بعد شهرين من بداية الحملة العسكرية الأوكرانية المضادة للقوات الروسية، أصبح من الواضح أن التوقعات العالية والآمال الكبيرة التي علقها الأوكرانيون وحلفائهم الغربيون عليها لم تتحقق إلا جزئيا، وبعد دفع ثمن غال لها. الخسائر فادحة في صفوف العسكريين، على الرغم من أن المسؤولين الأوكرانيين لا يكشفون حجم خسائرهم، ولكنها بالآلاف وفقًا للمحللين الاستراتيجيين. وبينما كان الأوكرانيون يحضّرون لحملتهم والتدريب على معداتهم الجديدة، مثل الدبابات والعربات المسلحة التي وفرتها الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، كانت القوات الروسية أيضًا تبني دفاعاتها المتشعبة، مثل زرع حقول واسعة بالألغام، وإقامة المتاريس الدفاعية المضادة لتقدم الدروع، وحفر الخنادق العميقة على جبهة تمتد لمئات الأميال لمنع القوات الأوكرانية من تحقيق أي اختراق كبير في شرق أو جنوب الجبهة بهدف عزل شبه جزيرة القرم عن روسيا، وهو أحد أهم أهداف الحملة المضادة.
هذا الجمود الميداني، أرغم المخططين العسكريين في كييف وفي العواصم الغربية على إعادة النظر بتوقعاتهم وخططهم، ودفع ببعضهم للدعوة إلى تكثيف تسليح وتدريب الأوكرانيين لتحقيق اختراقات نوعية هامة في حملة عسكرية مضادة في ربيع 2024، ما يعني عمليًا أنه لا الطرفين المتقاتلين، ولا العواصم التي تدعمهما، يتوقعون أي نهاية قريبة للحرب. هذا الوضع الجديد، أدى إلى تعميق مشاعر الإحباط داخل أوكرانيا بشكل غير معهود منذ بداية الحرب قبل عام ونصف. وفي الأيام والأسابيع الماضية قارن بعض الخبراء العسكريين والمؤرخين بين معارك الاستنزاف التي جرت على طول جبهة خنادق ثابتة إلى حد كبير، بحرب الخنادق التي تميزت بها الجبهة الغربية للحرب العالمية الأولى بين القوات الفرنسية والبريطانية من جهة، والقوات الألمانية من جهة أخرى، وأدت إلى معارك رهيبة بشراستها وخسائرها لم تشهدها الحروب التي سبقت تلك الحرب، مثل معركتي فردان (Verdun) والسوم (Somme) في عام 1916 في فرنسا، استمرت معركة الخنادق في فردان لعشرة أشهر، وأدت إلى سقوط 143 ألف جندي ألماني، و162 ألف جندي فرنسي.
خلال معركة مدينة باخموت (Bakhmut) الأوكرانية بين شهري ديسمبر/كانون الأول 2022 ومايو/أيار 2023، تكبدت روسيا خسائر بشرية وصلت إلى 100 ألف وفقًا لتقديرات الاستخبارات الأميركية من بينها 20 ألف قتيل. قارن رئيس مكتب الرئيس الأوكراني أندريه ييرماك (Andriy Yermak) معركة باخموت بمعركة فردان. وصف أحد المحللين العسكريين باخموت بأنها “فردان بوتين”. ومع أنه لا توجد أرقام محددة لحجم الخسائر الأوكرانية في هذه المعركة، إلا أنه من المرجح أن تكون الخسائر الأوكرانية مماثلة للخسائر الروسية إن لم تكن أعلى، لأن الطرف المهاجم عادة يتكبد خسائر أعلى إذا كان يهاجم أهدافًا محصنة أو خنادق.
ولكن وفقًا لمصادر طبية أوكرانية وألمانية، فإن بعض الأرقام حول الخسائر الأوكرانية مذهلة. وتقدّر احدى الشركات الألمانية التي تصّنع الأوصال الاصطناعية للجنود الأوكرانيين، أن عدد الجنود الذين خسروا أوصالهم في المعارك يصل إلى حوالي 50 ألفًا. وتقدّر مؤسسة رعاية طبية في كييف عدد المصابين بجراح خطيرة بحوالي 200 ألف جريح. خلال الحرب العالمية الأولى، تعرّض 67 ألف جندي ألماني و41 ألف جندي بريطاني لعمليات بتر. في المقابل وصل عدد الجنود الأميركيين الذين تعرضوا لعمليات بتر في حربي أفغانستان والعراق إلى ألفين.
وتعتبر حقول الألغام الواسعة والعميقة التي زرعتها القوات الروسية أمام خنادقها من أهم العقبات التي اعترضت القوات الأوكرانية في حملتها المضادة، ما كلفها خسائر بشرية ومعدات متطورة استلمتها من دول حلف الناتو، وخاصة في الأسابيع الأولى للحملة. هذا الوضع أرغم المخططين الأوكرانيين على نشر طواقم من المهندسين والاخصائيين مؤلفة من أربعة أفراد لنزع الألغام يدويًا خلال الليل لتفادي نيران القناصة الروس خلال النهار حيث تحلق المسيرات الروسية بكثافة فوق خطوط الجبهة الطويلة.
في الأيام والأسابيع الماضية تطرق المراسلون الأميركيون المنتشرون في أوكرانيا إلى مشاعر الرأي العام الأوكراني، وكذلك إلى المسؤولين المدنيين والعسكريين في كييف بعد شهرين من حرب استنزاف مكلفة لم تغير نوعيًا من طبيعة القتال، على الرغم من أن أوكرانيا لم تستخدم في الحملة المضادة معظم قواتها جيدة التدريب التي خصصتها للحملة المضادة، وذلك في الوقت الذي يعيد فيه المخططون النظر في خططهم الأولية، ومحاولة التأقلم مع الوضع الميداني الجديد. التقويم السائد في التقارير الصحفية الأميركية هو أن هناك حالة إرهاق عميقة في أوساط الأوكرانيين بعد عام ونصف من القتال، زاد من حدتها وتشاؤمها الجمود الميداني الذي لم يتوقعه العديد من الأوكرانيين، الذين اعتقدوا أن قواتهم سوف تحقق انجازات ميدانية سريعة، كما فعلت في آخر حملة مضادة حين طردت قوات الاحتلال من مدن مثل خاركيف وخيرسون. بعض الانجازات الباهرة والموثقة بالصور، مثل إصابة وتعطيل سفينة حربية روسية، أو تعطيل الجسر الاستراتيجي الذي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم، ترفع معنويات الأوكرانيين بعض الشيء، ولكنها لا تمثل انجازات عسكرية ثابتة يمكن أن تؤثر على مجمل العمليات القتالية.
وفي مؤشر حول التحديات التي تخلقها الحروب، وخاصة في دول لا تزال تناضل لبناء مؤسساتها وتقاليدها الديموقراطية وما يصاحب ذلك من مسائلة وشفافية، أعلن الرئيس الاوكراني فلودومير زيلينسكي قبل أيام عن خطة جذرية في مكافحته للفساد حين طرد عددًا من المسؤولين البارزين عن عمليات التجنيد العسكري من المشتبه بحصولهم على رشاوى، وآثروا أنفسهم بالحصول على موارد الدولة، وتبييض الأموال، أو قاموا بتهريب مواطنين عبر الحدود لتفادي الخدمة العسكرية. هذه الخطوة، تؤكد مخاوف بعض المشرعين الأميركيين الذين يطالبون منذ بدء الحرب، برقابة وإشراف أكبر على كيفية إنفاق واستخدام المساعدات الأميركية المالية والعسكرية، وضمان عدم إساءة استخدامها لأغراض شخصية.
تعثر الحملة المضادة، وإن أثّر على معنويات الأوكرانيين، إلا أنه لم يؤد إلى إضعاف الوحدة الوطنية في البلاد بشكل جذري، ولكن أصبح من الواضح أن الحرب لن تنتهي في أي وقت قريب، إلا إذا حدث تغيير مفاجئ داخل روسيا، أو قررت دولة نافذة مثل الصين إلى تعديل سياستها جذريًا تجاه الحرب، وقررت تزويد روسيا بمعدات عسكرية نوعية.
قبل الحملة المضادة، كان هناك شبه اجماع في أوساط المحللين الاستراتيجيين أن روسيا لن تحقق انتصارًا استراتيجيًا واضحًا ونهائيًا في أوكرانيا، وإن اوكرانيا، إذا تلقت الدعم العسكري الذي تحتاجه من الغرب، يمكن أن تحقق اختراقات عسكرية كبيرة قد ترغم الرئيس الروسي بوتين على القبول بحل تفاوضي. ولكن الجمود الميداني الراهن، وخاصة إذا استمر خلال الأسابيع القليلة المقبلة قبل أشهر الخريف والشتاء، أثار وسوف يثير الكثير من الأسئلة في أوساط المسؤولين السياسيين والعسكريين في الدول الغربية التي تدعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، حول كيفية إنهاء الحرب وبأي شروط.
يقول بعض المحللين العسكريين ومعهم مسؤولين في أوكرانيا إن أحد أسباب تعثر الحملة المضادة يعود لعدم توفر غطاء جوي أوكراني يوفر الحماية العسكرية للقوات الأوكرانية البرية، ولأن دول حلف الناتو، ومن بينها الولايات المتحدة، إما ترددت أو تأخرت في توفير بعض الأنظمة العسكرية المتطورة والضرورية للحملة المضادة مثل الطائرات الحربية، والدبابات والصواريخ ذات المدى المتوسط وغيرها. يقول المحللون العسكريون إن القوات الأميركية لا يمكن أن تقوم بهجوم مضاد مماثل لما تقوم به أوكرانيا حاليًا دون غطاء جوي مكثف وفعّال.
وعلى الرغم من المساعدات العسكرية الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، هي ودول حلف الناتو، والتدريبات العسكرية لألاف العناصر العسكرية الأوكرانية منذ بداية الحرب، إلا أنه من الصحيح أيضا أن الرئيس بايدن، وقادة آخرين في حلف الناتو، مثل المستشار الألماني أولاف شولتز وغيرهما، تأخروا في تزويد أوكرانيا بما تحتاجه من السلاح المتطور. الرئيس بايدن عارض في البداية تزويد أوكرانيا بدبابات آبرامز M1A1، كما تأخر بالسماح للحلفاء الأوروبيين بتزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة أميركية الصنع من طراز أف-16 أو بالصواريخ متوسطة المدى، بحجة أن مثل هذا التسليح النوعي لأوكرانيا قد يدفع بالرئيس بوتين إلى تصعيد نوعي للقتال، أو أن القوات الأوكرانية قد تستخدم هذه الأسلحة لمهاجمة الأراضي الروسية.
استمرار الجمود الميداني الراهن، يعني أن وتيرة العمليات العسكرية سوف تنخفض مع حلول أشهر الشتاء الباردة، على خلفية التساؤلات والمخاوف في دول حلف الناتو حول قدرة واستعداد شعوب واقتصادات هذه الدول على مواصلة تمويل حرب استنزاف مكلفة لا يبدو في الأفق القريب أي حل لها. استمرار حرب الاستنزاف سوف يدفع بالسياسيين أو الناشطين في هذه المجتمعات إلى المطالبة بالسعي المكثف لحل تفاوضي أو تقليص حجم المساعدات لأوكرانيا. وهذا ما سيحدث في تلك الدول التي تقترب من انتخابات تشريعية أو رئاسية، ومن أبرزها الولايات المتحدة.
حتى الآن لا يزال هناك تأييد هام في أوساط الحزبين الديموقراطي والجمهوري لمواصلة الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي والمالي لأوكرانيا. هذا الدعم قوي في أوساط الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ولكن نسبة الدعم أقل في أوساط الجمهوريين في مجلس النواب، كما أن القاعدة الجمهورية التي تدعم الرئيس السابق دونالد ترامب، فإنها مثله تريد وقف هذا الدعم، الأمر الذي سيؤثر جذريًا على قدرة أوكرانيا على مواصلة القتال لتحرير أراضيها.
خلال سنة ونصف من القتال الضاري، أثبت الأوكرانيون إرادتهم القوية في الدفاع عن وطنهم، وأظهروا قدرة كبيرة على التأقلم مع متطلبات حرب شاملة ضد دولة تملك موارد بشرية ومادية كبيرة وترسانة عسكرية ضخمة تشمل السلاح النووي. ولكن أوكرانيا دفعت ثمنًا فادحًا لهذا الصمود، بعض مدنها مثل ماريوبول وباخموت تحولت إلى ركام، وجزء هام من أراضيها الزراعية التي هي عصب اقتصادها إما أصبحت غير منتجة أو تحولت إلى مزارع للألغام، كما أن خسائرها الديموغرافية زادت عن خمسة ملايين مواطن. وحتى في حال تحقيق أوكرانيا لاختراق عسكري جذري، في الربيع المقبل، فإن مستقبلها سوف يكون محفوفًا بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الضخمة. من سيساهم في إعادة بناء أوكرانيا؟ وهل ستستطيع مواصلة مسيرتها الديموقراطية بعد الضربات التي تعرض لها المجتمع الأوكراني؟ وما الذي يمكن أن تتوقعه أوكرانيا – وحلف الناتو – إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض. قد يكون هذا الاحتمال صعبًا، ولكنه ليس مستحيلًا. الأوكرانيون يدركون أن هذه الأسئلة تطرح الآن، وسوف تزداد وتيرتها في الأشهر المقبلة.
ما نعلمه ببعض اليقين هو أن الرئيس بوتين، حين أمر قواته غزو أوكرانيا، وضع بلاده وأوكرانيا وأوروبا، وحتى العالم، على طريق مجهول وغير موجود على أي خريطة، ولا أحد يعلم – بمن في ذلك بوتين نفسه – كيف ستنتهي هذه الحرب وفي أي وقت؟ وما هي كلفتها البشرية والمادية النهائية؟ ولا نعلم ما إذا كان المسؤولون عن هذا الخراب الكبير في قلب أوروبا سوف يدفعون ثمن مغامرتهم بأرواح الملايين من المدنيين، وبمصير ومستقبل مجتمعات بكاملها، أم انهم سيفلتون من العقاب ويضعون اللوم على الأخرين، وتحميلهم مسؤولية جرائمهم ضد الإنسانية.