ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تبين المواقف الرسمية الصادرة عن واشنطن وأنقرة، أن الأزمة الأمريكية-التركية الآنية والمتعلقة بمصير القس الأمريكي المعتقل في تركيا آندرو برونسون مرشحة للاستمرار بل للتفاقم في المستقبل المنظور. ويلتقي مسؤولون أمريكيون في تصريحاتهم الصحفية المقتضبة مع بعض الأكاديميين والمختصين بالشؤون التركية على القول إنه حتى ولو تم الإفراج عن برونسون، الأمر الذي يمكن أن يخفف من حدة السجال الراهن بين البلدين، إلا أنه لن يرأب الصدع الذي تعرضت له العلاقات الثنائية منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في صيف 2016. واتهمت حينها أنقرة واشنطن ومواطنين أمريكيين بدعم الانقلاب. ومنذ ذلك الوقت تصر تركيا على أن تسلمها الولايات المتحدة الداعية التركي فتح الله غولن، المقيم في عزلة في ولاية بنسلفانيا، والذي اتهمته تركيا رسميا بالتخطيط للانقلاب.
اعتقلت السلطات التركية القس برونسون المقيم في تركيا منذ أكثر من عشرين سنة بعد أشهر من محاولة الانقلاب العسكري، ولكن اعتقال برونسون تحول إلى قضية رئيسية للإنجيليين الأمريكيين الذين ينتمي إليهم برونسون عقب قرار تركيا قبل أسابيع محاكمته بتهمة التعاون مع حركة الداعية غولن، وأيضا التعاون مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا (والولايات المتحدة) تنظيما إرهابيا. وخلال مؤتمر عقد في واشنطن قبل أسابيع حول الحريات الدينية في العالم، تبنى البيت الأبيض بشخص نائب الرئيس مايك بينس قضية برونسون وطالب بينس في كلمة ألقاها أمام المؤتمرين، تركيا بالإفراج الفوري عن برونسون، وهددها علنا بأنها إذا أخفقت في تلبية الطلب الأمريكي فإنها ستدفع ثمنا لرفضها عبر عقوبات اقتصادية حتمية. وسارع الرئيس ترامب إلى تبني قضية برونسون، لإرضاء الإنجيليين الذين يشكلون شريحة هامة في قاعدته الانتخابية، ويحرص ترامب دائما على الإشارة إلى مسيحية برونسون واستغلالها داخليا. وتعتقل تركيا، بالإضافة إلى برونسون، حوالي 20 مواطنا أمريكيا من أصول تركية وكردية، ولكن ترامب لا يبالي بالإشارة إليهم، وإن كانت وزارة الخارجية قد طالبت تركيا بالإفراج عنهم أيضا. وفي الأسبوع الماضي عندما رفضت محكمة تركية الاستئناف الذي تقدم به محامو برونسون للإفراج عنه، رد ترامب في اليوم ذاته في تغريدة أن “تركيا تستغل الولايات المتحدة منذ سنوات. وهم يحتجزون الآن القس المسيحي الرائع، الذي سأطلب منه الآن أن يمثل بلادنا كرهينة وطنية كبيرة.” وتابع ترامب “ولن ندفع أي شيء مقابل الإفراج عن رجل بريء، ولكننا سنقاطع تركيا”.
وقبل أيام كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن البيت الأبيض رفض عرضا تركيا للإفراج عن القس برونسون مقابل قبول واشنطن على إعفاء البنك التركي Halkbank الذي تملكه الدولة التركية من دفع مليارات الدولارات كغرامات بسبب اتهامه بانتهاك العقوبات الأمريكية ضد إيران. وكان القضاء الأمريكي قد حكم في مايو – أيار الماضي بسجن محمد حاكان أتيللا المسؤول في البنك بالسجن لـ 32 شهرا. وكان الرئيس التركي طيب رجب أردوغان قد أدان عقوبة السجن معتبرا إياها قرار سياسيا ضد تركيا، الأمر الذي زاد من تأزيم العلاقة حتى قبل انفجار قضية القس برونسون. ولا يزال الموقف الأمريكي الرسمي كما هو، أي الإصرار على الإفراج عن برونسون دون شروط مسبقة ودون أي مقايضة، وأن القضايا الأخرى العالقة يمكن أن تبحث لاحقا بعد إطلاق سراح برونسون، الذي كانت السلطات التركية قد نقلته من السجن قبل أسابيع ووضعته قيد الإقامة الجبرية. وكان مسؤولون أميركيون، من بينهم وزير الخزينة ستيفن منوشن قد قالوا في الأيام الماضية، إنهم يعتزمون فرض عقوبات إضافية ضد تركيا خلال أيام إذا لم يفرج عن برونسون.
وقبل أيام قال مستشار الأمن القومي جون بولتون لوكالة الأنباء رويترز إن الأزمة مع تركيا يمكن أن يتم حلها بشكل “فوري” إذا قامت تركيا “باتخاذ القرار الصحيح كدولة حليفة في الناتو، وكجزء من الغرب بالإفراج عن القس برونسون دون شروط”. وحين سؤاله عما إذا كانت واشنطن تشكك بعضوية تركيا في حلف الناتو، أجاب بولتون “هذه ليست مسألة مطروحة في هذه اللحظة، ونحن نركز على القس برونسون وغيره من الأمريكيين الذين تحتجزهم الحكومة التركية بطريقة غير شرعية ونتوقع أن يتم حل هذه المسألة”. إشارة بولتون إلى أن الأزمة مع تركيا سيحلها الإفراج عن برونسون، ليست صحيحة، لأن الخلافات بين البلدين متشعبة ومعقدة وتشمل محاور خلافية سياسية وعسكرية وإيديولوجية تعكس التوجه السياسي والثقافي العام لتركيا ومجمل علاقاتها الإقليمية والدولية، وتحديدا علاقتها التاريخية مع الغرب والتي اتسمت في السنوات الماضية بفتور ملحوظ تتخلله بين وقت وآخر هزات واضطرابات لا يفترض أن تكون حاضرة بين دول مرتبطة ببعضها البعض علاقات سياسية واقتصادية واستراتيجية قوية وقديمة. وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن تتعرض العلاقات الثنائية إلى مزيد من التوتر بعد أن تفرض واشنطن سلة العقوبات الثالثة والأخيرة ضد إيران، وهي عقوبات يدرك الأمريكيون أن تركيا ستحاول أيضا الالتفاف عليها.
أسوأ أزمة منذ غزو تركيا لقبرص
تمر العلاقات الأمريكية-التركية بأسوأ أزمة منذ غزو تركيا لشمال جزيرة قبرص في عام 1974، الأمر الذي دفع بالكونغرس لوقف تسليح تركيا. الرئيس ترامب هو الرئيس الأمريكي الثالث الذي يتعامل معه أردوغان. وحاول كل من الرؤساء جورج بوش الابن، وباراك أوباما ترامب في بدايات ولاياتهم بناء جسور جيدة مع أردوغان، حيث تستمر لفترة وجيزة قبل أن تبدأ العلاقات الشخصية والسياسية بالفتور، إلى أن وصلت مع ترامب خلال فترة وجيزة نسبيا إلى مرحلة فرض الولايات المتحدة لعقوبات اقتصادية، وضد مسؤولين أتراك للمرة الأولى منذ عقود. كان أردوغان قد حظي بدعم وتأييد أمريكي حكومي وبرلماني وفي مراكز الأبحاث في بدايات عهده، حيث جددت واشنطن دعمها لعضوية تركيا في الإتحاد الأوروبي، وهي سياسة تقليدية اعتمدها الرؤساء الأمريكيون من الحزبين. ولكن ميول أردوغان الأوتوقراطية، ومساعيه المستمرة لاحتكار القرار السياسي – ومؤخرا القرار المالي- التركي قد بدأ بتعميق الهوة بينه وبين الأمريكيين في البيت الأبيض والكونغرس وأروقة مراكز الأبحاث. محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة، أدخلت العلاقات في مأزق كبير لأن أردوغان استخدم المحاولة الإنقلابية لتعزيز سيطرته على السلطة، وزيادة انتهاكاته لحقوق الإنسان، وقمع المعارضة السياسية السلمية، وتصعيد حربه ضد وسائل الاعلام، وهي سياسات كانت تجد معارضة أمريكية متزايدة. إصرار أنقرة على تسلم الداعية غولن، واتهام مواطنين أمريكيين – دون أدلة- بالضلوع في الانقلاب، ساهم في تقليص التعاطف الأمريكي التقليدي مع تركيا، والذي تعرض أيضا لهزة كبيرة عقب تأزم العلاقات بين تركيا وإسرائيل في السنوات الأخيرة. وخلال هذه السنوات كان أردوغان يواصل التأكيد على هوية تركيا الإسلامية، رغم أن نظامها علماني منذ أن أسس مصطفى كمال في أعقاب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى الدولة التركية الحديثة كوريثة للإمبراطورية العثمانية بعد أن تحولت إلى “الرجل المريض” في أوروبا في القرن التاسع عشر. وكان أردوغان يقوم وبشكل مستمر، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة في تأجيج المشاعر القومية التركية ضد الغرب عموما وضد الولايات المتحدة تحديدا.
سياسات تركيا في المنطقة، ودعمها للحركات الإسلامية، وتحديدا حركة الإخوان المسلمين في مصر، وتوتر علاقاتها بشكل جذري مع مصر في أعقاب الانقلاب الذي أطاح بحكومة الرئيس محمد مرسي، أثرت سلبا على العلاقات مع واشنطن. ولكن الحرب في سوريا، ودور تركيا السافر في دعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة، والأسوأ فتح حدود تركيا مع سوريا والعراق لعبور “المجاهدين” والإرهابيين للالتحاق بهذه التنظيمات بما فيها ما سمي بتنظيم “الدولة الإسلامية” والذي ساهمت ممارساته البربرية بتدمير الإيزيديين في العراق وتعريض المسيحيين والأكراد في العراق وسوريا إلى عنف قل نظيره، كلها وضعت تركيا في موقع مغاير ومناوئ لمصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفاؤها في المنطقة. وجاء التدخل التركي العسكري المباشر في سوريا والعداء التركي الواضح لأي تعاون عسكري بين الولايات المتحدة وقوات “سوريا الديمقراطية” التي يُعتبر أكراد سوريا عمودها الفقري، ليزيد من تعميق الخلافات بين البلدين. وفي تطور نوعي وغير معهود، تعرضت العلاقات إلى صدمة كبيرة حين طلبت تركيا من روسيا تزويدها بشبكة صواريخ مضادة للطائرات من روسيا. هذا التطور هز علاقات تركيا مع شركائها في حلف الناتو. هذه الخطوة، إضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان، دفعت بالكونغرس الأمريكي إلى تجميد صفقة لتزويد تركيا بطائرات من طراز أف-35 التي تعتبر الأكثر تطورا في سلاح الجو الأمريكي.
العقوبات التي فرضها الرئيس ترامب على تركيا ساهمت في تقليص قيمة الليرة التركية، إلى مستويات خطيرة، ولكن من الخطأ اتهام الولايات المتحدة كما يوحي أردوغان وحلفاؤه بأنها مسؤولة عن انهيار الليرة، وهو انهيار بدأ قبل أشهر من العقوبات الأمريكية.
قبل ثلاث سنوات دخلت العلاقات التركية-الروسية في أزمة حادة عقب إسقاط المقاتلات التركية لطائرة عسكرية روسية كانت تحلق فوق الحدود السورية-التركية. هذه الحادثة دفعت بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى فرض عقوبات اقتصادية قوية أثرت سلبيا وبحدة على الإقتصاد التركي وضربت قطاعي السياحة والزراعة بالتحديد. وكان هناك تخوف تركي من أن تستخدم روسيا نفوذها وحضورها العسكري في سوريا ضد تركيا، التي كانت موسكو تتوقع أن تقوم بإرسال قوات نظامية لاحتلال مواقع في شمال سوريا لمنع الأكراد من إقامة منطقة حكم ذاتي. بعد سبعة أشهر من القطيعة المرّة، اضطر أردوغان للتراجع، وبدأ عملية تطبيع العلاقات التي لم تكن سهلة أو سريعة.
هل يتراجع أردوغان في مواجهته الراهنة مع واشنطن وخلال فترة وجيزة كما فعل حين تراجع في وجه الضغوط الروسية؟ حتى الآن لم يصل وقع العقوبات الأمريكية ضد تركيا إلى مستوى مماثل للعقوبات الروسية ضدها قبل المصالحة. وفي المواجهة الراهنة مع واشنطن، يحظى أردوغان بدعم شعبي ملحوظ، وهو لا يزال يعتقد أن واشنطن لن تتخلى كليا عن تركيا لأنها عضو في الناتو، ولأن وزارة الدفاع الأمريكية تثمن أهمية قاعدة انجرليك الجوية في شرق تركيا. ولكن قاعدة انجرليك التي بنيت واستخدمت كخط دفاعي أول ضد الإتحاد السوفيتي المنهار (حيث لا تزال تحتوي على حوالي 50 قنبلة نووية، تحت سيطرة أمريكية مباشرة) لم تعد تتمتع بالقيمة الاستراتيجية التي كانت تتمتع بها في السابق، خاصة وأن واشنطن قادرة على تقليص اعتمادها على انجرليك والاستفادة من تسهيلات عرضتها دول مثل قبرص ورومانيا، وربما دول عربية أخرى.
وفي الأشهر والأسابيع الماضية، بدأ محللون أمريكيون متخصصون بالشؤون التركية الدعوة إلى مراجعة نقدية لجدوى العلاقات الخاصة مع تركيا، خاصة وأن سياسات أردوغان بشكل عام جعلتها غير خاصة. وأكثر ما يقلق المحللين وصنّاع القرار في واشنطن هو أن هوية تركيا في ظل أردوغان أصبحت موضع نقاش عميق. مصطفى كمال أصر، ونجح لعقود طويلة، في صيانة هوية تركيا “الغربية”، أو ما هو أوضح، أي التوجه التركي التقليدي للغرب، ولكن أردوغان يتصرف سياسيا وثقافيا وكأنه يسير، في اتجاه معاكس.