قبل أقل من أربعين يوما من انعقاد أول انتخابات حزبية في ولاية آيوا لاختيار مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة، حيث تؤكد جميع استطلاعات الرأي أن الرئيس السابق دونالد ترامب متقدم وبمسافة كبيرة على جميع منافسيه، دقت جوقة كبيرة من الأميركيين من خلفيات سياسية وأيديولوجية مختلفة من سياسيين جمهوريين سابقين، وحقوقيين ومحللين وصحفيين ومسؤولين أمنيين متقاعدين ناقوس الخطر حول الاحتمالات الحقيقية لإعادة انتخاب الرئيس السابق ترامب لولاية جديدة، مع ما يحمله ذلك برأيهم من خطر وشيك وداهم على مستقبل النظام الديموقراطي الأميركي، والسلم الأهلي ومكانة الولايات المتحدة في العالم.
وعلى الرغم من عدم وجود تسليم واسع في أوساط هؤلاء القلقين بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، إلا إنهم ينظرون بقلق مبرر إلى نجاحه في السنوات الماضية في تحويل الحزب الجمهوري إلى ما يشبه طائفة دينية تدين له بولاء شامل، وإلى مختلف المؤشرات السياسية والانتخابية التي تقول بأنه المرشح المحتمل للحزب. ما يقلق هؤلاء أيضًا، إضافة إلى عدد متزايد من الديموقراطيين، هو الانحسار المستمر في شعبية الرئيس بايدن، في أوساط مختلف شرائح الناخبين الديموقراطيين، الذين لا يمكن لبايدن البقاء في البيت الأبيض دون الحصول على دعمهم: الناخبون الشباب والأميركيين من أصل أفريقي والنساء، والناخبون المسلمين والأميركيين من أصل عربي، وغيرهم من الذين أوصلوا بايدن إلى البيت الأبيض في 2020. وتوضح استطلاعات الرأي أن نسبة الأميركيين الذي يوافقون على أداء الرئيس بايدن قد انحسرت إلى ما دون الأربعين في المئة، وهي النسب التي حظي بها جميع الرؤساء الأميركيين الذي أخفقوا في التجديد لأنفسهم لولاية ثانية من الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى الرئيس السابق دونالد ترامب.
ولم تقتصر التحذيرات من خطر عودة ترامب على المحللين الأميركيين، بل شملت أصوات خارجية هامة مثل مجلة الايكونوميست البريطانية، ذات النفوذ الواسع، والتي حذرت في الشهر الماضي من أن إعادة انتخاب ترامب تعني أنه سيصبح “أكبر خطر” في العالم في 2024. وأضافت المجلة أن مصير العالم يتوقف على أصوات عشرات الآلاف من الناخبين الأميركيين في عدد من الولايات المحورية في الانتخابات المقبلة. وتابعت إن “الخطر الأكبر” الذي يمثله ترامب سوف يكون على بلاده، لأن “السلطة الاخلاقية” للولايات المتحدة سوف تنحسر “لأن أميركا سوف تصوت له بينما تعرف الأسوأ”.
وفي الأيام الماضية، انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية ومراكز الأبحاث في البلاد بالعدد الخاص لمجلة ذي أتلانتك، وهي من أبرز المطبوعات الأميركية، والتي طلبت من 24 كاتب ومحلل أن يتوقعوا ما يمكن أن يفعله دونالد ترامب إذا عاد إلى البيت الأبيض في مجالات اختصاصهم الداخلية والخارجية المختلفة. اجماعهم المدّوي هو أن ترامب سيكون أسوأ بكثير مما كان عليه في ولايته الأولى. كما انشغلت هذه الأوساط بكتاب النائبة الجمهورية السابقة اليزابيث تشيني، وهو مزيج من المذكرات وتحذير صارخ من خطر إعادة انتخاب ترامب، التي ترى أنه سيكون بمثابة نهاية الديموقراطية الأميركية، وترسيخ حكم أوتوقراطي يقوض الدستور وجوهر نظام الحكم الأميركي، لأن ترامب برأيها سوف يظل في البيت الأبيض بقية حياته. من جهتها تواصل صحيفة نيويورك تايمز نشر سلسلة من التحقيقات الشاملة حول خطط ترامب لولاية ثانية، يحقق فيها طموحاته وينفذ فيها سياساته المتطرفة، مثل الانسحاب من حلف الناتو، واستخدام وزارة العدل لمعاقبة خصومه السياسيين، وهي سياسيات نجح بعض مساعديه في ولايته الأولى في اقناعه بعدم تنفيذها أو بإحباطها بطرقهم الخاصة.
خلال الأسابيع والأيام الماضية، تحدث ترامب في مهرجاناته الانتخابية وتعليقاته على منصة “تروث سوشال” وهي وسيلة الاتصال الاجتماعي الخاصة به، بصراحة بالغة حول ما يعتزم تحقيقه في ولايته الثانية في حال إعادة انتخابه، انطلاقًا من حماية مصالحه الخاصة، مثل تقويض وإلغاء الدعاوى الفيدرالية المرفوعة ضده، والانتقام من أعدائه الكثيرين الحقيقيين والمتخيلين، والتخلص مما يسميه “الدولة العميقة” عبر طرد آلاف الموظفين والمهنيين، واستبدالهم بموظفين موالين له شخصياً. وإذا كان ترامب قد أخفق في تحقيق انقلابه في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، فإنه هذه المرة سوف يقوم بشكل تدريجي ومنظم بانقلاب أوتوقراطي يعتقد أنه سينجح في فرضه، لأنه هذه المرة أصبح ملمًا أكثر بتعقيدات النظام السياسي والبيروقراطي الأميركي، ولن يخطئ كما فعل في المرة الأولى حين عيّن وزراء ومساعدين بارزين معروفين باستقلاليتهم أو النزعة الأخلاقية، مثل وزيري الدفاع والخارجية السابقين الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وريكس تيليرسون، أو كبير موظفي البيت الأبيض الجنرال المتقاعد جون كيلي، وغيرهم من المسؤولين البارزين، الذين إما استقالوا احتجاجًا على سياساته أو أقالهم ترامب من مناصبهم.
يريد ترامب العودة إلى البيت الأبيض ليمحو عار هزيمته في 2020، والأهم من ذلك ضمان عدم دخوله إلى السجن، وهو الذي يواجه 91 تهمة مختلفة في مدينتي نيويورك وواشنطن، وولايتي جورجيا وفلوريدا. وكما كان للرئيس ريتشارد نيكسون في سبعينات القرن الماضي “قائمة بأسماء أعدائه” من سياسيين وصحفيين، فإن لترامب قائمة مماثلة، وإن كان لا يعطيها الاسم ذاته. ففي أحد خطبه النابية، وعد ترامب بتدمير أعدائه في “الدولة العميقة”، وغيرهم من “المحرضين على الحروب” و”دعاة العولمة”، وغيرهم من “الشيوعيين والماركسيين والفاشيين”، وما أسماه “الطبقة السياسية المريضة التي تكره بلادنا”، وأخيرًا ما يمكن وصفه بأعدائه المفضلين: الصحفيين والمعلقين والاعلاميين بشكل عام. وقبل أيام، وخلال حوار أمام جمهور مؤيد، طرح الاعلامي اليميني والمتعاطف مع ترامب شون هانيتي (Sean Hannity) على الرئيس السابق سؤالًا حول ما إذا كان مستعدًا ليؤكد أنه لن يتصرف “كدكتاتور” في حال إعادة انتخابه، ضحك ترامب وقال “نعم باستثناء اليوم الأول”، وقال إنه سيقوم بإغلاق الحدود مع المكسيك، والبدء الفوري بالتنقيب عن المزيد من النفط (بغض النظر عن الاعتبارات البيئية).
وفي مؤشر على خطورة وشمولية الانقلاب الذي سيقوم به ترامب، كشفت مصادر مقربة منه إن مؤسسة الأبحاث اليمينية هيريتاج فاونديشن قد حضّرت لحملته الانتخابية دراسة من 900 صفحة حول كيفية فرض السيطرة الكاملة على الدولة الإدارية، واخضاعها لسلطة الرئيس. وتوصي المؤسسة “وزارة العدل بأن تستخدم كل ما لديها من وسائل للتحقيق بالتسريبات الصحفية، بما في ذلك الاستيلاء على الرسائل الالكترونية للصحفيين وسجلات مكالماتهم الهاتفية”، وهي ممارسات مخالفة للقوانين.
وسوف يؤدي فوز ترامب بولاية جديدة، برأي العديد من الحقوقيين إلى أزمة دستورية خطيرة لم تشهدها البلاد حتى خلال فترات الحروب، بما فيها الحرب الأهلية، أو فترات العنف المدني، لأن الرئيس سيكون إما محكومًا عليه بعقوبات فيدرالية، أو لا يزال ماثلًا أمام المحاكم. ويتساءل هؤلاء كيف يمكن لمثل هذا الرئيس أن يدلي بقسم اليمين الذي يملي عليه أن يدافع عن الدستور، وهو الذي سيكون في حالة انتهاك للدستور؟ وكان ترامب في السابق قد قال إنه سيقوم بالعفو عن نفسه إذا صدرت بحقه أحكام قضائية، وهذه مسألة لا يوجد هناك اجماع حولها بين الحقوقيين. وما الذي سيحدث إذا صدرت أحكام ضد ترامب وهو في البيت الأبيض، بما فيها أحكام من ولايتي فلوريدا وجورجيا، وهي أحكام – بعكس الأحكام الفيدرالية – لا يستطيع الرئيس تجاهلها؟
عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستؤدي إلى استئناف سياساته المتشددة ضد المهاجرين أو طالبي اللجوء السياسي، بما في ذلك تكثيف عمليات ترحيل المهاجرين غير الموثقين، كما تعهد مؤخرًا، إضافة إلى فرض قيود متشددة على دخول رعايا بعض الدول ذات الأكثرية المسلمة.
على الصعيد الخارجي، سيقوم ترامب في ولايته الثانية بتحقيق ما عجز عنه في ولايته الأولى، وخاصة لجهة سحب الولايات المتحدة من حلف الناتو. الدستور الأميركي يعطي مجلس الشيوخ صلاحية إبرام المعاهدات الدولية، ولكنه ليس واضحا لجهة الانسحاب منها. وحتى لو تم انتخاب مجلس شيوخ ديموقراطي في 2024، وحاول عرقلة قرار ترامب، فإن مجرد إعلان ترامب عن رغبته بالانسحاب من الحلف، وتعليق المشاركة الأميركية في أعماله ومداولاته، سوف يؤدي إلى تحييد الحلف، لأن أعضائه سوف يفقدون الثقة بالولايات المتحدة، وسوف يدفع قرار ترامب أعضاء الحلف إلى التوصل لتسوياتهم الخاصة مع روسيا في غياب الولايات المتحدة، التي كانت بمثابة العمود الفقري للحلف منذ أكثر من 75 سنة.
وسوف يقوم ترامب في ولايته الثانية باستئناف علاقاته الودية مع دكتاتور كوريا الشمالية كيم يونغ أون، وسوف يسعى إلى تخفيض أو سحب جميع القوات الأميركية من كوريا الجنوبية، وربما سحب بعض أو جميع القوات الأميركية المرابطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في اليابان، مع ما سيعنيه ذلك لتحالفات والتزامات واشنطن العسكرية والأمنية في المحيطين الهادي والهندي.
وسوف يقوم ترامب بسحب القوات الأميركية الخاصة المرابطة في شمال شرق سوريا، وهو ما كان قد سعى إليه خلال ولايته الأولى، الأمر الذي وضعه في مواجهة مع وزير دفاعه الأول ماتيس. ولن يرى ترامب في بقاء القوات الأميركية في العراق أي فائدة وطنية أو إقليمية، وسوف يسعى إلى تقليص البروفيل العسكري الأميركي في دول الخليج العربية، وهو ما سعى إليه في ولايته الأولى.
تطبيق ترامب لشعار “أميركا أولًا” سوف يؤدي إلى تحول الولايات المتحدة إلى قلعة معزولة وراء محيطين كبيرين، وتحدها دولتين تربطها بإحداهما علاقات متوترة، وهي المكسيك، وبالأخرى علاقات فاترة، وهى كندا، على الرغم من أهمية البلدين تجارياً واقتصادياً للولايات المتحدة. انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو، سوف يؤزم علاقات واشنطن السياسية مع الدول الأوروبية، الأمر الذي سيؤدي بدوره في المستقبل إلى تأزيم العلاقات التجارية والاقتصادية. سياسة “أميركا أولا” وفقًا لترامب، تعني عملياً قلب علاقات الولايات المتحدة الدولية رأسًا على عقب: الحلفاء التقليديين في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا سوف يصبحوا في الخلفية، بينما يقوم ترامب ببناء علاقات أقوى مع الحكام الأوتوقراطيين في العالم، مثل فلاديمير بوتين في روسيا وكيم يونغ أون في كوريا الشمالية وفيكتور أوربان في هنغاريا، وغيرهم من القادة غير الديموقراطيين في العالم.
تلخص إليزابيث تشيني المأزق الأميركي الراهن بالقول “ما نراه يحدث اليوم هو أننا مثل النائم الذي يسير أثناء نومه باتجاه الدكتاتورية في الولايات المتحدة”.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.