بدأ السباق غير الاعتيادي إلى البيت الأبيض بين الرئيس ترامب ومنافسه الديموقراطي جوزيف بايدن، عقب انسحاب المرشح بيرني ساندرز، آخر منافس لبايدن للحصول على ترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة. وهذه هي المرة الأولى منذ عقود يسعى فيها رئيس أميركي لولاية ثانية وهو يواجه أزمة اقتصادية ضخمة، تهدد برفع معدل البطالة إلى أكثر من 30% خلال بضعة اسابيع، وفي ظل جائحة قاتلة تهدد البلاد مثلها مثل حرب شنها عدو غير متوقع ودون أي استفزاز.
مع بداية العام بدت حظوظ بايدن بالحصول على ترشيح حزبه تتراوح بين الضآلة والاستحالة. هذا التقويم أصبح راسخاً بعد السباقات الأولية للديموقراطيين في ولايات آيوا ونيوهامبشر ونيفادا، التي فاز فيها المرشح الاشتراكي الديموقراطي بيرني ساندرز. وبينما كان بعض المحللين ينعون بايدن سياسياً، بدا البيت الأبيض مرتاحاً للغاية لمواجهة محتملة بين ترامب، الذي سيستخدم وضعاً اقتصادياً جيداً نسبياً ومعدلات متدنية جداً للبطالة، ضد مرشح اشتراكي سوف ينفق المال العام على التعليم الجامعي المجاني، وبرنامج طموح يوفر الضمان الصحي لكل أميركي، مع تخفيض كبير للميزانية العسكرية. وفقاً لهذا التقويم لحملة ترامب، اشتراكية ساندرز لا تختلف كثيرا عن اشتراكية كوبا، أو ما هو أسوأ اشتراكية رئيس فينزويللا نيكولاس مادورو.
ولكن مع التغير المفاجئ لحظوظ بايدن في مطلع مارس/آذار، وانسحاب بعض المرشحين لصالحه مع التفاف قيادات الحزب حوله، انطلاقا من مقولة: هدف الديموقراطيون الأساسي هو هزيمة ترامب، وأن بايدن هو المرشح المؤهل لهزيمته، هذه التطورات أعادت السباق إلى البيت الأبيض في 2020 إلى مسلمات وافتراضات عام 2019، حين توقع الكثيرون، ومن بينهم الرئيس ترامب أن تكون المواجهة بينه وبين بايدن. الكثيرون رأوا الانتخابات آنذاك على أنها وقائع سباق معلن بين الرجلين. ترامب رأى في بايدن منافساً قوياً يمكن أن يفوز بولايات محورية، مثل بنسلفانيا وميتشجان وأوهايو، التي خسرتها منافسته هيلاري كلينتون في 2016.
هذا القلق من بايدن، إن لم نقل الهاجس، هو الذي أدى إلى محاكمة ترامب في مجلس النواب (قبل أن يبرأه مجلس الشيوخ في فبراير/شباط). التهمة الرئيسية التي وجهها مجلس النواب لترامب تمحورت حول اسائته لصلاحياته الدستورية، حين طلب من اوكرانيا التحقيق مع عائلة بايدن، لاستغلال أي معلومات “قذرة” عن بايدن أو نجله، هنتر، الذي كان لفترة عضواً في مجلس إدارة شركة أوكرانية للطاقة. ترامب رأى في بايدن، وفقاً لرئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدام شيف، الذي قاد فريق الادعاء، “خصماً سياسياً كان الرئيس ترامب يخافه جدا”.
ولكن بدلا من سباق تقليدي، قوّض فيروس كورونا كل المسلمات والأعراف والتقاليد، وجمّد مجمل النشاطات الانتخابية، ووضع المرشح بايدن أسيراً في منزله بولاية ديلاوير. كما منع الرئيس ترامب من مغادرة البيت الأبيض لمخاطبه أنصاره في مهرجاناته الانتخابية الصاخبة التي يعشقها.
المرشح بايدن لا يستطيع الآن اصطحاب بيرني سادرز إلى نشاطاته الانتخابية، لإقناع الناخبين الديموقراطيين أن الحزب متحد في رغبته بهزيمة ترامب، وأن بايدن سوف يعتمد بعض طروحات وأفكار ساندرز في الحملة العامة ضد ترامب. مسألة توحيد الحزب الديموقراطي، بعد حملة قاسية نسبياً، هي هدف رئيسي لبايدن، نظرً للمخاوف في أوساط الحزب من أن شريحة هامة من مؤيدي ساندرز، وخاصة الشباب والطلاب المتحمسين له، قد لا يقترعون لبايدن في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وهذا ما حدث في 2016، حين رفض هؤلاء التصويت لهيلاري كلينتون، وساهموا بشكل غير مباشر في انتخاب ترامب. وهكذا اضطر بايدن لمخاطبه أنصاره والمسؤولين في حملته عبر الانترنت والاتصالات المصورة، ولكن هذه الأساليب غير التقليدية للتواصل مع القاعدة الحزبية غير كافية ومحدودة، كما أنها حولت بايدن إلى مرشح خفي بالنسبة للناخبين العاديين.
ولكن اللجان السياسية التي تؤيد الحملتين لجأت الى الدعاية التلفزيونية لإيصال مواقفها للناخبين، عبر بث دعايات مكلفة. وركزت الدعاية الديموقراطية على الاخفاق الكبير لترامب في مكافحة فيروس كورونا، حيث استخدمت تصريحاته المتناقضة والمضللة خلال الأسابيع الأخيرة لإظهاره مرتبكاً وغير ملماً بالحقائق. في المقابل بدأ مؤيدو ترامب ببث دعاية ضد بايدن في الولايات المحورية، التي يتخوفون من أن يفوز بها بايدن، مثل بنسلفانيا وميتشجان وويسكونسن.
وبدأ ترامب باستخدام الايجاز اليومي في البيت الأبيض، حول آخر تطورات مكافحة جائجة كورونا، كمنبر انتخابي، حيث يحول الايجاز أحياناً إلى مناوشات صاخبة بينه وبين المراسلين في البيت الأبيض، ويكيل لهم الاهانات ويتهجم عليهم، تماماً كما يفعل عادة خلال مهرجاناته الفولكلورية الانتخابية. هذا الظهور اليومي لترامب، والذي يعطيه المجال للعب دور الرئيس الحازم والحاسم والقادر على المبادرة واتخاذ القرارات، رفع بعض الشيء من شعبيته في بداية الايجازات. ولكن استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت ان أكثرية بسيطة من الأميركيين لا تؤيد أداء ترامب في مكافحة فيروس كورونا.
وإضافة إلى استطلاعات الرأي، أعرب معلقون محافظون ومراقبون عديدون عن استيائهم من سلوك وتصرفات ترامب خلال ايجازات البيت الأبيض. وفي مواجهة الأسئلة الصعبة التي تطرح عليه في البيت الأبيض حول أدائه الرديء في مكافحة الجائحة، ونكرانه الأولي لخطرها، والبطيء في تعبئة موارد الحكومة الفيدرالية، يقوم ترامب بتحميل الأخرين مسؤولية تحول الولايات المتحدة إلى الدولة الأولى في العالم بعدد الاصابات بأعراض فيروس كورونا، (حوالي نصف مليون)، والدولة التي خسرت أكبر عدد من الضحايا (17000 خلال شهر واحد). وكل يوم هناك طرف غير ترامب مسؤول عن الكارثة، ويتنقل ترامب بين لوم الصين، أو إدارة الرئيس السابق باراك أوباما (التي يتهمها بأنها أورثت إدارته بنية صحية ضعيفة، وهو ادعاء لا أساس له من الصحة)، أو لوم منظمة الصحة العالمية، أو هدفه المفضل الحكام الديموقراطيين للولايات المنكوبة بشدة مثل نيويورك وواشنطن وإلينوي وغيرها.
مساء الأربعاء نشرت صحيفة وال ستريت جورنال المحافظة، والتي تؤيد عادة قرارات ترامب، افتتاحية تضمنت نقداً قاسياً للايجازات الصحفية اليومية التي يجريها الرئيس، واعتبرتها “مضيعة وقت” لأنها مخصصة “للنزاعات الشخصية لترامب”. وانتقدت الافتتاحية ترامب لهجومه الدوري ضد الصحفيين وحكام الولايات وغيرهم من منتقديه، وخاصة في ضوء ضخامة التحدي الذي تواجهه البلاد. رد ترامب مغرداً بشدة ضد الصحيفة التي اتهمها بأنها “تنسى” أن تذكر أن تقدير(rating) الايجازات اليومية عالٍ “ويخترق السقف”، وقارن ذلك بتقدير المباريات الرياضية، وبرامج زواج العذّاب، مضيفاً “أن الايجازات هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لي للتهرب من الصحافة الملفقة وايصال مواقفي بشكل مباشر. وال ستريت جورنال هي صحافة ملفقة”.
عندما ينحسر خطر فيروس كورونا، وإذا استؤنفت النشاطات الانتخابية، سوف نشهد تصعيداً ملحوظاً في السجال الانتخابي. وفي هذا السياق، سوف تملك حملة بايدن سلاحاً سريا سوف تستخدمه مع اقتراب يوم الحسم، اسمه باراك أوباما. المصادر المقربة من الرئيس السابق تقول إنه متحمس للقيام بنشاطات انتخابية مصممة لتوحيد الحزب الديموقراطي حول بايدن، نائبه السابق. ومن المتوقع أن تساهم ميشيل أوباما، السيدة الأولى السابقة، في هذه النشاطات الانتخابية، نظراً لشعبيتها العالية، وخاصة في أوساط النساء من مختلف الخلفيات.
في هذا الوقت المبكر في السباق، يلتقي معظم المحللين والمسؤولين السابقين من جمهوريين وديموقراطيين على القول إنه إذا استمر ترامب في إدارته السيئة لمكافحة الوباء، وإذا استمرت معدلات الوفيات والاصابات عالية، وإذا بقيت الأثار الاقتصادية لهذا الفيروس القاتل عالية، فإن الانتخابات سوف تتمحور حول مسألة واحدة: أداء ترامب وإدارته في مكافحة الوباء. وكما يتبين من بدايات حملة بايدن، سيسعى الديموقراطيون إلى ابراز تخبط وخطورة واخفاق ترامب في مكافحة جائحة كورونا، وتحويل الانتخابات إلى استفتاء يؤدي إلى اسقاط ترامب واخراجه من البيت الأبيض.