ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
لم يحدث أن وجد رئيس أمريكي نفسه في مواجهة حزمة من الاتهامات والتحقيقات خلال أول شهر له في البيت الأبيض كما يواجه اليوم الرئيس دونالد ترامب تحقيقات منفصلة يقوم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ولجنتا الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس تتعلق بعلاقاته كرجل أعمال ومرشح رئاسي، وفريقه الرئاسي منذ انتخابه، بروسيا الاتحادية، وبمسؤولين روس، ورجال أعمال مقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وربما بعناصر في الاستخبارات الروسية. ومرة اخرى يكشف الاعلام الأمريكي عن اتصالات ولقاءات جرت بين السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك ووزير العدل الأمريكي جيف سيشنز في أيلول/سبتمبر حين كان عضوا في مجلس الشيوخ وأحد مسؤولي حملة ترامب الانتخابية، ولقاء عقد في برج ترامب في نيويورك في ديسمبر 2016 بين السفير كيسلياك ومستشار الأمن القومي آنذاك مايكل فلين، وصهر الرئيس الأمريكي وأحد أقرب مستشاريه جاريد كوشنر بهدف “إنشاء خط اتصال مفتوح في المستقبل” كما قال البيت الأبيض. وكل هذه الاتصالات المغلقة والسرية بين الروس والمسؤولين في حملة ترامب تم الكشف عنها عبر تسريبات من مسؤولين حكوميين سابقين أو حاليين يريدون إعلام الشعب الأمريكي بها، الأمر الذي يثير استياء الرئيس ترامب وغيره من المسؤولين في حملته. وتحدثت تسريبات المسؤولين في أجهزة الاستخبارات عن اتصالات مكثفة بين الطرفين رصدتها الاستخبارات وخاصة الاتصالات مع بول مانافورت مدير حملة ترامب لبضعة أشهر في السنة الماضية والذي كان يعمل مستشارا سياسيا للحكومة الأوكرانية السابقة الموالية لموسكو التي أطاحت بها الثورة الأوكرانية. ونسبت مجلة نيويوركر إلى أحد المسؤولين قوله “بعلمه أو دون علمه، كان مانوفورت دائما محاطا بعملاء الاستخبارات الروسية”. ما جرى في هذه الاجتماعات، ومن بادر بها، وما جرى خلال الاجتماعات التي عقدها مسؤولون في حملة ترامب وشخصيات روسية في عواصم أوروبية، خلال حملة المرشح ترامب كلها أسئلة لا تزال بحاجة إلى أجوبة.
التحقيقات جاءت في أعقاب ما يمكن وصفه بالحرب الالكترونية التي شنتها روسيا ضد النظام الانتخابي الأمريكي، حين اخترقت الاستخبارات الروسية نظام الاتصالات الالكترونية التابع للحزب الديمقراطي ورئيس حملة هيلاري كلينتون الإنتخابية جون بوديستا، وتسريب بعض المعلومات التي تظهر الحزب الديمقراطي وقادته بطريقة محرجة أو سلبية إلى منظمة ويكيليكس التي قامت بتوزيعها بطريقة انتقائية لوسائل إعلام روسية وأمريكية للإضرار بحملة كلينتون ومساعدة المرشح الجمهوري دونالد ترامب ضمنا. وكانت جميع أجهزة الاستخبارات الأمريكية البالغ عددها 17 جهازا قد أكدت في الخريف الماضي أن الاستخبارات الروسية، وبتوجيه من أعلى السلطات في موسكو، وهي إشارة ضمنية للرئيس بوتين، كانت متورطة في محاولة التأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية، أو على الأقل الكشف عن معلومات أو مشاكل يعاني منها النظام الانتخابي الأمريكي، لإظهار الديمقراطية الأمريكية بشكل محرج.
انتقام بوتين
ويعيش الرئيس ترامب وحتى قبل دخوله إلى البيت الأبيض في ظل الغيوم الروسية الداكنة التي ساهمت في تخبط البيت الأبيض في الأسابيع الأولى لولايته والذي أرغمه على إقالة مستشاره لشؤون الأمن القومي وأحد أقرب المساعدين له، مايكل فلين، والذي ضلل نائب الرئيس مايك بنس بشأن اتصالاته السرية مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك. وكان انتخاب ترامب قد قوبل بابتهاج عارم في الأوساط الرسمية والاعلامية الروسية، أولا لأن التدخل الروسي في الانتخابات كان يهدف منذ البداية إلى إلحاق الضرر بحملة كلينتون، حتى في المراحل الأولية للحملة الانتخابية التي بدت خلالها كلينتون وكأنها ستفوز بالرئاسة بسهولة. وساهم فوز ترامب المفاجئ بخلق مناخ احتفالي في روسيا لأن الوعود التي أعطاها فلين وربما غيره من المقربين من ترامب بعد فوزه للروس تمحورت حول إلغاء العقوبات التي فرضها الرئيس أوباما بعد الكشف عن التدخل الروسي في الانتخابات، والأهم من ذلك احتمال إعادة النظر بالعقوبات الأقسى التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون ضد موسكو بعد احتلالها وضمها لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا في 2014. ويكن الرئيس بوتين عداء قويا وقديما لهيلاري كلينتون وزوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وخلال وجودها في وزارة الخارجية انتقدت كلينتون انتهاكات بوتين لحقوق الإنسان، وأثارت غضبه حين طالبت في كانون الأول/ديسمبر 2001 بالتحقيق في التهم الموجهة لبوتين وحزبه بتزوير الانتخابات البرلمانية آنذاك، الأمر الذي اعتبره بوتين تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية الروسية. استياء بوتين القديم من الرئيس بيل كلينتون، سببه دعوة الرئيس الأسبق إلى توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتقريبه من حدود روسيا بعد انضمام الجمهورية التشيكية وبولندا وهنغاريا إلى الحلف. (اللافت هو أن جورج كينان، مهندس سياسة احتواء الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، كان قد حذر بيل كلينتون في 1997 من أن “توسيع الناتو سوف يكون أسوأ خطر مميت يرتكب في حقبة ما بعد الحرب الباردة”.)
الأجوبة الغائبة
ولا يكاد يمر يوم واحد دون أن تكشف كبريات الصحف والمجلات الأمريكية وشبكات التلفزيون عن تطورات جديدة في هذه العلاقات المتشعبة. وشهدت الأشهر الأخيرة منافسة مهنية رائعة نادرة الحدوث، خصوصا في السنوات الأخيرة، بين كبريات الصحف وتحديدا نيويورك تايمز وواشنطن بوست، وول ستريت جورنال ومجلات متميزة وأبرزها نيويوركر، ومواقع الكترونية مثل بوليتيكو التي تقوم بالتحقيقات الاستقصائية التي كشفت عن أوجه عديدة للعلاقات بين روسيا وعائلة ترامب وحملته الانتخابية وحكومته الجديدة. وهناك ارتباط عضوي، بين هذه التحقيقات التي كشفت من جملة ما كشفته اتصالات مايكل فلين بالسفير الروسي، والهجمات الشنيعة التي يشنها الرئيس ترامب ضد وسائل الاعلام والصحافيين الأمريكيين، حيث يفاخر الرئيس الأمريكي علنا بأنه في حالة حرب مع وسائل الاعلام التي يدعي أنها تفبرك الأخبار، وذلك دون أن يقدم أي دليل جدي بهذا الشأن.
الكشف عن اجتماع وزير العدل سيشنز بالسفير الروسي خلق عاصفة احتجاجات من المشرعين الديمقراطيين في مجلسي الكونغرس حيث سارع قادتهم بمن فيهم رئيس الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر، وزعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى مطالبة سيشنز بالاستقالة، لأنه لم يكن صادقا خلال جلسات الاستماع التي عقدت لمناقشة التصديق على تعيينه وزيرا للعدل حين نفى حدوث أي اجتماع بينه وبين مسؤولين روس، وهو ما فعله شفهيا وخطيا. وخلال الأسابيع الماضية طالب الديمقراطيون من وزير العدل إبعاد نفسه رسميا عن التحقيق الذي يقوم به مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) الذي تشرف عليه وزارة العدل، ولكنه وبدعم من البيت الأبيض كان يقاوم هذه الدعوات، ولكن مع ازدياد عدد الأصوات الجمهورية التي انضمت إلى الجوقة الديمقراطية وخاصة بعد الكشف عن اجتماعه بالسفير الروسي، اضطر سيشنز إلى النأي بنفسه رسميا عن هذه التحقيقات.
الرئيس ترامب ينفي الآن وجود أي مصالح مالية له في روسيا، أو أن يكون قد مُنح قروضا أو هبات مالية من أثرياء روس مقربون من بوتين، وهذه مسألة موضع تكهنات وشائعات كثيرة لا يمكن الجزم بها ويفترض أن تحسمها التحقيقات التي يمكن أن تؤدي إلى إرغام الرئيس ترامب أو مصلحة الضرائب الأمريكية (آي آر إس) على الكشف عن سجلاته الضريبية، وحجم ثروة وأملاك الرئيس. ولكن الرئيس ترامب أدلى بتصريحات متضاربة بهذا الشأن. وخلال زيارته لروسيا في 2013 كمسؤول عن مسابقة ملكة جمال الكون تطرق في مقابلة تلفزيونية إلى علاقته بالرئيس بوتين قائلا “لدي علاقة به، وأستطيع أن أقول لك أنه مهتم جدا بما نقوم به”. وفي خطاب لاحق ألقاه في نادي الصحافة الوطني، قال ترامب “لقد تحدثت بشكل مباشر وغير مباشر مع الرئيس بوتين، الذي لا يمكن له أن يكون ألطف مما كان معي”. ولكن ترامب تحدث بلغة مختلفة كليا عن بوتين خلال الحملة الانتخابية: “لم التق أبدا ببوتين، ولا أعرف من هو بوتين”، وكرر في مؤتمره الصحفي بعد تنصيبه أنه لا يملك أي أملاك أو مصالح في روسيا. ولكن هذا الموقف يتناقض مع ما قاله نجله دونالد جونيور في 2008 حين أكد أن هناك رأسمال روسي كبير مستثمر في مصالح وشركات ترامب.
وطغت اتصالات الوزير سيشنز مع السفير الروسي على ردود الفعل الايجابية بعض الشيء التي قوبل بها أول خطاب يلقيه ترامب أمام مجلسي الكونغرس، والذي تميز بنبرته الوفاقية، وإن عكس مضمونه مواقف ترامب إلى حد كبير. وبما أن الخطاب جاء متماسكا ومنضبطا وتحدث فيه ترامب للشعب الأمريكي عن مستقبل أفضل ومزدهر، فقد اعتبره بعض المعلقين “رئاسيا”وليس بعيدا عن المسلمات والمفاهيم الجمهورية التقليدية. وسعد البيت الابيض بردود الفعل الايجابية، ولكنها اضمحلت بعد 24 ساعة من الخطاب، لأن أخبار وزير العدل فرضت نفسها على نشرات وسائل الاعلام.
لا أحد يعلم إلى أين ستؤدي هذه التحقيقات في الكونغرس أو في أف بي آي، ولا أحد يستطيع استبعاد حدوث استقالات لمسؤولين كبار كما حدث مع استقالة مايكل فلين. ولكن ما يمكن قوله بثقة، هو أن التحقيقات الصحفية والتسريبات من المصادر الرسمية سوف تستمر، وسوف تزداد معها الضغوط على الرئيس ترامب ومساعديه للتعاون بشكل شفاف مع التحقيقات، أو محاولة عرقلتها ووضع العقبات أمامها كما فعل الرئيس ريتشارد نيكسون خلال التحقيقات في فضيحة ووترغيت في 1973-1974 قبل أن يضطر إلى الاستقالة في آب/أغسطس 1974. وهذا يعني أن الرئيس ترامب لن يستطيع التخلص من الغيوم الروسية الداكنة التي تخيم على البيت الأبيض وتهدد ولايته.