خلال ولايته الأولى، كرر الرئيس دونالد ترامب انتقاداته القاسية للطبقة السياسية في واشنطن بحزبيها الديموقراطي والجمهوري، لتوريطها الولايات المتحدة خلال عقود من الزمن بما كان يسميه “الحروب التي لا نهاية لها” في الشرق الأوسط وفي جنوب آسيا، وتحديداً العراق وأفغانستان. وكان منتقدو سياسة ترامب الخارجية وانعزاليتها، المتمثلة بالجفاء، إن لم يكن العداء، للأحلاف التي أقامتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً حلف شمال الناتو، يعترفون على مضض أنه يرفض توريط الولايات المتحدة في حروب خارجية.
يوم الاثنين المقبل، سيعود ترامب إلى البيت الأبيض، ولكنه هذه المرة سيجلب معه إمبريالية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي الحقبة الزمنية التي ضمت فيها الولايات المتحدة جزر بورتوريكو وغوام، ووضعت الفيليبين تحت حمايتها الفعلية، بعد أن أخرجتها من سيطرة “الاستعمار الأسباني”، وغزت كوبا، واشترت ألاسكا من روسيا في 1867، وبدأت في بداية القرن العشرين بناء قناة بنما بعد اخفاق فرنسا في تحقيق هذا المشروع الطموح. في هذه الفترة، كانت هيمنة الولايات المتحدة على أميركا اللاتينية شبه كاملة. خلال هذه الفترة كان الرئيس تيودور روزفلت، بطل غزو كوبا، هو وجه الإمبريالية الأميركية في بداية القرن العشرين، من خلال بنائه لسلاح البحرية الأميركية، ونشر القوات الأميركية في العالم في عرض واضح للعضلات الأميركية، وفي تعبير سافر عن سياسته الخارجية الصدامية، والمتمثلة في جملته الشهيرة، “تحدث بنعومة، ولكن أمسك في يدك عصا كبيرة، هكذا تضمن أنك ستسير بعيداً”. هل يحاول ترامب في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين إحياء سياسة تيودور روزفلت؟
وحتى قبل دخوله إلى البيت الأبيض، بدأ ترامب بزعزعة مفهوم سيادة الدول في القانون الدولي من خلال الحديث العلني عن “الحدود الاصطناعية” بين الدول، كما فعل مؤخراً حين تحدث عن أطول حدود آمنة وهادئة في العالم، أي الحدود بين كندا والولايات المتحدة، في سياق تبريره لضم كندا كولاية جديدة إلى الولايات المتحدة، وكأن معظم حدود الدول ليست اصطناعية، كما هو الحال بين الدول الأفريقية والآسيوية وأميركا اللاتينية. معظم الحدود بين الدول ليست بالضرورة “طبيعية”، تشكلها الأنهار أو سلاسل الجبال، بل تم رسمها إما خلال حقبة الاستعمار، أو بين قادة الدول بعد استقلالها. وحتى الدول التي كانت تتحفظ أو تعترض على هذه الحدود “الاصطناعية”، كانت ترفض استخدام القوة لتغييرها، لأن ذلك سيخلق سوابق تزج العالم في حالة فوضى عارمة.
في مؤتمر صحفي عقده في السابع من الشهر الجاري في مقره في ولاية فلوريدا، تحدث ترامب بشكل طبيعي عن رغبته بضم جزيرة غرينلاند ( التابعة للدانمارك، وهي دولة في حلف الناتو)، وتحويل كندا (مساحتها أكبر من الولايات المتحدة)، إلى الولاية الواحد والخمسين في الاتحاد الفيدرالي، واستعادة السيطرة الأميركية على قناة بنما (تسلمت بنما القناة من الولايات المتحدة في عام 1999 وفقاً لمعاهدة دولية تم الاتفاق عليها خلال ولاية الرئيس جيمي كارتر)، بحجة إن الولايات المتحدة دفعت ثمناً بشرياً باهظاً خلال بناء القناة، ولأن الصين تمارس نفوذاً سلبياً للغاية في منطقة القناة، وتشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأخيراً لأن السلطات البنامية تمارس التمييز ضد الشركات الأميركية. بشرّ ترامب الأميركيين بحلول “عصر ذهبي ” للولايات المتحدة، ودعا إلى استبدال اسم خليج المكسيك، وهو الاسم الدولي المعترف به، باسم “خليج أميركا”.
وأهم ما قاله ترامب في مؤتمره الصحفي هو أنه لا يستبعد استخدام القوة العسكرية للاستيلاء على غرينلاند وقناة بنما، وإن قال أنه يفضل استخدام الضغوط الاقتصادية في سعيه لضم كندا إلى الولايات المتحدة. طبعاً، لم يبال ترامب باحتجاجات قادة الدول المعنية، ونقاده في الداخل والخارج من سياسيين وحقوقيين، من الذين سارعوا إلى تذكيره، بأن حديثه عن “الحدود الاصطناعية” بين كندا والولايات المتحدة هي الحجة ذاتها التي استخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تبريره للغزو الروسي لأوكرانيا.
في ولايته الأولى، حاول ترامب، ببعض الصعوبة، اقناع أقطاب الحزب الجمهوري بقبول نزعته الدولية الانعزالية وانتقاداته لحلف الناتو، وأسلوبه غير التقليدي في التعامل – والتقرب – من الطغاة في العالم، مثل زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون والزعيم الصيني تشيجينغ بينغ والرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان، ولكنهم إما قبلوا هذه السياسة على مضض أو قاطعوا ترامب. هذه المرة، لم يخرج نقداً واحداً عن أي زعيم جمهوري في الكونغرس، بل رأينا اصطفافاً جمهورياً وراء ترامب يذكّر باصطفاف المسؤولين في أي دولة يحكمها أي اوتوقراطي في العالم. وفجأة أكتشف الجمهوريون أن ترامب لديه فهم خاص للمصالح القومية الأميركية، ويريد تحضير الأمة الأميركية لمواجهة تستطيع أن تفوز فيها في المستقبل مع خصم خطير مثل الصين، وأن ضم كندا إلى الولايات المتحدة سوف يقويها اقتصادياً بشكل جذري، كما أن سيطرتها على غرينلاند سوف تمنع الصين وروسيا من استغلال طرق الملاحة الجديدة التي ستنفتح امام الملاحة الدولية مع ذوبان الجليد من بعض مناطق غرينلاند.
خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، أقامت الولايات المتحدة عدداً من القواعد العسكرية في الجزيرة بالتعاون مع الدانمارك، ولا تزال لديها قاعدة واحدة في الجزيرة. أما التهم التي يوجهها ترامب إلى الصين في قناة بنما فهي لا أساس لها من الصحة. وإذا كان للصين وجود اقتصادي في بنما، فإن نقاد ترامب يقولون إن أفضل وسيلة لتحدي الصين في بنما هو عبر الوسائل الاقتصادية. ويضيف هؤلاء، إن قيادة بنما لا تسيء معاملة الشركات أو السفن الأميركية، ولا تفرض عليها رسوم أعلى من الرسوم التي تفرضها على سفن الدول الأخرى، وإن بنما باختصار تدير شؤون القناة بشكل سليم.
يسارع مؤيدو ترامب للقول إنه لا يسعى لإحياء إمبريالية القرن التاسع عشر، ولكن يستخدم هذه التهديدات لأنها تساهم في تعزيز صورته في المجتمع الدولي كزعيم لا يمكن التكهن بما سيفعله، أي أنه شخصية لا يمكن توقعها أن تلتزم بما هو تقليدي أو متوقع. ويشير هؤلاء إلى كيفية تعامله مع زعيم كوريا الشمالية في بداية ولايته الأولى حين هدد بتدمير كوريا الشمالية في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، قبل أن يقلب هذا الموقف رأساً على عقب، ويكتشف في كيم يونغ أون صديقاً حميماً، يكتب إليه “رسائل حب” على حد قوله. يشير بعض هؤلاء أيضاً إلى ما كان يسمى خلال حقبة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، وخاصة خلال حرب فيتنام بـ “نظرية الرجل المجنون ” (The madman theory)، وتقضي النظرية بالإيحاء لقادة الدول الشيوعية آنذاك (فيتنام والاتحاد السوفياتي والصين) إن الرئيس نيكسون يمكن أن يتصرف بطريقة غير عقلانية او متطرفة للغاية اذا تم استفزازه.
هل يسعى ترامب في 2025 إلى احياء هذه النظرية؟ يجب القول إن نظرية “الرجل المجنون” لم تنقذ الرئيس نيكسون أو الولايات المتحدة من الغرق في مستنقع فيتنام.
خلال حملته الانتخابية الأولي في 2015 و2016، وجه ترامب انتقادات قاسية وعنصرية ضد المكسيك والمكسيكيين، ساهمت في انتخاب الرئيس اندريس أوبرادور، أحد أكثر السياسيين المكسيكيين عداءً للولايات المتحدة. مواقف ترامب التوسعية ضد كندا، إن كان جاداً في السعي إلى تحقيقها أم لا، أو يقصد منها ترهيب رئيس الوزراء جاستن ترودو، الذي يحتقره ويسميه “الحاكم” ترودو، فإنها ستساهم في تأجيج مشاعر العداء لترامب وللولايات المتحدة في جارتها الشمالية.
هذا الخطاب التوسعي، بدلاً من ردع خصوم الولايات المتحدة، مثل الصين أو روسيا، فإنه يساهم بالعكس في تشجيع ميولها التوسعية. وإذا افترضنا على سبيل المثال أن ترامب بدأ برفع الضغوط العسكرية ضد بنما، فإن ذلك سوف يشجع الصين على أن تفعل الشيء ذاته ضد تايوان. هذا الخطاب سوف يشجع كل دولة كبيرة لديها نزاع حدودي مع احدى جاراتها على التهديد باستخدام القوة العسكرية. ماذا عن النزاع على كشمير بين الهند وباكستان النوويتين؟
التهديدات التي يطلقها ترامب في 2025 موجهة ضد حلفاء الولايات المتحدة، أثنين منهما (كندا والدانمارك العضوتان في حلف الناتو) حاربتا مع الولايات المتحدة في السابق. في هذا العالم الأميركي الجديد من يريد أن يكون حليفا للولايات المتحدة؟ في ولايته الأولى بنى ترامب علاقات جيدة مع بعض الدول العربية في الخليج وخارجه. ولكن الخليج تغير مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض هذه المرة. الجفاء بين إيران وجيرانها العرب قد انحسر كثيراً. ولم تعد إيران الآن، بعد نكستها العسكرية على أيدي إسرائيل والولايات المتحدة، وبعد تحجيم حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة، قادرة على الهيمنة على المنطقة كما كانت ترغب في السابق، وهذا يمكن أن يكون نقطة خلافية بين ترامب الجديد، الذي سيحاول تعزيز الضغوط على إيران، وهو أمر قد تتحفظ عليه القيادات العربية في الخليج. يريد ترامب، كما قال مرشحه لمنصب وزير الخارجية ماركو روبيو، أن يطور وقف إطلاق النار بين اسرائيل وحركة حماس، إلى “تطبيع” العلاقات بين إسرائيل والسعودية، وهو يعتقد إنه يستطيع أن يبني ذلك على اتفاقات إبراهام، التي عقدها في نهاية ولايته الأولى. ولكن ذلك لن يكون وارداً إذا بقي بنيامين نتنياهو وائتلافه المتطرف مسيطراً على إسرائيل، لأنه لا يمكن أن يحرز أي تقدم على طريق الدولة الفلسطينية، وهو الحد الأدنى الذي ستطلبه السعودية قبل بدء أي حديث جدي عن اتفاقية سلام مع إسرائيل. النقطة الخلافية الثالثة المحتملة بين دول الخليج وترامب الجديد، هي الخلاف حول معدلات إنتاج الطاقة. ترامب يريد زيادة الانتاج الأميركي من النفط والغاز، وهو لن يحترم سقف الانتاج الذي تتفق عليه دول الأوبك، ما يعني أن أولويات ترامب الجديد في مجال الطاقة ستكون مختلفة، وربما جذرياً، عن أولويات دول الاوبك وأبرزها دول الخليج العربية.
عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض مع تصريحاته التي تعد تجسيداً جديداً لنزعات إمبريالية قديمة، ومحاولات لإعادة صياغة العلاقات الدولية وفق منطق الهيمنة والتوسع، تشير إلى سعيه لتعزيز صورة القيادة القوية عبر تهديداته غير التقليدية وخطاباته المثيرة. يظل تأثير هذه السياسات على الاستقرار العالمي مثار قلق حقيقي. الجدير بالذكر أن هذه المقاربة التوسعية، وإن كانت تهدف إلى تعزيز موقع الولايات المتحدة عالمياً، قد تنقلب على نفسها وتؤدي إلى تأجيج الصراعات الدولية وإضعاف التحالفات التقليدية لواشنطن.