كانت الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا مناسبة هامة للولايات المتحدة وحلفاؤها لتجديد دعمهم لأوكرانيا، ولإثبات نجاحهم في الحفاظ على وحدتهم وتضامنهم ككتلة قوية مناوئة لروسيا، والتأكيد لموسكو أن محاولاتهم لعزلها ومعاقبتها أكثر سوف تستمر، وفرصة للرئيس جوزيف بايدن لأن يزور كييف وبولندا، وليشدد مرة أخرى على صياغة الحرب في أوكرانيا على أنها جزء من الصراع الذي يمثل هذه المرحلة التاريخية، أي الصراع بين الأنظمة الديموقراطية والأنظمة الأوتوقراطية.
ولكن هذه الذكرى كانت مناسبة أخرى لإعادة النظر بالاصطفاف الدولي الجديد الذي خلقته هذه الحرب المكلفة التي تجري في قلب أوروبا، والتي كشفت عمق التحولات التي طرأت على علاقات هذه الكتلة الديموقراطية، والغربية إلى حد كبير، مع دول كبيرة ذات اقتصادات هامة وقدرات عسكرية لا يستهان بها خارج العالم الغربي، وتربطها بالولايات المتحدة علاقات معقدة ومتشعبة ومتعددة الجوانب، وأبرزها الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا والسعودية، ناهيك عن خصوم واشنطن مثل إيران.
مواقف جميع هذه الدول لا توافق بالضرورة على صياغة الحرب في أوكرانيا، كما تفعل واشنطن وحلفاؤها، على أنها ببساطة عدوان روسي توسعي ضد دولة ضحية اسمها أوكرانيا. وحتى الذين يقولون أنهم لا يوافقون، أو لا يؤيدون، الغزو الروسي، يستدركون أن المسألة أكثر تعقيدًا، وأن أوكرانيا ليست بريئة كليًا، وأن الولايات المتحدة وحلف الناتو ساهموا بتأييدهم السياسي ودعمهم العسكري الضخم لأوكرانيا على تهديد أمن روسيا، وتشجيع كييف على مواصلة القتال لتحقيق أهدافها بتحرير أراضيها بالقوة.
ومعظم هذه الدول، وإن أيدت قرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ضد الغزو أو ضد استمرار القتال، رفضوا المشاركة الفعلية في المقاطعة الاقتصادية لروسيا، لا بل إن بعضهم، مثل الهند وجنوب أفريقيا والسعودية والصين، زادوا من تعاونهم الاقتصادي مع روسيا خلال السنة الماضية، ما يفسر اخفاق توقعات صندوق النقد الدولي مع بداية الغزو أن الاقتصاد الروسي سوف ينكمش بنسبة 2.3 بالمئة، وتوقع نموه هذه السنة بنسبة 0.3، هذه نسبة نمو ضئيلة للغاية، ولكنها تعكس حقيقة آنية، وهي أن الاقتصاد الروسي بسبب العلاقات التجارية والاقتصادية مع هذه الدول، التي تستورد منه كميات كبيرة من الطاقة بأسعار مخفضة، خاصة الهند والصين، وأيضا السعودية ودولة الإمارات اللتان تستوردان مشتقات النفط من روسيا، قادر على مواصلة تمويل الحرب في المستقبل المنظور على الأقل.
وشكلّت الحرب فرصة للهند لكي تزيد من حجم تجارتها مع روسيا في السنة الماضية بنسبة 400 بالمئة. وعلى الرغم من تماسك وتضامن الدول الديموقراطية في تطبيق العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، إلا أن عدد الدول التي فرضت هذه العقوبات لم يتعد 33 دولة.
العزلة السياسية التي حاولت واشنطن وحلفاؤها فرضها على روسيا، نجحت نسبيًا في عزل موسكو عن دول أوروبا وأميركا الشمالية وحلفاء واشنطن في شرق آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إلا أنها لم تنجح في عزلها عن منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، كما يتبين من زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تسع دول شرق أوسطية وأفريقية خلال ستة أسابيع. وصدمت الولايات المتحدة لقرار جنوب أفريقيا المشاركة في مناورات بحرية مشتركة مع روسيا والصين في مياه المحيط الهندي قبالة سواحل جنوب أفريقيا. المناورات التي استمرت لعشرة أيام تزامنت مع مرور السنة الأولى لغزو أوكرانيا. المعارضة في جنوب أفريقيا، اعتبرت هذه المناورات انحيازًا واضحًا لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. تحفظات واعتراضات واشنطن المسبقة لم تقنع حكومة جنوب أفريقيا بالعدول عن قرارها. قالت جنوب أفريقيا أنها أجرت في السابق مناورات مماثلة مع الولايات المتحدة وفرنسا، ولكن توقيت إجراء مناورات مشتركة مع روسيا والصين خلال الذكرى السنوية الأولى للغزو صدم المسؤولين في واشنطن.
المسؤولون في جنوب أفريقيا لا يخفون تعاطفهم التقليدي والقديم مع روسيا بسبب رفض الاتحاد السوفياتي السابق لنظام الأبارتايد العنصري في البلاد قبل التخلص منه. بعض هؤلاء المسؤولين الذي يذكرون علاقاتهم القديمة مع النظام الشيوعي السابق في موسكو يقولون أن روسيا لم تستعمر أي دولة أفريقية بعكس الدول الأوروبية التي تحارب روسيا الآن باسم مساعدة اوكرانيا على صيانة استقلالها.
وفي الأيام والأسابيع الماضية، طغت مسألة احتمال قيام الصين بتسليح روسيا على السجال السياسي في واشنطن على خلفية تحذيرات رسمية من كبار المسؤولين الأميركيين، مثل الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، بأن قيام الصين بهذه الخطوة سوف يعرض العلاقات الثنائية إلى اهتزازات أكبر، وسوف يعرّض الاقتصاد الصيني إلى إجراءات عقابية سريعة. وحتى الآن تزود الصين روسيا بمعدات وتقنيات ذات استخدام مدني وعسكري مزدوج، مثل رقائق الكومبيوتر، ولكنها لم تزود موسكو بمعدات عسكرية قتالية. حتى الآن، ينفي المسؤولون الصينيون عزمهم اتخاذ مثل هذه الخطوة الجذرية.
وإضافة إلى الاعتبارات الاقتصادية، هناك أسباب سياسية، وأحيانا عسكرية تفسر مواقف هذه الدول. تستورد الهند، على سبيل المثال، الكثير من الأسلحة من روسيا، والعلاقة العسكرية بين البلدين تعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي. هناك أيضًا علاقات اقتصادية وعسكرية بين روسيا وتركيا، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان جازف بتقويض علاقاته مع حلفائه في حلف الناتو عندما استورد من روسيا منظومة مضادة للصواريخ، في انتهاك لقواعد حلف الناتو.
ومع أن تركيا زودت أوكرانيا بمسيرات استخدمتها القوات الأوكرانية في بداية القتال، إلا أن تركيا تتصرف الآن وفقًا لمصالحها الاقتصادية الضيقة بالدرجة الأولى، خاصة في مجال توثيق علاقاتها مع روسيا في مجالات النفط والغاز والفحم الحجري، وذلك في الوقت الذي تعاني فيه اقتصادات أوروبا من ارتفاع أسعار الطاقة. الرئيسان بوتين وأردوغان ناقشا تحويل تركيا إلى مركز تجاري إقليمي لتصدير الغاز الروسي. أسعار الغاز والنفط الروسية المخفضة لتركيا، ساهمت في منع الاقتصاد التركي من الانزلاق إلى الكساد.
البرازيل رفضت طلب الولايات المتحدة تزويد أوكرانيا بالذخيرة، وزادت من حجم تبادلها التجاري مع روسيا، والرئيس لولا دا سيلفا، حتى بعد زيارته للرئيس بايدن في واشنطن، رفض تأييد أوكرانيا، وتحدث عن ضرورة التفاوض لحل النزاع، وكأن هناك تساو بين المعتدي والضحية.
هذه الدول، من البرازيل مرورًا بجنوب أفريقيا وتركيا والهند وانتهاء بالصين، ترفض ما يسميه بعض المسؤولين والمعلقين فيها محاضرات المسؤولين الأميركيين لهم حول ضرورة احترام سيادة الدول وحرمة أراضيها، دون أن يشعر الأميركيون بأي إحراج بسبب غزوهم لدول مثل افغانستان والعراق، وخاصة مع اقتراب الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق بحجة وجود ترسانة من أسلحة الدمار الشامل فيه، وهو ادعاء لم يكن له أي أساس من الصحة.
ترى هذه الدول أن انشغال الدول الغربية بالحرب في أوكرانيا يأتي على حساب مصالحها وحساب القضايا والتحديات الدولية التي تحتاج برأيهم إلى اهتمام أكبر، مثل معالجة التغيير البيئي، ومضاعفات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، وتضخم مديونية الدول النامية. طبعًا، المسؤولون في هذه الدول يطرحون هذه القضايا المشروعة خلال لومهم للدول الغربية، وإن كان معظمهم يفعلون ذلك للتغطية على استغلالهم لهذه المسائل لتبرير وخدمة مصالحهم الاقتصادية الضيقة، ولو على حساب استمرار الكارثة الإنسانية في أوكرانيا. في بعض الدول النامية، بما فيها دول كانت تعتبر صديقة أو حتى حليفة رسميًا مع الولايات المتحدة مثل تركيا، هناك مشاعر قديمة في أوساط الرأي العام فيها مناوئة للولايات المتحدة، لأن قادة هذه الدول يشجعون وسائل إعلامهم على شيطنة الولايات المتحدة ولومها على معظم مشاكلهم. ولذلك هناك نسب كبيرة من شعوب هذه الدول يتعاطفون مع روسيا في غزوها لأوكرانيا، لمجرد أن الولايات المتحدة تقف في الخندق ذاته مع أوكرانيا.
ووفقًا لاستطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لصالح جامعة أوكسفورد، شمل عشر دول أوروبية وخمس دول من مناطق أخرى في العالم، فإن 42 بالمئة من الصينيين يؤيدون وقف القتال بأسرع وقت ممكن حتى ولو اقتضى ذلك تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا. هذه النسبة تصل إلى 48 بالمئة في تركيا، وإلى 54 بالمئة في الهند. وبعكس الدول الأوروبية، فإن نسب ضئيلة في هذه الدول الثلاثة تفضّل أن تستعيد أوكرانيا كل أراضيها المحتلة.
من الواضح بعد مرور سنة على الغزو الروسي لأوكرانيا أن الدول التي تعيش فيها أغلبية سكان العالم لا تقف ضد روسيا، وقطعًا لا تريد معاقبتها، وهناك شرائح اجتماعية واسعة فيها تعارض استمرار الحرب، وتدعو لوقفها، ولو على أسس غير منصفة للدولة التي تعرضت للغزو.
المساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية التي قدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لأوكرانيا سوف تفوق المئة مليار بعد أن يتم صرفها وإنفاقها خلال الأشهر القليلة المقبلة. ومع أن الرئيس بايدن سوف يظل قادرًا على إقناع مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون على إقرار مساعدات جديدة لأوكرانيا، إلا أنه من الواضح أن هناك كتلة كبيرة نسبيًا من المشرعين الجمهوريين في مجلس النواب يدعون إلى تخفيض، أو حتى وقف المساعدات لأوكرانيا، ويحظى هؤلاء بدعم الرئيس السابق دونالد ترامب، ومن أصوات نافذة في وسائل الإعلام اليمينية. الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يخلق اصطفافات دولية جديدة فحسب، بل أيضا اصطفافات واستقطابات عميقة داخل الولايات المتحدة، سوف يجد الرئيس بايدن نفسه في مواجهتها وهو يقترب من الإعلان عن ترشحه لولاية جديدة.