“علينا بكل صدق، وبكل عدائية مهاجمة الجامعات في هذه البلاد، أساتذة الجامعات هم العدو”. نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس
صعقت الأوساط السياسية والاعلامية في واشنطن هذا الأسبوع، عندما كشف رئيس تحرير مجلة ذي أتلانتك العريقة، جيفري غولدبيرغ، أن مستشار الأمن القومي مايكل والتز أضافه بالخطأ إلى مجموعة تضم 18 مسؤولاً سياسياً وأمنياً بارزاً، ليشاركوا في نقاش سري على تطبيق سيجنال حول تفاصيل الهجوم الجوي والبحري، الذي شنته القوات الأميركية ضد مراكز الحوثيين في اليمن في منتصف الشهر الجاري. كشف التقرير الأولي لغولدبرغ بعض تفاصيل العملية العسكرية، وأظهر أن النقاش، الذي شارك فيه أيضا نائب الرئيس جي دي فانس ووزيري الدفاع والخارجية بيت هيغسيث وماركو روبيو ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف وغيرهم، تطرق إلى الحديث عن معلومات يفترض أن تكون سرية وألا تناقش في منصة تجارية خاصة. وسارع المسؤولون الذين ذكرهم تقرير المجلة، إلى نفي صحة مضمون المقال، ولحق بهم الرئيس دونالد ترامب، حيث شنوا حملة تشهير شخصية ضد رئيس التحرير غولدبيرغ، واتهامه بتلفيق الخبر، والايحاء بأنه أقحم نفسه في النقاش – لم يذكروا كيف – وهو الذي لم يتخذ أي قرار، ولم يشارك طبعاً في النقاش، بل سحب اسمه من النقاش بعد الهجوم. في تقريره الثاني، كشف غولدبيرغ التفاصيل العسكرية الحساسة والسرية، التي أشار أو ألمح إليها في تقريره الأول لكيلا يكشف أسرار عسكرية حساسة. واستمرت حملة الحكومة الأميركية بقيادة الرئيس ترامب ضد غولدبرغ، الذي وصفه الرئيس ترامب “بالشخص الدنيء”، ووصفه أيضا مستشار الأمن القومي مايك والتز “بالحثالة”، وليس تفنيد مضمون رسالته.
في الأنظمة التي تسمى “ديموقراطية غير ليبرالية”، وهي الأنظمة التي تحافظ على بعض الممارسات الديموقراطية، مثل الانتخابات، ولكنها تقيد حرية التعبير، وترفض مفهوم القضاء المستقل، ويقوم الحاكم، تحت مظلة الحكم الديموقراطي الشكلي، بتعزيز سلطته الأوتوقراطية من خلال تقويض حريات التعبير والرأي، وحرمان القضاء من استقلاليته، والسيطرة على الجامعات بصفتها مرجعيات ثقافية وفكرية مستقلة. وهذا ما يفعله دونالد ترامب في الشهرين الأوليين من ولايته الثانية. بالإضافة إلى إضعاف الدولة المدنية، التي يسميها أحياناً “الدولة العميقة”، باسم التخلص من عسف التكنوقراط والبيروقراطيين الذين لا وجوه لهم.
حصيلة هذه الممارسات، واللغة السياسية المطلقة التي يستخدمها ترامب، الذي يتصرف وكأن صلاحياته التنفيذية لا يقيدها الدستور، ساهمت في ترهيب الأوساط الاعلامية والقضائية والجامعية، وخلقت جواً عاماً من الخوف لم تشهده الولايات المتحدة منذ الحقبة المكارثية في خمسينات القرن الماضي، خلال أحلك لحظات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. في تلك الفترة قام السناتور الجمهوري جوزيف مكارثي وحلفائه، باسم التصدي للنفوذ السوفياتي واختراق الشيوعيين للأجهزة الأميركية، بشن حملة ترهيب كبيرة ضد المثقفين والفنانين والصحفيين الليبراليين.
قبل أيام، هاجم ترامب عدداً من أبرز صحفيي ومحرري النيويورك تايمز، لأنهم تجرأوا على انتقاد مستشار الرئيس، الذي يوصف بأنه أغنى إنسان في العالم ايلون ماسك ووزارة الدفاع (مصادر بارزة قالت للصحيفة أن وزير الدفاع يود اطلاع ماسك على الخطط العسكرية ضد الصين)، ووصفهم بالمرضى النفسيين والمختلين، متهماً إياهم بتزوير الانتخابات ضده. ويلجأ ترامب، الذي يصف الصحافة بأنها عدوة الشعب الأميركي، عادة لمقاضاة الصحفيين وإرغامهم على دفع التكاليف الباهظة للدفاع عن أنفسهم في المحاكم.
منذ بدء ولايته الثانية، وقعّ الرئيس ترامب على مئات القرارات التنفيذية، التي واجهت تحديات قانونية في المحاكم الفيدرالية، ما أدى إلى مواجهات علنية بينه وأركان إدارته وبين عدد من القضاة، الذين لم يتورع هو ونائبه جي دي فانس، وغيرهم من المسؤولين، عن مهاجمتهم شخصياً، والتشكيك بنزاهتهم وصدقيتهم. هذه الانتقادات العنيفة وغير المسبوقة من الرئيس الأميركي، خلقت المخاوف من انزلاق البلاد إلى أزمة دستورية، وخاصة بعد أن ألمح مسؤولين من بينهم نائب الرئيس إلى احتمال رفض الحكومة تنفيذ قرارات المحاكم الفيدرالية، وهو أمر لم يحدث منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من 150 سنة.
وقبل أيام، دعا ترامب إلى خلع قاض فيدرالي أصدر أمراً يمنع بموجبه ترحيل عشرات المواطنين من فنزويلا متهمين بالانتماء إلى عصابة خطيرة إلى سجن مُخصص للسجناء الخطرين في جمهورية السلفادور دون أي إجراءات قضائية أو اتهامات محددة ضدهم، أو السماح لهم بتحدي نفيهم بشكل اعتباطي إلى دولة ثالثة، مستخدماً قانوناً مخصصاً لمعاقبة “الأعداء الأجانب” يعود للقرن الثامن عشر، واستخدم فقط خلال ثلاثة حروب، كانت أخرها الحرب العالمية الثانية. وهناك أدلة بأن إدارة ترامب تجاهلت تنفيذ هذا القرار المُلزم، وحتى بعد مرور أيام عديدة على وصول السجناء إلى السلفادور، يرفض المسؤولون الإجابة على أسئلة القاضي حول الوقائع التي أحاطت بعملية الترحيل. ومنذ قرار القاضي جيمس بوسبيرغ، والرئيس ترامب يشكك بنزاهته وصدقيته، ودعا إلى تجريده من منصبه مستخدماً مقالاً حول حضور القاضي بوسبيرغ لمؤتمر قانوني تحدث فيه “بعض الخطباء المعادين لترامب”.
ونظراً لوجود أكثر من مئة دعوى قضائية تتحدى قرارات ترامب التنفيذية، الأمر الذي يؤخر تنفيذ أوامره، طالب ترامب المحكمة العليا بتقييد حق القضاة الفيدراليين في إصدار قرارات تمنع تنفيذ قراراته التنفيذية، ومنها مثلاً قراره التنفيذي الذي يقضي بحرمان أي طفل يولد في الولايات المتحدة لأبوين غير أميركيين من الحصول تلقائياً على الجنسية الأميركية، وهو حق يضمنه الدستور الأميركي. وكتب ترامب على منصته تروث سوشال مطالباً القاضي جون روبرتس رئيس المحكمة العليا، “وقف أوامر المنع هذه الآن قبل فوات الآوان”، ورأى أنه إذا لم تقم المحكمة العليا “بإصلاح هذا الوضع المؤذي وغير المسبوق فوراً، فإن بلادنا ستواجه مشكلة خطيرة”.
وكان القاضي روبرتس، في خطوة هامة قد “أنب” ترامب في بيان لم يذكره بالاسم، لأنه دعا إلى محاكمة وخلع القاضي بوسبيرغ، لأنه تحدى قراره نفي السجناء الفنزويليين إلى السلفادور. وهناك يومياً تقريباً مواجهات بين إدارة ترامب والجهاز القضائي، الذي يتميز باستقلاليته، ما خلق مشاعر خوف وقلق في الأوساط القضائية من وصول البلاد إلى أزمة دستورية خطيرة.
وفي حملته ضد القضاء المستقل، شمل ترامب مكاتب المحاماة الكبيرة في البلاد، لأنها تمثل شخصيات يعاديها ترامب. وفي هذا السياق، يطلب ترامب من وزارة العدل إلغاء التصريحات الأمنية التي تسمح لهؤلاء المحامين دخول المباني الحكومية، ما يعني منعهم من تمثيل المدعى عليهم والدفاع عنهم. خلق أسلوب الترهيب هذا توتراً وانقساماً بين مكاتب المحاماة، التي تريد التصدي لهذا الترهيب الحكومي، وتلك التي تريد أن تتوصل إلى تسوية مع ترامب أو القبول بشروطه، والتراجع عن تمثيل تلك الشخصيات التي يعاديها ترامب.
وكان ترامب قد قام في خطوة انتقامية غير مسبوقة إصدار أوامر تنفيذية ضد أربع مكاتب محاماة كبيرة، كان آخرها يوم الثلاثاء الماضي ضد مكتب محاماة لأنه كان يوظف مدعياً سابقاً اسمه آندرو وايزمان، كان ضمن فريق المحقق روبرت مولر، الذي حقق في علاقة ترامب مع روسيا خلال ولايته الأولى. أما المكاتب الثلاثة الأخرى، فإن ترامب أراد معاقبتها لمجرد تمثيلها لشخصيات سياسية يعاديها. وفي الأسبوع الماضي، حققت حملة الترهيب هذه أول انتصار لها عندما رضخ مكتب المحاماة المشهور بول ويس (Paul Weiss) لشروط ترامب مقابل إلغاء القرار التنفيذي، ما أدى إلى تشجيع ترامب وإدارته على مواصلة هذه الحملة ضد مكاتب المحاماة الموجودة وفقاً لتقارير صحفية على لائحة لدى البيت الأبيض. في المقابل، قام مكتب المحاماة بيركنس كوي (Perkins Coie) بتحدي قرار ترامب، ما دفع القاضية التي تنظر في الدعوى إلى القول إن قرار ترامب مخيف “ويهدد دعائم نظامنا القضائي”.
بالإضافة لما سبق، يقوم نائب الرئيس جي دي فانس منذ سنوات بشنّ حربه الخاصة ضد الجامعات الأميركية، التي يتهم معظمها بنشر القيم الليبرالية، ووصل إلى حد اتهام هذه الجامعات بأن هدفها “ليس تعليم المعرفة أو الحقيقة بل الخداع والأكاذيب”. ويرى فانس أن الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان اقترب أكثر من غيره من المحافظين من التعامل الناجح مع الجامعات التي يسيطر عليها اليسار، وتابع، “اعتقد أن أسلوبه هو النموذج الذي يجب أن نعتمده: ليس إلغاء الجامعات، بل إعطائهم الخيار بين البقاء على قيد الحياة، أو اتخاذ موقف أقل انحيازاً ضد التعليم” في إشارة واضحة إلى استخدام التمويل لترهيب هذه الجامعات. وتبين تجربة إدارة ترامب-فانس منذ شهرين أن نموذج أوربان هو المعتمد حالياً في تحييد أو ترويض الجامعات الأميركية.
ولم يتردد ترامب في اتخاذ موقف عدائي من مؤسسات التعليم العالي، عندما هدد بإلغاء أو تجميد مئات الملايين من الدولارات التي تعطى لهذه الجامعات كمنح لتمويل الأبحاث والدراسات العلمية، إذا لم تقبل بأولوياته السياسية والثقافية، وتعدل من برامجها. وفي هذا السياق، قام ترامب بوقف منح جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك مبلغ 400 مليون دولار لتمويل الأبحاث فيها، (يرى الخبراء أنه قرار غير قانوني)، كما علق تقديم منحة بقيمة 175 مليون دولار لتمويل الأبحاث في جامعة بنسلفانيا.
وطلب ترامب من وزارة التعليم التحقيق بأكثر من 52 جامعة في 41 ولاية بتهم ممارسة “الاختيار المبني على العرق، والصور النمطية في برامج التعليم وغيرها من الأنشطة”. وتهدف هذه التحقيقات إلى إلغاء البرامج التعليمية، وخاصة في مجال الدراسات العليا، والمخصصة لمساعدة الطلاب من أصل أفريقي، أو لاتيني أو من السكان الأصليين في البلاد.
ويأتي استهداف ترامب لجامعة كولومبيا، في سياق سياسته المنحازة لإسرائيل، وقمع التظاهرات الطلابية ضد اجتياح إسرائيل لقطاع غزة، ولأنها تمارس سياسة “التنوع والمساواة والشمول”، التي تضمن قبول الطلاب من مختلف الخلفيات الاثنية والدينية والاجتماعية، وهي السياسة التي ألغاها ترامب، والتي كانت تعتمدها الحكومة الأميركية في التوظيف. ووصل عداء إدارة ترامب لجامعة كولومبيا إلى مطالبتها بإعادة هيكلة قسم دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا، والتخلص من قادته الراهنين، الأمر الذي يهدد جوهر الحريات الأكاديمية.
وقبل أيام رضخت جامعة كولومبيا (الذي كان المفكر الفلسطيني-الأميركي المعروف إدوارد سعيد، أحد أعمدتها الفكرية لسنوات طويلة) لشروط ترامب، في خطوة أذهلت الأوساط الأكاديمية، التي سرت فيها مشاعر الخوف والقلق. ووافقت الجامعة على تغيير سياستها تجاه التظاهرات الطلابية، (التي أتُهِمت بالعداء للسامية) وممارساتها الأمنية، وإعادة هيكلة قسم دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا، في خطوة غير مسبوقة من أجل استعادة المنحة الحكومية بقيمة 400 مليون دولار، مع كل ما يعنيه رضوخها من تصعيد إدارة ترامب لحملتها ضد الجامعات المرموقة في البلاد. وتواجه كبريات الجامعات الأميركية، ومن بينها هارفارد وستانفورد وجامعة ميتشيغان وعشرات غيرها تحقيقات فيدرالية، وتخشى من عقوبات مالية مماثلة. وتعتمد الجامعات الكبرى على التبرعات من متخرجيها، ولكنها تعتمد كثيراً على المنح الحكومية لتمويل الأبحاث. وتخشى الأوساط الاكاديمية من أن يؤدي قرار كولومبيا إلى خلق سابقة خطيرة.
في مقابلة أجراها ترامب في 2016 مع الصحفي والكاتب بوب وودورد لصحيفة واشنطن بوست، قال ترامب ” القوة الحقيقية هي – وأنا لا أريد استخدام الكلمة – الخوف”. ترامب اليوم يرأس ما يسميه البعض جمهورية الخوف الأميركية.