بعد انتهاء مؤتمري الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وبعد أربعة أيام من الاحتفال بمرشح/ة الحزب ومزاياه/ا، وتوقع فوز الحزب ومرشحيه في الانتخابات المقبلة، وانتقاد، أو حتى شيطنة المرشح المنافس، تبدأ المرحلة الأخيرة من المعركة، في سلسلة من الجولات الانتخابية في الولايات القليلة المتأرجحة، والتي تسمى أيضاً ولايات ساحات المعارك (يستعير السياسيون الأميركيون كل أوصافهم وتحركاتهم من الألعاب الرياضية ومن المعارك العسكرية)، التي تُلقى فيها الخطب الرنانة، وتُعطى فيها الوعود السخية، ويقوم خلالها المرشح بالتقاط آلاف الصور مع الناخبين، ويضطر إلى حمل وتقبيل آلاف الأطفال، ويرتدي مختلف أنواع القبعات، بمن فيها تلك التي تجعله يبدو كمهرج. صحيح أن القضايا الداخلية، وفي طليعتها الاقتصاد، والانعكاسات الداخلية لمسألة خارجية أيضاً مثل الهجرة، هي التي ستحسم نتائج الانتخابات، وليس القضايا الخارجية، إلا أن العالم كله، وخاصة حلفاء الولايات المتحدة يراقبون باهتمام عميق أطول انتخابات وأكثرها غرابة في العالم الديموقراطي، ومن هو الرئيس السابع والأربعين الذي سينتخبه الأميركيون في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وبدأت مرشحة الحزب الديموقراطي، نائبة الرئيس كامالا هاريس، ونائبها تيم والز هذا الشوط الأخير والطويل برحلة برية في ريف ولاية جورجيا، في باص يتوقف في البلدات الصغيرة والقرى التي تصوت تقليدياً للمرشح الجمهوري. قبل البروز المفاجئ لهاريس قبل أكثر من شهر بقليل، كان العديد من المحللين يتوقعون فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في جورجيا. ولكن ترشيح الحزب لهاريس، والحماس الذي صاحب هذا الترشيح، أعاد وضع ولايات مثل جورجيا على ساحة القتال. وللمرة الأولى منذ ترشيحها، أوفت هاريس بوعدها بإجراء أول مقابلة صحافية قبل نهاية شهر أغسطس/آب مع قناة سي إن إن.
من جهته يواصل مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب حملته الانتخابية، التي تزداد غرابة مع مرور كل يوم، حيث يلمح الرئيس السابق إلى أن الرئيس بايدن ونائبته هاريس مسؤولين “إلى حد ما” عن تعرضه لمحاولة اغتيال قبل أسابيع، ولا يتردد في القول أن الله أحبط محاولة اغتياله لأنه يريده أن يفوز في الانتخابات. يتحدث ترامب عن هاريس ونائبها والز بمزيج من الاحتقار والاستخفاف والإحباط، وهذا يعود إلى أن الصعود المفاجئ والسريع لها قلب مسلمات وطروحات وتوقعات ترامب بفوز مؤكد رأساً على عقب، بعد انسحاب بايدن من السباق. وفجأة وجد ترامب نفسه في موقع دفاعي صعب رفض فيه تقدم هاريس في استطلاعات الرأي، وقبول حقيقة إقبال آلاف الناخبين على حضور مهرجانات هاريس، ما دفعه للادعاء بأنها تلجأ إلى أسلوب “الذكاء الاصطناعي” للتلاعب بصور الجماهير وتضخيمها.
استطلاعات الرأي تبين أن هاريس إما متعادلة مع ترامب، أو متقدمة عليه في بعض الولايات المتأرجحة، ولكن نسبة تقدمها لا تزال أدنى من ثلاث نقاط. ويقول المحللون إن الاستطلاعات حول ترامب نادراً ما تعطي معلومات موثوقة، لأن هناك شريحة من الناخبين تتردد في المشاركة في هذه الاستطلاعات، وإذا شاركت فإنها لا تقول بصراحة رأيها بترامب، وخاصة إذا كان هذا الرأي إيجابي.
حتى الآن، المواجهة بين المرشحين تدور حول شخصيتهما، وبشكل مبهم حول “رؤية” كل منهما للمستقبل، وما يريد أن يحققه كل مرشح. للرئيس ترامب مواقف وطروحات هي في الواقع مشاعر وانطباعات شخصية ومزاجية، أكثر منها سياسات مبنية على حسابات عقلانية واستراتيجية لحماية مصالح البلاد في عالم متغير، لا تستطيع فيه حتى دولة كبيرة، مثل الولايات المتحدة، أن تزدهر وتتطور في غياب تحالفات دولية تساعدها على التصدي لخصومها. ما نعرفه عن طروحات ترامب الاقتصادية وشعاره الانعزالي ” أميركا أولا” هو إيمانه باستخدام سلاح التعريفات الجمركية في التجارة الدولية، ومعاقبة الخصوم والحلفاء مالياً إذا لم يتصرفوا وفقا لمزاجه وميوله، التي تتغير ويصعب التكهن بها. ترامب كاد أن يدمر حلف الناتو، وهو من أهم الاحلاف العسكرية-السياسية في التاريخ، لأنه لا يؤمن أصلا بمثل هذه الأحلاف، ولأن بعض دول الحلف لا تنفق اثنين بالمئة من مجمل دخلها القومي على المجهود العسكري.
ترامب الشخصاني في سلوكه وتصرفاته ينتقل من التهديد بتدمير كوريا الشمالية، إلى الوقوع في غرام زعيمها الدكتاتور كيم يونغ أون، كيم الذي أدرك أن الوصول إلى قلب ترامب هو في مديحه بسخاء.
اعجاب ترامب ببعض طغاة العالم، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتأكيده بأنه وحده قادر على التعامل مع شخصيات قوية مثل الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، يعكس رغبته بالتصرف كرئيس يملك صلاحيات تجعله أوتوقراطياً، وغير خاضع للضوابط والتوازنات المعمول بها في الأنظمة الديموقراطية، والمسائلة التي تفترضها المؤسسات الشفافة.
موقف ترامب، وغيره من الانعزاليين الأميركيين من الغزو الروسي لأوكرانيا، يعكس عدم مبالاته بالدفاع عن القانون الدولي أو مساعدة دولة كانت تسير على طريق الديموقراطية قبل اجتياحها من قبل دولة جارة معتدية وتوسعية مثل روسيا. نائب ترامب جي دي فانس له قول مشهور حول أوكرانيا خلال حملته لعضوية مجلس الشيوخ، ” لا يهمني ما يحدث لأوكرانيا”.
مواقف ترامب من الهجرة تعكس نظرته الفوقية والمتشددة للشعوب غير الأوروبية، وهو الذي تساءل لماذا لا يهاجر إلى الولايات المتحدة المزيد من المهاجرين الأوروبيين، بدلاً من المهاجرين القادمين من الدول الأفريقية التي يحتقرها. ترامب هو الرئيس الأميركي المعاصر الذي سعى لمنع الهجرة من بعض الدول ذات الأكثرية المسلمة. مع ترامب امتزجت الهجرة إلى الولايات المتحدة، وخاصة الهجرة غير الموثقة، مع مخاوف تلك الشريحة من الأميركيين المنحدرين من أصول أوروبية، والتي ترى أن نفوذها وعددها يتضاءل باستمرار، وأن “الأخرين” غير البيض يسيطرون على البلاد، وسوف يرثونها في المستقبل.
في المقابل ترفض كامالا هاريس، بصفتها جزءاً من إدارة الرئيس جوزيف بايدن سياسات وطروحات وميول ترامب حول الأحلاف الدولية وخاصة حلف الناتو، وتحدت ترامب فيما يتعلق بقبول التسوية حول الهجرة التي توصل إليها قبل بضعة أشهر بعض المشرعين الجمهوريين والديموقراطيين للتعامل بطريقة فعالة وإنسانية، مع هذه المسألة الخلافية الحساسة بطريقة تحترم سيادة البلاد، ولكن تتعامل بطريقة عادلة مع المهاجرين. وكان المرشح ترامب قد ضغط على المشرعين الجمهوريين في مجلس الشيوخ لرفض هذه التسوية لأن تحويلها إلى سياسية أميركية سوف يخدم مصلحة الديموقراطيين في السلطة.
الديموقراطيون تحدثوا في مؤتمرهم عن عودة الفرح والبهجة إلى الحزب بعد مشاعر القنوط والتشاؤم التي هيمنت على الديموقراطيين خلال حملة الرئيس بايدن، وخاصة في أعقاب أدائه السيء في المناظرة مع ترامب. مشاعر الفرح والبهجة، والحديث عن المحاربين السعداء أمر جيد وايجابي، ولكنه لا يمكن أن يكون سياسة أو استراتيجية.
حتى الآن، لم تتقدم هاريس بأي مواقف أو سياسات مفصلة لمعالجة التحديات التي تفرض نفسها على الولايات المتحدة تتخطى مواقف وطروحات الرئيس بايدن أو تساهم في حل هذه النزاعات، فهي لم تتطرق على سبيل المثال إلى كيفية معالجة أزمة جزيرة تايوان التي هي النقطة الخلافية الأساسية والخطيرة بين الولايات المتحدة والصين، كما ليس من الواضح ما إذا كانت ستلجأ إلى أسلوب مختلف في التعامل مع كوريا الشمالية أو إيران. في خطابها في المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي، أكدت هاريس وقوفها وراء أوكرانيا، ولكنها لم تلزم نفسها بدعم أوكرانيا إلى أن تحرر جميع أراضيها من الاحتلال الروسي. بايدن لم يلزم نفسه بهذا الموقف. موقف هاريس من حرب إسرائيل ضد غزة لا يختلف جوهرياً عن موقف بايدن الداعم لإسرائيل، وإن كانت لغتها تعكس استياء أقوى من حجم الخسائر المدنية الفلسطينية الضخمة. وبينما سمحت هاريس وقادة الحزب الديموقراطي لعائلة رهينة إسرائيلية أن تخاطب المؤتمر حول معاناة الرهائن، إلا انها قاومت رغبات العديد من المندوبين السماح لمندوبة من أصل فلسطيني مخاطبة المؤتمرين ولو لدقائق قليلة.
هاريس كررت الطقس السياسي التلقائي الذي يكرره معظم السياسيين الأميركيين من تقديم الدعم الكامل لإسرائيل، ولكنها أشارت إلى الخراب الكبير الذي تعرضت له غزة، وقالت أنها تعمل مع الرئيس بايدن على إنهاء الحرب وضمان إسرائيل آمنة، وتحقيق عودة الرهائن، “ووضع حد نهائي لمعاناة غزة، وعلى أن يحقق الشعب الفلسطيني حقه بالكرامة، والأمن والحرية وحق تقرير المصير”. (حظيت هذه الجملة الأخيرة بتصفيق حاد وطويل وتخللها هتافات “فلسطين حرة”)، ولكن هاريس تفادت ذكر حق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة في الأراضي التي تحتلها إسرائيل. هذا على الرغم من أن عبارة “حل الدولتين” قد دخلت القاموس السياسي الأميركي منذ بضعة عقود، وبعد أكثر من نصف قرن من حديث الرئيس الأسبق جيمي كارتر للمرة الأولى عن حق الفلسطينيين بأن يكون لهم “وطن” خاص بهم.
التصعيد الإسرائيلي الدموي الأخير ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة لم يؤد إلى إدانة أميركية قوية من قبل الرئيس بايدن الذي يبدو هذه الأيام وكأنه في أجازة مفتوحة، أو من قبل هاريس. طبعاً، ليس سهلاً على نائب رئيس أن يطرح سياسيات تختلف عن سياسات وطروحات الرئيس الذي يخدمه، ولكن خطوات رمزية مثل السماح لمندوب فلسطيني الأصل بمخاطبة المؤتمر، أو استنكار العنف الإسرائيلي الجديد ضد الضفة الغربية لا يشكل بالضرورة تحدياً جوهريا للرئيس بايدن، وإن كان سيبعث برسالة إلى جميع المعنيين بالقضية الفلسطينية أنها ستحاول، على الأقل، أن تتعامل بجدية وبعدالة وحساسية مع هذه القضية، وأن مثل هذا التوجه لا يتعارض مع المصلحة الوطنية للولايات المتحدة.