لا تزال ارتدادات الهجوم السافر، الذي قام به آلاف الرعاع من المتطرفين بعد تحريض واضح من الرئيس ترامب، ضد صرح الديموقراطية الأميركية، الكابيتول [المبنى الرئيسي للكونغرس الأمريكي] تهز البلاد، وطرحت على صنّاع القرار وصناع الرأي في واشنطن أسئلة صعبة ومحرجة، ليس من المتوقع أن تأتي الأجوبة عليها إلا بعد مراجعة نقدية صريحة لمسلمات سياسية وثقافية عديدة، مثل تلك التي تحدث عادة بعد تطورات جذرية مثل حركة الحقوق المدنية، في ستينات القرن الماضي، وحرب فيتنام وفضيحة ووترغيت.
الأميركيون صعقوا وهم يشاهدون البث التلفزيوني الحيّ لهجوم استهدف ممثلي الشعب الأميركي، الذين كانوا مجتمعين في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ للتصديق النهائي على تصويت الولايات للرئيس المنتخب، وهو إجراء برلماني يحدث مرة كل أربع سنوات ولم يتوقف خلال كل الاضطرابات والحروب، التي عصفت بالبلاد بما فيها الحرب الأهلية. هذا المشهد الديموقراطي التقليدي، تحول، خلال دقائق، إلى مشهد درامي ودموي عّطل الجلسة، وأرغم المشرعين تحت حراسة الشرطة على اللجوء إلى الانفاق والأماكن الآمنة في المبنى هرباً من هجوم شنّه رعاع أميركيون، جاءوا لإلغاء نتائج انتخابات نزيهة، وليس إرهابيون من الخارج. خلال هجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية في 2001، تم إخلاء مباني الكونغرس تحسباً لتعرضها لهجوم إرهابي من الانتحاريين التابعين لتنظيم القاعدة. وفي السادس من يناير/كانون الثاني 2021، تم اخلاء مبنى الكابيتول لحماية المشرعين من خطر “إرهابيين الداخل” كما وصفهم الرئيس المنتخب جوزيف بايدن.
اجتياح الكابيتول ألحق بالتجربة الديموقراطية الأميركية، المستمرة منذ قرنين ونصف، نكسة مؤلمة وعرّضتها لامتحان صعب، ولكنه لم يعطلها إلا لبضعة ساعات. إصرار قادة الحزبين الجمهوري والديموقراطي على استئناف الجلسة مساء الأربعاء واستمرارها لصباح الخميس، حين أعلن نائب الرئيس مايك بينس أن الكونغرس قد صّدق على انتخاب بايدن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، كان يهدف إلى طمأنة الأميركيين، وبعث رسالة واضحة للأصدقاء والخصوم في العالم، بأن الديموقراطية الأميركية قد تعرضت لكبوة مؤقتة ولكنها لا تزال صامدة.
إن اجتياح مبنى الكابيتول هو نتيجة طبيعية لتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية سبقت وصول ترامب إلى البيت الأبيض، كما أنه نتيجة حتمية لسياسات وطروحات وممارسات دونالد ترامب خلال السنوات الأربعة الماضية. ولدت الديموقراطية الأميركية في ظروف صعبة، وخرجت من أتون حرب تحرير من الاستعمار البريطاني، ولكنها ولدت بخطيئة أصلية (نظام الاستعباد، وحرمان السكان الأصليين من المساواة)، وكانت منذ بدايتها، وحتى الآن، تدرك أنها ليست مثالية، ولكنها تسير بثبات وقوة باتجاه الكمال في رحلة طويلة، حفلت بالنكسات والكبوات، ولكنها لم تتوقف عن التقدم. وهذا ما تعنيه الكلمات الأولى في الدستور الأميركي، “نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في انشاء اتحاد أكثر كمالاً…” الاتحاد الفيدرالي خطى خطوة كبيرة على طريق الكمال حين حظيت المرأة بحق التصويت في 1920، كما حققت التجربة الديموقراطية نقلة نوعية في منتصف ستينات القرن الماضي بعد صدور قوانين تضمن الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي، ومن بينها حق التصويت دون تمييز. هذه التحولات الديموقراطية الهامة كانت تواجه دائما مقاومة شرسة من أطراف داخلية كانت – ولا تزال – ترفض توسيع حلقة الحرية والديموقراطية والمساواة في البلاد.
دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً يصعب تصديقه للقضاء على نظام العبودية، بعد حرب أهلية لا تزال حتى الآن الأكثر دموية في تاريخ البلاد. وحتى بعد 155 سنة من نهاية الحرب الأهلية، لا تزال بعض الأسباب، التي أدت إلى اندلاعها، مثل حقوق الأميركيين من أصل أفريقي موضع جدل وخلاف. خلال الصيف الماضي عمت التظاهرات الاحتجاجية كبريات المدن الأميركية ضد التمييز الذي يتعرض له الشباب والرجال من أصل أفريقي عقب جريمة قتل جورج فلويد، بعد أن خنقته ركبة شرطي أبيض ببطء شديد لأكثر من ثمانية دقائق. رد الرئيس ترامب العدائي على هذه التظاهرات أكد، من جديد، تعاطفه مع الجماعات المتطرفة، التي تؤمن بتفوق العنصر الأبيض وأعضاء الميليشيات اليمينية، التي نظمت تظاهرات مضادة واشتبكت مع المحتجين ضد التمييز العنصري. وحتى قبل انتخابه، كان ترامب يحرض أنصاره على ترهيب خصومه، وكان يشجعهم على الاعتداء على الأفراد الذين كانوا يحتجون ضد مواقفه، وكان يبرر عنف النازيين الجدد والمتطرفين والعنصريين، الذين يدعمونه، كما في فعل في أكثر مناسبة. وحتى بعد اقتحام مبنى الكابيتول، قال ترامب للرعاع أنه يحبهم ويتعاطف مع ألمهم وأن لهم مكانة خاصة عنده.
ميول ترامب الأوتوقراطية واستخفافه بالأعراف والقيم الديموقراطية واستهتاره بالمهاجرين من خارج القارة الأوروبية ومواقفه السلبية من المسلمين، كانت واضحة حتى قبل انتخابه. ولم يتردد ترامب في معاداة النظام القضائي المستقل، وشن حرباً لا هوادة فيها ضد وسائل الإعلام والإعلاميين، الذين يصفهم دائما “بأعداء الشعب”، (خلال اقتحام مبنى الكابيتول، قام المشاغبون بالاعتداء على بعض الإعلاميين وتكسير أجهزتهم وكاميراتهم). أظهر ترامب، منذ أيامه الأولى اعجاباً، كبيراً بالقادة الأوتوقراطيين في العالم، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما أظهر احتقاره لقادة الدول الأوروبية الديموقراطية. ترامب كان يحاول التخلص من القيود المفروضة عليه في سياق نظام ديموقراطي، لكي يتصرف مثل أي زعيم أوتوقراطي يستأثر بمفرده بالسلطة دون مسائلة من الكونغرس أو القضاء. لم يتردد ترامب في استغلال نظريات المؤامرة لتضليل أنصاره واقناعهم بأنه وحده القادر على تمثيلهم وتحقيق مطالبهم، وعليهم أن يقفوا معه ضد ما يسميه “الدولة العميقة”، التي تعارضه من داخل البيروقراطية الأميركية و “النخبة” الثقافية والسياسية الليبرالية.
لهذه الأسباب رفض ترامب الاعتراف بهزيمته في انتخابات نزيهة، صدّق عليها المسؤولون المحليون عن الانتخابات في مختلف الولايات من جمهوريين وديموقراطيين، وبدأ بطرح سلسلة من الادعاءات والمزاعم حول عملية تزوير وغش شاملة نظمها الديموقراطيون لسرقة الانتخابات منه. وفي هذا السياق شنّ ترامب حملة تضليلية كبيرة ضد صدقية ونزاهة نظام الانتخابات الأميركية، وأقنع أكثرية من الجمهوريين بأن عملية انتخاب بايدن غير شرعية. كل هذه التضليلات والمزاعم والأكاذيب ساهمت في خلق مشاعر الغضب والرغبة بالانتقام من النخبة السياسية ووسائل الاعلام في واشنطن، والتي كانت نتيجتها الحتمية اقتحام مبنى الكابيتول. وكان ترامب قبل أسبوعين قد دعا أنصاره إلى واشنطن في السادس من يناير للتظاهر ضد الجلسة المشتركة للكونغرس، ووعدهم بأن التظاهرة ستكون “جامحة”، وبالفعل كانت جامحة ودموية.
صحيح أن ترامب يجهل تاريخ الولايات المتحدة، ويفتقر إلى أي خبرة سياسية عملية، ولكنه يتمتع بمكر كافٍ لاستغلال مخاوف الأخرين وتضليلهم. ووصل ترامب إلى البيت الأبيض محمولاً على موجة شعبوية خلقتها التطورات الاقتصادية والثقافية، التي جلبتها العولمة الاقتصادية، التي حرمت، في العقود الأخيرة، الملايين من العمال الأميركيين من وظائفهم، التي ذهبت مع مصانعهم إلى دول مثل الصين والهند وغيرها بسبب العمالة الرخيصة. وتزامن ذلك مع ازدياد معدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة، وما صاحبها من تغييرات ديموغرافية، جعلت الولايات المتحدة أكثر سمرة وأقل مسيحية وأكثر ليبرالية، تمثلت في تشريعات سمحت على سبيل المثال بزواج المثليين. هذه التحولات والتطورات زادت من غربة شريحة هامة وكبيرة نسبياً من الرجال البيض عن النخبة السياسية والثقافية في واشنطن وفي المدن الكبيرة المنتشرة على الساحلين الشرقي والغربي في البلاد.
هذه الشريحة الاجتماعية التائهة في الصحراء السياسية منذ عقود، والتي كانت تتجمع حول سياسيين غوغائيين وشعبويين مثل سارة بيلين، التي ترشحت لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري في انتخابات 2008، هي التي تجمعت حول ترامب منذ 2015، والتي رأت فيه صوتها وممثلها ومخلصها، ومن هنا تعلقها به. هؤلاء الأميركيون لا يؤمنون بالديموقراطية الأميركية ووعودها، ولكنهم يؤمنون بالقائد المخلص ترامب.
بعد العشرين من الشهر الجاري سيغادر ترامب البيت الأبيض ولكنه لن يخسر كل نفوذه السياسي، وسوف يبقى على الأقل في المستقبل قوة نافذة داخل الحزب الجمهوري، الذي أوصله ترامب إلى مأزق كبير، وعمّق الانقسامات فيه بسبب سياساته المتهورة والانتقامية، ونزعته النرجسية المريضة.
اجتياح مبنى الكابيتول وارتداداته الهامة، سوف يمثل مشكلة كبيرة، تضاف إلى الأزمات والمشاكل التي سيرثها الرئيس بايدن من ترامب، مثل جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي جلبتها معها. هذا الامتحان الخطير للديموقراطية الأميركية سوف يستخدمه خصوم الولايات المتحدة في روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول المعادية للديموقراطية، كدليل آخر على هشاشة الديموقراطية كنظام سياسي بشكل عام، وتحديداً التجربة الديموقراطية الأميركية. وسوف يكون من الصعب على الرئيس بايدن أن يتوجه للعالم كقائد لديموقراطية حيوية تطرح نفسها كمثال يحتذى به. عندما وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام العلم الأميركي في باريس ليقول للأميركيين وللعالم باللغة الإنجليزية، “نحن نؤمن بصلابة ديموقراطياتنا. ونحن نؤمن بصلابة الديموقراطية الأميركية”، فإنه كان يعبر عن حقيقة جوهرية تفهمها الديموقراطيات الأخرى، وهي إن أي تهديد خطير لأهم ديموقراطية في العالم، كما فعل رعاع وإرهابيو ترامب، هو تهديد لجميع الديموقراطيات الأخرى في العالم.
إعادة العافية الكاملة للديموقراطية الأميركية سوف يتطلب بعض الوقت، وسوف يتطلب مراجعة ذاتية نقدية وصريحة في مختلف المؤسسات السياسية والأكاديمية والثقافية، يجب أن يعقبها محاولات جدية لمعالجة مطالب ومخاوف فئة واسعة من الأميركيين، يجب ألا تبقى تائهة في صحراء سياسية وثقافية واسعة، وإلا فان الأميركيين سيواصلون حياتهم وكأنهم يعيشون في كوكبين تفصل بينهما سنوات ضوئية.