خلال أسبوع واحد استعادت “قوات الحشد الشعبي”، وهي الميليشيات الشيعية التي تمولها إيران وتسيطر عليها، ووحدات من الجيش العراقي السيطرة على مدينة كركوك ومحيطها، بما في ذلك حقول النفط، بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية في ظروف غامضة ومريبة، والتي كانت قد سيطرت على المدينة وحقول النفط عقب اجتياح إرهابيي “الدولة الإسلامية” أراض عراقية واسعة بما فيها مدينة الموصل في صيف 2014، تمهيدا لإعلان قيام دولة “الخلافة”. وفي الوقت ذاته تقريبا، أنهت قوات “سوريا الديمقراطية”، وهي بمعظمها تنتمي إلى “وحدات حماية الشعب” الكردية المدعومة من مقاتلي الجيش السوري الحر، معركة تحرير مدينة الرقة التي كانت تعتبر “عاصمة الدولة الإسلامية” بعد قتال مرير استمر لأشهر وشارك فيه سلاح الجو الأمريكي بكثافة الأمر الذي جعل الانتصار ممكنا.
هذه قصة مدينتين: كركوك التي انسحب منها الأكراد دون قتال، والرقة التي سيطر عليها الأكراد بعد أن أدت عملية تحريرها إلى تحويلها إلى ركام بعد هجرة أو تهجير أكثر من مائتي ألف من سكانها. الولايات المتحدة كانت حاضرة سياسيا في كركوك وعسكريا في الرقة، ودورها المختلف في المدينتين أظهر بوضوح تخبط السياسة الأمريكية في المنطقة، وعجزها حتى الآن خلال ولايتي الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب في تطوير استراتيجية ثابتة وفعالة في التصدي للهيمنة الإيرانية في العراق وسوريا والمساهمة ايجابيا مع حلفائها المحليين والدوليين في مساعدة البلدين على الخروج من الفلك الإيراني.
مجازفة الاستفتاء
من الواضح الآن أن قرار القيادة الكردية في أربيل بالمضي في إجراء الاستفتاء شكّل مجازفة كان على هذه القيادة أن تتفاداها من خلال التأكد بالدرجة الأولى من أن البيت الكردي مستعد لمثل هذه المجازفة، وأن أصدقاء الأكراد في الخارج أو بعضهم على الأقل مستعدون للوقوف ورائهم. ويرى السفير فريد هوف، وهو من أبرز الخبراء في الشؤون السورية أن قرار الاستفتاء قد أُتخذ بشكل متسرع ودون تحضير كاف، وأضاف في حوار خاص، “السؤال الأساسي الآن هو هل أن واشنطن قادرة أو راغبة ببذل الجهود الدبلوماسية الكبيرة للتوسط بين بغداد وأربيل، قبل أن تصبح إيران اللاعب الأكبر” في العراق؟
انسحاب قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني من كركوك بعد اجتماع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ببافل طالباني نجل الرئيس الراحل جلال طالباني – وهو اجتماع قيل إن سليماني قدم خلاله لطالباني حوافز وتهديدات – أثبت بوضوح أن البيت الكردي لم يكن موحدا، وهذا تقصير حتى اصدقاء الأكراد يجدون صعوبة في استيعابه. ولكن بغض النظر عن مدى تقصير رئيس الإقليم مسعود بارزاني وقيادته في دراسة وتوقع ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية على قرار الاستفتاء والتحضير لمضاعفات الاستفتاء، يرى محللون ومسؤولون سابقون من بينهم السفير الأمريكي السابق روبرت فورد الذي خدم في سوريا والعراق، أن ارغام الأكراد على البقاء في عراق موحد، في ظل الهيمنة الإيرانية لم يعد ممكنا. ويرى هؤلاء، أن الاستفتاء استخدم كذريعة لضرب الأكراد وحرمانهم من كركوك الأمر الذي سيضعفهم في مرحلة التفاوض مع بغداد لحسم الخلاف ليس فقط حول المدينة وحقوق الأقليات غير الكردية فيها، بل أيضا مستقبل علاقات كردستان مع بغداد، وذلك لأن بعض القوى الفاعلة في العراق والمناوئة للأكراد، كانت تسعى وتهدد باحتلال كركوك قبل الاستفتاء. وفي فبراير 2015، هدد رئيس ميليشيا عصائب أهل الحق الشيعية قيس الخزعلي بأن قواته ستدخل كركوك اذا طالب سكان المدينة الشيعة من عصائب اهل الحق ان تفعل ذلك. وكان من المتوقع بعد انتهاء الحملة العسكرية لتفكيك وتدمير “الخلافة” في العراق، أن تحاول بغداد وبدعم من إيران حسم الخلاف حول كركوك، ويُعتقد أن قلق الأكراد الشرعي من تعاظم النفوذ الإيراني في عملية صنع القرار في بغداد، قد ساهم في قرار القيادة الكردية التعجيل بإجراء الاستفتاء.
انتكاسة للأكراد، ولكن من انتصر في كركوك؟
الموقف الأمريكي وفقا لما سربته مصادر مسؤولة، هو أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بينما كان يدلي بتصريحات علنية أكد فيها أنه لن يستخدم القوة لاستعادة السيطرة على كركوك، أوضح للمسؤولين في واشنطن في الاتصالات المباشرة أنه مضطر لاستخدام القوة العسكرية لأنه يخضع لضغوط ضخمة من إيران والميليشيات الشيعية للتحرك بسرعة، وأنه لا خيار أمامه سوى الحل العسكري، لأن قادة “وحدات الحشد الشعبي” الشيعية مثل أبو مهدي المهندس، ( الذي صنفته الحكومة الأمريكية ارهابيا بسبب مسؤوليته عن قتل مدنيين وعسكريين أمريكيين، الأمر الذي دفعه للجوء إلى إيران، ثم العودة إلى العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق) وقائد تنظيم البدر هادي العامري، سوف يقوما بذلك برضاه أو عدم رضاه. ولاحظ المراقبون في واشنطن “البروفايل” البارز والصور العديده للمهندس والعامري في كركوك ومحيطها وهم يتفقدون قواتهم والمباني الرئيسية في المدينة.
المسؤولون في واشنطن حاولوا وصف التطورات الأخيرة بشأن كركوك بطريقة وردية، ويعتقدون أن شعبية رئيس الوزراء العبادي، قد ارتفعت وسوف ترتفع أكثر في أوساط العراقيين العرب بعد انتصاره التكتيكي في كركوك، ويضيفون أن هذا التطور سوف يعزز من موقعه تجاه إيران والميليشيات التي تسيطر عليها. ولكن الرأي السائد في أوساط المحللين والمسؤولين السابقين هو أن إيران، ممثلة بقائد فيلق القدس قاسم سليماني وقادة الميليشيات الشيعية هم المنتصرون في معركة كركوك.
ويأمل وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون الذي سيزور الرياض للمشاركة مع الملك سلمان بن عبد العزيز ورئيس وزراء العراق حيدر العبادي في أول اجتماع موسع للمسؤولين السعوديين والعراقيين في الرياض، عقب تحسن العلاقات بين البلدين، إلى حث الطرفين على تكثيف التعاون الثنائي بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وكان العاهل السعودي قد أجرى اتصالا هاتفيا بالعبادي وناقش معه العلاقات الثنائية واجتماع الرياض، كما أعرب فيه، وفقا لبيان صادر عن الحكومة العراقية، دعم المملكة لوحدة العراق. مصادر مطلعة في واشنطن قالت إن تيلرسون سيؤكد للمسؤولين السعوديين أن واشنطن ترى في العبادي ربما الأمل الأخير لوقف انزلاق العراق أكثر فأكثر في الفلك الإيراني.
من سيرث ركام الرّقة؟
مشهدان في الرقّة بعد هزيمة ارهابيي “الدولة الاسلامية”، ومن شرق سوريا عموما، أظهرا أيضا تخبط السياسة الأمريكية في سوريا، ومضاعفات تركيز المسؤولين في واشنطن على نواح محددة في مشهد واسع ومعقد، بدلا من التركيز على المشهد البارونامي بأكمله كما تفعل روسيا.
المشهد الأول هو لعناصر نسائية من وحدات الحماية الشعبية وقفن في وضع متأهب في ساحة النعيم وسط مدينة الرقة وورائهم صورة كبيرة جدا لعبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا (الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة تنظيما ارهابيا) والذي يشن منذ عشرات السنين حرب عصابات ضد تركيا، والذي تعتبر وحدات الحماية الشعبية الكردية في سوريا امتدادا له. وظهر وراء صورة أوجلان بعضا من ركام الرقة. هذا الفصيل الذي يشكل جيشا كرديا قوامه أكثر من خمسين ألف عنصر، يسيطرون على حزام طويل في شمال سوريا لهم خبرة قتالية مميزة، كان القوة الضاربة لائتلاف قوات سوريا الديمقراطية، التي تضم أيضا عناصر سورية عربية، ولكنها دون القوات الكردية عددا وعتادا. هذا المشهد الكردي وسط مدينة الرقة، يشكل احراجا كبيرا لواشنطن، كشف حقيقة أن هذا التنظيم بسبب علاقته الوثيقة بحزب العمال الكردستاني، والتي عمقت من الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا، الدولة الحليفة لأمريكا منذ عقود وعضو حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيفرض على واشنطن خيارات سياسية صعبة في مرحلة ما بعد هزيمة “خلافة” الدولة الإسلامية. وما أن دخلت القوات الكردية إلى الرقة، حتى بدأت الأسئلة الملحة في مثل هذه الحالات تطرح نفسها: من سيدير الرقّة ويعيد الاستقرار إليها تمهيدا لبدء عملية إعادة البناء ( ومن سيمول هذه العملية) ومحاولة استيعاب بعض اللاجئين الذين هُجروا من المدينة أو اختاروا مغادرة المدينة.
المشهد الثاني، كان في القامشلي، حيث ذكرت تقارير صحفية أن نائب وزير خارجية روسيا ميخائيل بوغدانوف، اجتمع بضابط المخابرات السوري علي مملوك المستشار الأمني للرئيس الأسد ومراد كارايلان أحد قادة حزب العمال الكردستاني اجتمعوا مؤخرا في القامشلي، وناقشوا فيه مستقبل العلاقات بين النظام السوري والتنظيم الكردي، إضافة إلى مصير القواعد الأمريكية الموجودة في الأراضي الخاضعة للتنظيم الكردي في سوريا. طبعا كانت الولايات المتحدة الغائب الحاضر في هذا الاجتماع الهام، الذي يبرز مجرد حدوثه السريع في أعقاب معركة الرقة، محدودية النفوذ الأمريكي في سوريا.
ويرى السفير هوف، الذي كان مسؤولا عن الملف السوري في وزارة الخارجية ومستشارا للمبعوث جورج ميتشل في الولاية الأولى للرئيس السابق باراك أوباما أن الولايات المتحدة تقوم بعمليات عسكرية في سوريا منذ بدء حصار عناصر “الدولة الإسلامية” لمدينة كوباني الكردية في 2014، والآن فإنها تدرك أن هزيمة العدو ليست نهاية الرواية “ولكنها تفتح فصلا جديدا فيها”. ويضيف هوف “وإذا لم تجاوب الولايات المتحدة على السؤال: ماهي الخطوة التالية بوضوح، سنرى الجيش المهزوم يحيي نفسه من جديد، أو سنرى أشكالا جديدة من الفوضى والتطرف”. ويرى هوف أن إدارة الرئيس أوباما أخفقت في التخطيط لمرحلة ما بعد الرقة، وخلفت هذا الإرث الفوضوي لإدارة الرئيس ترامب”. ويضيف “ولذلك لا نرى خطة عملية لإدارة المناطق المحررة من “الدولة الإسلامية” في شرق سوريا. وقال هوف إن روسيا تستغل هذا الغياب الأمريكي وهي التي تنقل الجنود السوريين والميليشيات والمقاتلين الأجانب إلى شرق سوريا. ويتابع “تركيا تشعر باستياء هائل لاعتماد الولايات المتحدة على ميليشيا كردية تعتبرها واشنطن إرهابية. ومن جهتهم يتوقع الأكراد في سوريا أن تبدأ واشنطن بأبعاد نفسها عنهم، حيث كان عليها منذ البداية الاعتماد على ائتلاف من القوات العسكرية البرية المحترفة التي تنشرها دول مستعدة لمواجهة إرهابيي”الدولة الإسلامية”.
هذه آخر التطورات الغريبة والمثيرة في قصة مدينتين لا يزال فصلها الأخير غير مكتمل.