا استبعاد الوزارات والأجهزة البيروقراطية الأخرى عن عملية صنع قرارات تتعلق باختصاصاتها أو إبلاغها في الدقائق الأخيرة قبل إعلان هذه القرارات، أو في تجاهل التقاليد البروتوكولية التي تتحكم بالعلاقات مع الدول الأخرى بما فيها الصديقة والحليفة.
التحذير الأميركي القوي لإيران بأن الرئيس ترامب سوف يرد على استفزازاتها وتهديدها لمصالحها ومصالح اصدقائها في المنطقة بعكس سلفه اوباما، وتعامله الفظ مع رئيس المكسيك إنريكي بينيا نييتو ورئيس وزراء استراليا مالكولم تيرنبول في مكالمات هاتفية اتسمت بحدة لا سابقة لها، أكدت بشكل لا لبس فيه أن إدارة ترامب سوف تترجم شعار “أميركا أولا” باعتماد سياسة خارجية متشددة تنطلق من حماية مصالحها بالدرجة الأولى حتى ولو أدى ذلك إلى خلافات مع دول حليفة. الرئيس ترامب، الذي يتعامل مع العالم الخارجي بريبة، ويتحدث كما فعل يوم الخميس، عن أن جميع الدول تحاول الاستفادة من الولايات المتحدة واستغلالها، وكأن أمريكا دولة من المرتبة الثالثة أو الرابعة، وليست القوة العظمى في العالم اقتصاديا وعسكريا. من هذا المنظور، يبدو العالم داكنا وخطيرا: “العالم يواجه تهديدات بالغة الخطورة وبأشكال مختلفة، وأنا لم أر ذلك بشكل واضح إلا بعد أن أصبحت رئيسا”.
الرئيس ورجاله
على مدى أسبوعين، سعى الرئيس ترامب إلى تطبيق بعض وعوده الرئيسية لأنصاره خلال الحملة الانتخابية، ووّقع على سلسلة من القرارات التنفيذية في مناسبات تم إخراجها وكأنها عمل تلفزيوني لإرضاء الرئيس الشغوف بالمناسبات الاحتفالية، وتطرقت هذه القرارات التي صيغت بسرعة، والكثيرون يقولون بتسرع، إلى قضايا داخلية وخارجية، وفاجأت بمضمونها وكثرتها البيروقراطية الأمريكية والكونغرس والرأي العام ودول العالم. الأمر اللافت هو أن الذين وقفوا وراء هذه القرارات هم مجموعة صغيرة من المستشارين المقربين من الرئيس ترامب وعائلته، من الموظفين البارزين، ولكن غير الخاضعين للمساءلة من الكونغرس أو تصديق مجلس الشيوخ على تعيينهم كما هو الحال لموظفي الدرجات الأولى والثانية والثالثة مثل المناصب الوزارية والأجهزة الحكومية الأخرى، مثل نواب الوزراء ومساعديهم المختصين والسفراء وغيرهم. وأبرز هؤلاء المستشارين هم: ستيفن بانون، المستشار الاستراتيجي للرئيس (والمدير السابق لموقع بريتبارت الالكتروني اليميني) والجنرال المتقاعد مايكل فلين مستشار الأمن القومي ، والمستشار السياسي ستيفن ميلر، والمستشار الخاص وصهر الرئيس جاريد كوشنر. وقام بانون وميلر بصياغة خطاب التنصيب للرئيس ترامب، وبصياغة معظم القرارات التنفيذية. ويعمل هؤلاء، وخاصة بانون في الظل وبالتعاون مع عدد محدود من الموظفين والمساعدين، وكما يتبين من صياغة بعض القرارات التنفيذية، وخاصة القرار المتعلق بمنع قبول أي لاجئ من سوريا، والتعليق المؤقت لدخول رعايا سبع دول ذات أكثرية مسلمة، والذي أثار سخط الكثيرين، أن هذه القرارات تتسم بالاعتباطية ولا تستند على أرضية قانونية صلبة. وهذا يعود لأكثر من سبب، من أبرزها رغبة بانون (الذي يقول بعض المقربين من ترامب أنه يعتبره كند له، وهذا ما يفسر نفوذه البالغ) بالعمل السري، الأمر الذي ينعكس في تفاديه لأي سجل مكتوب للمداولات التي يشارك فيها، كما شكى أحد المسؤولين في البيت الأبيض لإحدى المطبوعات. وأثار الرئيس ترامب استغراب واستياء الكثيرين في الحكومة والكونغرس، حين قرر في الأسبوع الماضي تعيين بانون عضوا دائما في المجلس الذي يضم جميع المسؤولين الكبار المعنيين بالشؤون الأمنية، وهو أمر غير معهود، خاصة وأن القرار شمل أيضا تخفيض مشاركة رئيس الاستخبارات الوطنية (الذي يشرف على عمل 16 جهاز استخباراتي) ورئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة، إلا إذا كان الأمر يتعلق مباشرة باختصاصهما، ما يعني أن بانون بعكسهما، سوف يشارك في جميع اجتماعات المجلس.
ويعتبر بانون، البالغ من العمر 63 سنة من أبرز رموز اليمين المتشدد، الأمر الذي دفع بزعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى وصفه “بالعنصري الذي يؤمن بتفوق الرجل الأبيض”. وكان بانون قبل التحاقه بحملة ترامب قد حوّل موقع بريتبارت إلى منبر للأصوات المتطرفة والعنصرية، والمناوئة للمسلمين والأقليات والتي ترفض معظم سياسات ومواقف الحزب الجمهوري التقليدية، مثل اتفاقيات التجارة الحرة، والتي ترفض هجرة غير الأوروبيين. ولستيفن بانون مواقف يمكن اعتبارها فوضوية أو ثورية مثل قوله “لينين كان يرغب بتدمير الدولة، وهذا هو هدفي. وأنا أريد أن أرى كل شيء يهوي، وتدمير كل شيء في المؤسسة” السياسية.
الهاجس الإسلامي
يشارك الرئيس ترامب مستشاريه ستيفن بانون ومايكل فلين نظرتيهما العدائية للإسلام والمسلمين، وليس فقط للحركات الإسلامية المتطرفة. ويقول مسؤولون في إدارة ترامب أنهم يدرسون احتمال إعلان حركة الإخوان المسلمين حركة إرهابية. وفي السنة الماضية طالب ترامب بوقف هجرة جميع المسلمين إلى الولايات المتحدة. وبعد الضجة المعادية لموقفه تراجع قليلا وقال إنه يريد وقف الهجرة من الدول التي تعاني من الإرهاب ولكنه كان يقول في مهرجاناته الانتخابية إنه يجب منع “أيديولوجية الإسلام المتطرف الحاقدة” من الانتشار في الولايات المتحدة. ويرى المستشار فلين أن الإسلام يمثل خطرا وجوديا على الولايات المتحدة، ولذلك وصف الإسلام بأنه “سرطان خطير” وايديولوجية “مريضة”، وجاء في تغريدة سيئة الصيت له قبل سنة، “أن الخوف من المسلمين هو عقلاني”، كما ادعى أن الإسلام ليس دينا، بل “أيديولوجية سياسية” تدعي أنها دين. وقال في تغريدة أخرى لا تقل غرابة عن التغريدة السابقة أنه يتحدى “القادة” العرب والفرس (وضع كلمة القادة بين مزدوجين) لأن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية “والإعلان أن الايديولوجية الاسلامية مريضة ويجب شفاؤها”.
وللمستشار الاستراتيجي ستيفن بانون الكاثوليكي مواقف عدائية مماثلة من الإسلام والمسلمين والعرب، وله مواقف ترفض هجرة غير الأوروبيين بمن فيهم السوريين، ويضع بانون عدائه للإسلام في إطار الصراع التاريخي بين الإسلام، والغرب اليهودي-المسيحي. وفي كلمة ألقاها عبر الأقمار الاصطناعية لمؤتمر عقد في الفاتيكان في 2014 في أوج هجمة داعش أن هناك حرب كبيرة بين الإسلام والغرب، “وفي كل يوم نرفض فيه الاعتراف بهذه الحقيقة وحجمها ووحشيتها، هو يوم سوف نندم عليه لأننا لم نتحرك “. وفي برنامج إذاعي قبل التحاقه بحملة ترامب، قال بانون إن “الإسلام ليس دين سلام” وقال لمستمعيه ” فلنقلها بصراحة قاسية، المسيحية تموت في أوروبا، والإسلام في حالة نهوض”. ويصف بانون الإسلام المتطرف بـ”الإسلام الفاشي”، ويحذر من أن داعش تسعى لاختراق أوروبا والوصول إلى الولايات المتحدة. ويشير بانون في مداخلاته إلى انتصارات الغرب المسيحي ضد الإسلام في المعارك التاريخية مثل هزيمة شارل مارتيل الفرنسي للمسلمين في معركة تورز الهامة في سنة 732، وهزيمة جيوش السلطان العثماني سليمان القانوني التي حاصرت فيينا في 1529.
هذه النظرة العدائية للإسلام والمسلمين للرئيس ورجاله، سوف تخيم على علاقاتهم بالدول ذات الأكثرية المسلمة، بمن فيها الدول التي يعتبرها ترامب حليفة أو صديقة.
المواجهة مع إيران
التحذير الذي وجهه أولا المستشار فلين لإيران، والذي دعمه ترامب لاحقا بتغريداته، يهدف على الأقل في هذه المرحلة الأولية إلى بعث رسالة واضحة للأمريكيين وإلى إيران والعالم بأن إدارة ترامب لن تتردد في مواجهة استفزازات طهران، مثل إجراء التجارب على الصواريخ الباليستية ودعمها العسكري للمتمردين الحوثيين في اليمن، وتعزيز سيطرتها على العراق كما كان يفعل الرئيس السابق أوباما. الرئيس ترامب قال إن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة بما فيها الخيار العسكري.
وصباح الجمعة، وبعد ان قال الرئيس ترامب ان ايران “تلعب بالنار”، ترجمت وزارة المالية التحذير لايران بفرض عقوبات اقتصادية عليها، في اول خطوة عقابية تتخذها الادارة الاميركية الجديدة ردا على التجربة الصاروخية وسلوكها الاستفزازي. وشملت العقوبات 25 شخصية ومؤسسة تساهم في تطوير برنامج الصواريخ الايراني، او تخدم فيلق القدس التابع للحرس الثوري والذي يعمل عن كثب مع تنظيمات تصنفها واشنطن ارهابية، مثل حزب الله اللبناني، تنشط في سوريا والعراق. وقال جون سميث المسؤول في وزارة المالية “الدعم الايراني المستمر للارهاب وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية يمثل خطرا على المنطقة، وعلى شركائنا في العالم قاطبة وعلى الولايات المتحدة”. وتابع “الاجراء الذي اتخذناه اليوم هو جزء من الجهود المستمرة للوزارة للرد على نشاطات ايران المؤذية في الخارج والتي تقع خارج نظاق “خطة العمل المشتركة الشاملة” أي الاتفاق النووي بين ايران ومجموعة الخمسة زائد واحد. وكان عدد من اعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، من بينهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية السناتور بوب كوركر، قد بعثوا برسالة الى الرئيس ترامب حضوه فيها على معاقبة ايران لكي “يشعر قادة ايران بالضغط الكافي لوقف اعمالهم التي تتسبب باضطرابات عميقة، من رعاية التنظيمات الارهابية الى مواصلة اختبار الصواريخ الباليستية“.
ويعتقد ان هذه العقوبات التي تشمل وقف تبييض الاموال لصالح ايران من لبنان، هي خطوة أولية في سلة خيارات من المتوقع ان تناقشها واشنطن مع حلفائها لارغام ايران على تعديل سلوكها. هذه الخطوة وضعت واشنطن وطهران على خط مواجهة جديدة لا احد يعلم في هذا الوقت المبكر الى اين ستؤدي، وخاصة اذا قررت طهران استئناف تجاربها الصاروخية.
وليس من المتوقع أن تلجأ الإدارة الجديدة إلى مواجهة عسكرية مبكرة مع إيران خاصة وأن هناك مئات المناصب الحساسة في الأجهزة الأمريكية التي لا تزال شاغرة، كما ان أي اجراء عسكري سوف يتطلب مشاورات وتنسيق مع حلفاء واشنطن الاقليميين والغربيين. وبينما هناك تأييد واسع في الكونغرس ومن قبل الرأي العام لفرض سلاح العقوبات الاقتنصادية، الا انه لا يوجد هناك حماس ملحوظ لمواجهة عسكرية مع إيران خاصة وأنه لا توجد هناك نهاية قريبة للحرب في أفغانستان والعراق.
وفوجئت الأوساط السياسية في واشنطن بقيام المستشار فلين بانتقاد الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد والذي وصفه “بالضعيف وغير الفعال” خلال قراءته لبيان استنكار التجربة الصاروخية وهجمات الحوثيين ضد السفن الحربية السعودية والإماراتية، خاصة وأن الرئيس ترامب لم يعد يكرر في الأشهر الأخيرة قبل وبعد انتخابه أنه سيمزق الاتفاق أو يلغيه كما كان يقول سابقا. وكان وزير الدفاع جيمس ماتيس قد قال خلال مثوله أمام لجنة العلاقات الخارجية أن الولايات المتحدة يجب أن تحافظ على التزامها بالاتفاق.
والأمر اللافت في التحذير، هو أن مستشاري ترامب قد صاغوه، دون أن يناقشوه بالتفصيل مع الأجهزة والوزارات الأخرى. وكان المستشار فلين قد قرأ التحذير قبل ساعات من تصديق مجلس الشيوخ على تعيين ريكس تيلرسون وزيرا للخارجية، وحين كان وزير الدفاع ماتيس في طريقه لزيارة كوريا الجنوبية واليابان. وعندما وقع الرئيس ترامب في الأسبوع الماضي القرار التنفيذي المتعلق برعايا الدول المسلمة واللاجئين السوريين، فإن القرار لم يناقش بالتفصيل مع وزارة الأمن الداخلي الأمريكية وأن الوزير ماتيس اطلع على مضمونه قبل ساعات من توقيعه.
في أسبوعه الثاني في البيت الأبيض سعى الرئيس ترامب إلى تخويف خصومه في إيران والتلويح بالسيف العقابي، وتنبيه حلفائه في المكسيك واستراليا من أنه مستعد للتخلي عن الأعراف والتقاليد واعتماد أساليب نافرة لضمان مصالح الولايات المتحدة، حتى ولو أدى ذلك إلى زعزعة ثقة هذه الدول بالولايات المتحدة. في مكالمته الهاتفية مع رئيس وزراء استراليا انتقد ترامب بفظاظة الاتفاق “الغبي” الذي وقعته إدارة الرئيس أوباما مع استراليا والقاضي بقبول 1250 لاجئ مقيمين في معسكر استرالي، ومطالبة رئيس المكسيك بالتصدي بقوة أكثر لعصابات مهربي المخدرات، وإلا فإنه مستعد لإرسال القوات الأمريكية للتصدي لها. ترامب أراد أن يقول للعالم من خلال مواجهاته مع إيران واستراليا والمكسيك، أن هناك رئيس جديد في واشنطن، ونمط أمريكي مختلف في التعامل مع العالم. وعندما تحدث صباح الخميس في مناسبة الصلاة السنوية في واشنطن والتي يحضرها مسؤولون أمريكيون ودوليون، وكان من بينهم هذه السنة العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين، قال للمشاركين “عندما تسمعون عن المكالمات الهاتفية القاسية التي أجريتها لا تقلقوا. كانت قاسية، ولكن علينا أن نكون قساة، لقد حان الوقت لأن نكون قساة، كل دول العالم تستغلنا، وهذا لن يحدث بعد اليوم”.
في أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) التي تربينا على الإعجاب بها، حيث يختلط الواقع بالخيال، نتعرف دائما على شخصية، رجل الأمن، أو الشريف الشجاع والنزيه، الذي يأتي كمخلص ليطهر البلدة من الأوباش والفاسدين، حيث يقول للجميع: هناك شريف جديد في البلدة، سوف يعيد إليها الأمن والهدوء والاحترام. ترامب يدعي أمام الأمريكيين والعالم أن هناك شريف جديد في واشنطن مختلف جدا عن كل من سبقوه.