المواجهة العسكرية الحتمية بين روسيا وتركيا في سوريا، والتي توقعها بعض المحللين، قد حدثت يوم الأربعاء، وأدت إلى قتل 33 جندياً تركياً على الأقل. هذه الحادثة نقلت النزاع الدموي في سوريا إلى مستويات خطيرة غير معهودة، في الوقت الذي يسيطر فيه هاجس مكافحة وباء فيروس كورونا على واشنطن وغيرها من العواصم الأوروبية المعنية بالنزاع السوري.
جاء هذا التطور النوعي على خلفية تصاعد مروّع للمأساة الانسانية التي تشهدها محافظة إدلب، حيث قتل 300 منهم، ونزوح حوالي مليون مدني، معظمهم من النساء والأطفال، تجاه الحدود التركية منذ بدء الحملة العسكرية للنظام السوري للسيطرة على آخر معقل للمعارضة المسلحة في البلاد في ديسمبر/ كانون الاول الماضي. قرى محافظة إدلب ومخيمات اللاجئين فيها مكتظة بالنازحين الجدد، حيث ينام عشرات اللالاف منهم في العراء وتحت الاشجار خلال شتاء قارص، مما أدى إلى قتل أطفال ومسنّين، وجعل هذه الموجة الأخيرة من النازحين السوريين الأسوأ بين غيرها من الموجات التي سبقتها منذ بدء الحرب السورية.
رد الفعل التركي الأولي على مقتل الجنود الأتراك، الذي يعتبر نكسة عسكرية ومحرجة سياسيا للرئيس رجب طيب اردوغان ولطموحاته في سوريا، كان سريعا، ولكن محدودا. تمثل في قصف صاروخي لأهداف تابعة للجيش السوري في محيط مدينتي حماة واللاذقية (التي ترابط فيها قوات روسية)، صاحبها عقد اجتماع طارئ للأجهزة الأمنية التركية برئاسة أردوغان لمراجعة الخيارات التركية.
اللافت هو أن تركيا لم توجه اتهاماً مباشراً لروسيا بأن طائراتها هي التي اغارت على المواقع التركية، لأنها لا تريد التورط في حرب مع روسيا، ولكن الطيران الروسي يقوم بقصف دوري لمواقع المعارضة وضد الأهداف المدنية، بما فيها المستشفيات في محافظة إدلب، بينما لا يوجد هناك أي دور جدي للطيران السوري في هذه المناطق. أيضا رد الفعل الروسي الأولي كان مصمماً لاحتواء الوضع. موسكو قالت إن قواتها الجوية لم تقم بأي غارات في المنطقة التي تعرضت فيها القوات التركية للقصف، ولكن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وجه اللوم إلى تركيا، لأنها لم تُعلم روسيا مسبقاً بأماكن انتشار قواتها في شمال سوريا، وفقا للتفاهم العسكري بين البلدين في 2018، الذي يشمل أيضا انتشار القوات التركية في اماكن مراقبة محددة في المنطقة. ولكن وزير الدفاع التركي خلوصي آكار نفى ذلك قائلا “حدث الهجوم على الرغم من أن أماكن انتشار قواتنا كانت منسقة مع المسؤولين الروس في الميدان”.
إن التظاهرات التركية ضد روسيا، وإعلان روسيا عن تعزيز قواتها البحرية قبالة السواحل السورية، من خلال ايفاد فرقاطتين مزودتين بالصواريخ الموجهة من أسطولها في البحر الأسود وعبر مضيق البوسفور التركي، أبرز إلى العلن حقيقة التوتر العميق بين البلدين، بسبب التضارب الصارخ لمصالحهما الاستراتيجية في سوريا، والذي لم تلغيه محاولات الرئيس أردوغان تحسين علاقاته مع روسيا على المستويين السياسي والعسكري خلال السنوات الثلاثة الماضية.
الاتصال الذي جرى بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب الحادث قد يؤدي إلى احتواء الأزمة، والسماح لتركيا بأن تدعي أن القوات النظامية السورية هي التي قصفت المواقع التركية، وأن القوات التركية ستعاقبها. هذا الأمر سيؤجل وقوع حوادث مماثلة في المستقبل القريب، ولكنه لن يحل مشكلة تناقض مصالح البلدين في شمال سوريا. فهناك تصميم روسي على مساعدة قوات النظام السوري وحليفته إيران في استعادة السيطرة العسكرية على محافظة إدلب، يقابله تصميم تركي على السيطرة على شريط حدودي اقامته تركيا –بمباركة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب – لمنع التنظيمات الكردية السورية من السيطرة على شمال سوريا، وتحديدا “وحدات حماية الشعب” التي تحالفت معها واشنطن لمحاربة تنظيم داعش، والتي تتهمها تركيا بأنها تابعة لحزب العمال الكردي الناشط في تركيا، والمصنف تنظيماً إرهابياً من قبل أنقرة وواشنطن.
سياسيا، اتسم الرد التركي على النكسة العسكرية التي تعرضت لها، بالتناقض السافر الذي ميز علاقتها بالغرب في السنوات الأخيرة من ولاية أردوغان: ابتزاز الغرب وطلب مساعدته في الوقت ذاته. فجأة أعلن المسؤولون الأتراك انهم عاجزون عن منع اللاجئين السوريين من منطقة إدلب من الوصول إلى أوروبا عبر الطرق البرية والبحرية، وهو ما كانت تقوم به قوات الحدود وخفر السواحل التركية قبل التطورات الأخيرة. وكان الرئيس أردوغان يهدد دوماً بتغطية أوروبا بطوفان من اللاجئين السوريين، وغيرهم من الذين يستخدمون الأراضي والمياه الإقليمية التركية للعبور إلى اليونان ومنها إلى أوروبا، وذلك في حال لم تساعد أوروبا تركيا مالياً على تحمل أعباء اللاجئين، أو إذا لم يؤيدوا مطالبه السياسية في سوريا. بثت شبكات التلفزيون التركية يوم الجمعة صوراً للاجئين في طريقهم إلى الحدود البرية مع اليونان أو وهم يركبون الزوارق في بحر أيجة متوجهين إلى مرافئ اليونان.
خلال سنوات النزاع السوري، قام أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، وحتى بعض المسؤولين في لبنان، بمحاولة ابتزاز أوروبا، من خلال التهديد بفتح طوفان بشري ضد أوروبا إذا لم تنفذ بعض مطالبهم. الاستغلال التركي السافر للاجئين السوريين ولمعاناتهم يبين إلى أي مدى أردوغان مستعد للذهاب لخدمة طموحاته في سوريا. روسيا وقوات الأسد تقصف وتقتل الجنود الاتراك الذين اجتاحوا سوريا، ولكن من سيدفع ثمن سفك هذه الدماء هى مجتمعات واقتصاديات دول أوروبا، بما في ذلك ردود الفعل الشوفينية والعنصرية، وبروز الأحزاب اليمينية المعادية للاجئين والمهاجرين، إضافة إلى الثمن الذي يدفعه دائما المدنيون السوريون.
في الوقت ذاته، طالب المسؤولون الأتراك في الأسابيع الماضية، قبل الأحداث الأخيرة، بوقوف دول حلف الناتو وراء تركيا، التي تملك ثاني أكبر جيش في الحلف، ودعم سياساتها وأهدافها في سوريا. وعلى الرغم من مباركة الرئيس ترامب للاجتياح التركي لشمال سوريا، وتعاطفه مع رغبة أردوغان في إقامة “منطقة عازلة” في شمال سوريا، إلا أن وزارة الدفاع الاميركية ودول حلف الناتو لم تبد أي حماس أو تأييد للأهداف التركية في سوريا. وهذا ما يفسر رد الفعل الاوروبي والأميركي الفاتر عقب مقتل الجنود الأتراك.
الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج قدم تعازيه لأهالي الضحايا الأتراك، وأدان هجمات روسيا وسوريا ضد القوات التركية وحضهم على وقفها. الولايات المتحدة أعربت عن قلقها العميق جراء الهجمات، وأعلنت في بيان لوزارة الخارجية وقوفها إلى جانب تركيا، قائلة “تركيا حليفتنا في الناتو، ونواصل دعواتنا لوقف فوري لهذه الحملة المشينة التي يشنها نظام الاسد والقوات الأخرى المدعومة من روسيا وإيران”. حتى الآن لم تطلب تركيا تنفيذ البند الخامس في الحلف -والقائل بأن تعرض أي عضو في الحلف لهجوم خارجي، فإن الحلف سيرد وكأن جميع دوله تعرضت للهجوم – لأنها تدرك أن الحلف سيخذلها.
قواعد الحلف للتدخل العسكري واضحة، وهي تنص بوضوح على الرد على أي اعتداء خارجي، وليس ضد أي هجوم بغض النظر عن مكان وقوعه. القوات التركية التي لقيت مصرعها في سوريا، هي خارج تركيا، وتقوم بمهام لا علاقة للحلف بها، عدا عن الطرف الذي نفذ الهجوم، روسيا، وهي الدولة التي اعترض الحلف بقوة على تزويدها لتركيا بمنظومة صاروخية مضادة للطائرات من طراز SS400.
في الأسابيع والأشهر الماضية، وجد الرئيس أردوغان نفسه في موقع غريب. بعد ثلاثة سنوات من التقرب من روسيا و “شيطنة” الولايات المتحدة في الاعلام والمجتمع التركي، ومحاربة القوى السورية التي تحالفت معها واشنطن لهزيمة تنظيم داعش، وبعد إنفاقه حوالي ملياري دولار لشراء منظومة الصواريخ الروسية SS400، المصممة لإسقاط طائرات حلف الناتو، وجد أردوغان نفسه يطلب من واشنطن تزويده بصواريخ مضادة للطائرات من طراز باتريوت. شراء منظومة الصواريخ الروسية، تسبب في خلق أزمة كبيرة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وأدى إلى طرد تركيا من فريق الدول التي ستشارك في تطوير وصناعة طائرة F-35، التي تعتزم دول الحلف تطويرها واستخدامها في قواتها الجوية. وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر انتقد اجتياح تركيا لشمال سوريا بشكل مباشر وقوي، وقال إن تركيا تسير في الاتجاه الخاطئ، كما انتقد أسبر بشدة قرار تركيا شراء الصواريخ الروسية، متهماً إياها بالخروج “من فلك الناتو”، والتقرب من روسيا على حساب الحلف.
الخلاف بين واشنطن وأنقرة حول الصواريخ الروسية، هو من بين اسباب عديدة ساهمت في تأزيم العلاقات بين البلدين، من بينها أيضا الخلاف بين البلدين حول طلب تركيا استرداد الداعية الاسلامي فتح الله جولن، الذي لجأ الى الولايات المتحدة، واتهام تركيا لجولن ولمواطنين اميركيين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة أردوغان في 2016، وهو اتهام لا أساس له من الصحة. إضافة إلى غضب تركيا من التحالف بين واشنطن وأكراد سوريا. وفي السنوات الاخيرة، ومع اعتماد أردوغان لسياسات خارجية متعاطفة مع الحركات الإسلامية في المنطقة، وتحديداً الاخوان المسلمين في مصر، وحركة حماس في قطاع غزة، والتعاون الوثيق السياسي والعسكري مع دولة قطر، التي تدعم بدورها الحركات الاسلامية، ومع جنوح أردوغان أكثر فأكثر للممارسات الأوتوقراطية، مثل قمع حريات الصحافة والتعبير، ازدادت الانتقادات من الحكومة الأميركية ومن الإعلام الأميركي لأردوغان وسياساته المضرة.
يجد الرئيس أردوغان نفسه الآن وحيداً في مواجهة فلاديمير بوتين في سوريا. هذه مواجهة لا يستطيع أردوغان تحمل تبعاتها. ولكن أردوغان وحده مسؤولاً عنها. التوتر الروسي-التركي، الذي سيستمر بغض النظر عن المحاولات الآنية لاحتوائه يجب ألا يمنعنا من رؤية الحقيقة الجوهرية والمؤلمة في سوريا، وهي أن القوى المتصارعة على الأرض، النظام السوري وروسيا وإيران وتركيا، كلها مسؤولة عن إطالة معاناة المدنيين السوريين، وأن أفضل نهاية لعذاب سوريا، هي في هزيمة كل هذه القوى التي حولت سوريا الى أرض خراب، وشردت شعبها في جميع أنحاء العالم.