لا تزال المفاوضات بين البيت الأبيض ورئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن ماكارثي لحل أزمة رفع سقف الدين العام متعثرة مع اقتراب موعد تخلف وزارة الخزانة عن سداد ديون الولايات المتحدة في الأول من يونيو/حزيران المقبل، مع ما يعنيه ذلك من مضاعفات كارثية على الاقتصادين الأميركي والعالمي. ومع أن رؤساء ديموقراطيين سابقين من بينهم بيل كلينتون وباراك أوباما واجهوا مآزق وتحديات مماثلة في تعاملهم مع كونغرس جمهوري، أوصل المفاوضات إلى حافة الانهيار المالي قبل التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة، إلا أن عددًا متزايدًا من المراقبين المحايدين يقولون إن الوضع الراهن مختلف نوعيًا، ويتخوفون من انحراف قطار الدولة عن سكته لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة.
ويشير هؤلاء إلى أن قادة الحزب الجمهوري اليوم يختلفون نوعيًا، عن أسلافهم قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن. ويضيفون، إن مجلس النواب الذي انتخب في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 يتضمن كتلة كبيرة نسبيًا من الاعضاء الذين لا يمانعون من زج البلاد في أزمة مالية إذا كانت نتيجتها إلحاق هزيمة سياسية وانتخابية ساحقة بالرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي. هؤلاء يتحدثون عن “نزعة عبثية” موجودة في المجلس عكسها الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي حرض قادة الحزب الجمهوري قبل أقل من أسبوعين على التمسك بمواقفهم ورفض أي تسوية أو حل وسط في المفاوضات، حتى ولو أدى الأمر إلى تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها. المرشح ترامب لا يزال في طليعة المرشحين الجمهوريين لمنصب الرئاسة في 2024. حتى حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس، الذي دخل السباق مساء الأربعاء بميزانية انتخابية تصل إلى 200 مليون دولار، والذي يعتبر المرشح الأبرز في مواجهة ترامب حتى الآن، لا يزال متخلفًا عن الرئيس السابق في استطلاعات الرأي بنسب تزيد عن ثلاثين نقطة.
اخفاق المفاوضين في الاقتراب أكثر من اتفاق على الخطوط العريضة لمنع الانهيار انعكس سلبًا على عمليات الأسواق المالية في نيويورك، التي تراجعت جميع مؤشراتها، على خلفية تعثر المفاوضات وتحذيرات وزيرة المالية جانيت يلين (Janet Yellen) اليومية من اقتراب البلاد من حافة الافلاس المالي، والتخلف عن دفع مستحقات ورواتب أفراد القوات المسلحة، وملايين المواطنين المتقاعدين الذين يعتمدون على مستحقاتهم من مؤسسة الضمان الاجتماعي ومؤسسات العناية الصحية وغيرها.
وللتدليل على أن أزمة سقف الدين العام، هي أزمة عالمية بقدر ما هي أزمة سياسية – مالية أميركية، أعلنت وكالة فيتش Fitch Ratings ،في لندن، يوم الأربعاء، أنّها وضعت التصنيف الائتماني الممتاز للولايات المتّحدة (AAA) تحت المراقبة تمهيدًا لاحتمال خفضه بسبب خطر تخلّف الحكومة الأميركية عن سداد ديونها إذا لم يتمّ رفع سقف الدين العام الأميركي، قبل بداية الشهر المقبل. الوكالة بررت قرارها بالإشارة إلى أنه يعكس “التوترات السياسية المتزايدة التي تعيق حل أزمة رفع سقف الدين العام”.
وكان الرئيس جوزيف بايدن قد حمل معه إلى قمة الدول الصناعية السبع، في هيروشيما باليابان في الأسبوع الماضي، هذا العبء الثقيل الذي يسمى في واشنطن بحالة “الاختلال الوظيفي السياسي”، والتي أجبرته حتى قبل مغادرته واشنطن، على إلغاء القسم الثاني من جولته، والذي كان يفترض أن يحمله إلى أستراليا وإلى غينيا الجديدة، للاجتماع بقادة “الحوار الأمني الرباعي (Quad)، الذي يضم إضافة إلى الولايات المتحدة، أستراليا والهند واليابان. صحيح إن هؤلاء القادة التقوا في هيروشيما، إلا أن زيارة الرئيس بايدن إلى أستراليا وبابوا وغينيا الجديدة (التي كانت ستستقبل أول رئيس أميركي يزورها) كانت هامة سياسيًا واستراتيجيًا ورمزيًا، لأنها كانت ستؤكد تصميم واشنطن على تعميق حضورها الأمني والسياسي في تلك المنطقة الجغرافية الهامة في سياق استراتيجيتها الجديدة للتصدي للنفوذ الصيني المتصاعد.
قادة الدول المشاركة في قمة اليابان، وغيرهم من الذين تمت دعوتهم للقمة، أعربوا عن اهتمامهم وقلقهم للرئيس بايدن (الذي كان يتابع عن كثب مع مستشاريه آخر مستجدات المفاوضات في واشنطن) حالة انعدام اليقين في الأسواق المالية العالمية جراء المأزق المستمر في واشنطن. تأكيدات الرئيس بايدن أن الأزمة الراهنة سوف تنتهي بتسوية مثلما انتهت الأزمات السابقة، لم تلغ مشاعر القلق هذه، لأن قادة هذه الدول يعرفون بدقة جدية حالة “الاختلال الوظيفي السياسي” في واشنطن، والتي ازدادت خطورة منذ بروز ظاهرة دونالد ترامب قبل سبع سنوات، والتي ستبقى مخيمة على البلاد حتى انتخابات 2024 الرئاسية على أقل تقدير.
لا أحد يعرف، بأي درجة من اليقين، الأضرار التي ستلحق بالاقتصادين الأميركي والعالمي في حال تخلفت الولايات المتحدة للمرة الأولى في تاريخها عن سداد ديونها. هناك توقعات وتكهنات متشعبة وعديدة، ولكنها جميعًا قاتمة وخطيرة. داخليًا، التخلف عن سداد الديون سيؤدي إلى أزمة مالية مماثلة للأزمة المالية في 2008، والتي أدت إلى انخفاض أسهم أكبر 500 شركة أميركية بنسبة 20 بالمئة، وإلى ارتفاع معدلات الفائدة، وكذلك معدلات البطالة. خارجيًا، تخلف واشنطن عن سداد ديونها سيهز دعائم الاقتصاد العالمي، لأنه سيزعزع الاستثمارات الدولية في الاقتصاد الأميركي والأسواق المالية في نيويورك، وحصة المستثمرين الأجانب في سندات الخزينة الأميركية، كما سيهز بشكل عميق مكانة الدولار الأميركي بصفته العملة الأساسية للتجارة العالمية، والعملة التي تشكل الاحتياط المالي لكثير من الدول.
ومع أن انحراف قطار الدولة الأميركية عن سكته ليس حتميًا، إلا أن بعض الدول التي استهدفتها العقوبات الاقتصادية الأميركية بقوة ( مثل روسيا وايران) تتمنى مثل هذا الانحراف. ولكن في المقابل هناك دول أخرى تملك اقتصادات كبيرة وفاعلة في مناطقها الجغرافية، وتحديدًا المجموعة المعروفة باسم البريكس BRICS))، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، التي تدعو بين وقت وآخر إلى التخلي عن الدولار (ما يسمى بالإنجليزية de-dollarization) بصفته العملة الرئيسية للاحتياطات المالية العالمية والتجارة الدولية، واستبداله إما بسلة من العملات لهذه الدول بدعم من احتياطي الذهب، أو كما تدعو روسيا والصين إلى استبدال الدولار بالعملة الصينية اليوان. وكان الرئيس البرازيلي لويز لولا دا سيلفا قد قال خلال زيارته للصين في ابريل/نيسان الماضي “كل ليلة، أسأل نفسي لماذا تقوم جميع الدول بعملياتها التجارية بناء على الدولار”.
حتى الآن المقولة السائدة في أوساط الخبراء في الشؤون المالية، وفقًا لأحد المراقبين، هي إن الدولار هو بمثابة الرجل الأعور في أرض يعيش فيها عميان، اسمهم اليورو والين واليوان. وكما قال أحد الخبراء الاقتصاديين “أوروبا هي متحف، واليابان هي دار لرعاية المسنين، والصين هي سجن”. وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن، نظريًا على الأقل، وفي حال تخطي هذه الدول لخلافاتها السياسية والاقتصادية، وأظهرت استعدادها لتحمل الخسائر الأولية التي ستتكبدها إذا تخلت عن الدولار وتوصلت إلى عملة موحدة، فإنه سيكون لمثل هذا التطور وقع الزلزال الذي سيقلب الموازين المالية والتجارية في العالم رأسًا على عقب، لأن مجموع الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول يفوق الناتج المحلي الاجمالي لجميع دول مجموعة الدول الصناعية السبع. ولكن هذه الصورة القاتمة، لا تزال بعيدة عن حسابات العديد من الخبراء الماليين الأميركيين، وهذا تقويم مبني بالطبع على أن واشنطن لن تتخلف عن سداد ديونها.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وتطويق الاقتصاد الروسي بعقوبات أميركية وغربية خانقة، تقوم موسكو باستخدام العملة الصينية في تجارتها مع الصين. دول أخرى ولأسباب مختلفة، من بينها إرضاء الصين سياسيًا، تستخدم العملة الصينية في تجارتها مع الصين، مثل الأرجنتين التي اضطرت إلى استخدام اليوان في تعاملها التجاري مع الصين لتعذرها عن الوصول إلى ما تحتاجه من العملة الأميركية. ووفقًا لمقال نشره مؤخرا موقع مجلة “فورين بوليسي” هناك دول أخرى مثل السعودية وبنغلادش والهند والبرازيل وباكستان والعراق وبوليفيا، إما استخدمت اليوان في معاملاتها التجارية مع الصين أو أعربت عن استعدادها لأن تفعل ذلك في المستقبل.
ويرى بعض الخبراء الماليين الأميركيين أن الصين، التي تمثل الاقتصاد الثاني في العالم، تدرك أنها لا تستطيع استبدال الدولار في أي وقت قريب، ولكنها تريد تقليص اعتماد اقتصادها على الدولار، في حال تعرضها في المستقبل لعقوبات اقتصادية أميركية متشددة أكثر (بسبب الخلاف حول مستقبل جزيرة تايوان، أو أي خلاف استراتيجي آخر في منطقة المحيطين الهندي والهادي)، ولذلك فإنها تسعى لتوسيع رقعة التبادل بالعملة الصينية.
ووفقًا لمقال “فورين بوليسي” وصلت نسبة المدفوعات الدولية خلال شهر مارس/آذار الماضي بالدولار إلى 41.7 بالمئة، مقابل نسبة المدفوعات الدولية بالعملة الصينية التي لم تتعد 2.4 بالمئة. وخلال السنة الماضية وصلت نسبة الاحتياط الدولي بالدولار الأميركي إلى 58 بالمئة، مقابل 2.7 بالمئة بالعملة الصينية وهذا يعود لأكثر من سبب من بينها أن الصين لا تسمح بحرية تحويل عملتها (free convertibility).
طبعا هذه المسلمات والافتراضات والتوقعات مرشحة لأن تتغير جذريًا، إذا انحرف بالفعل قطار الدولة الأميركية عن سكته، ودخلت الولايات المتحدة، وأدخلت معها العالم، في متاهة سياسية ومالية لا أحد يعلم بيقين إلى أين ستؤدي.