الإخفاق المحرج والتاريخي للحزب الجمهوري، الذي استعاد السيطرة على مجلس النواب بأكثرية بسيطة من أربعة أصوات، في انتخاب رئيس للمجلس بعد سلسلة من الجولات، وذلك للمرة الأولى منذ مئة سنة، أبرز إلى العلن بعض الحقائق السياسية السافرة حول التحولات الجذرية والسلبية التي طرأت على الحزب الجمهوري منذ أكثر من عقد من الزمن. مظاهر الفوضى والضعف التي طغت على عمل مجلس النواب، الذي يسمى “بيت الشعب”، وجنوح بعض المشرعين إلى الطروحات والمواقف العبثية، وشغفهم العلني بتعطيل عمل هذه المؤسسة الحيوية، بدت نافرة، وأحيانا مقززة لملايين الأميركيين الذين شاهدوها في بث مباشر.
جولات التصويت المتتالية على ترشيح الزعيم السابق للأقلية الجمهورية النائب كيفين ماكارثي (ولاية كاليفورنيا)، والذي كان يتوقع بعد الانتخابات النصفية أن يحقق طموحه، إن لم يكن هاجسه القديم باحتلال منصب رئيس مجلس النواب، أظهرت أيضًا إلى أي مدى نجح التيار اليميني المتشدد، المغالي في عدائه للحكومة الفيدرالية خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، في اختطاف الحزب الجمهوري، وتعميق الاستقطابات السياسية والأيديولوجية والجهوية في المجتمع، وتغيير طبيعة اللغة والحياة السياسية في البلاد.
الفوضى ومشاعر انعدام اليقين التي عمت مجلس النواب – بعد سنتين من اقتحامه من قبل العنصريين والمتطرفين من أنصار الرئيس السابق ترامب لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية – ليست محرجة فقط للحزب الجمهوري، بل أيضا للطبقة السياسية بمجملها، لأنها تعبير علني آخر، شاهده أصدقاء وأعداء الولايات المتحدة معًا، عن عمق التحديات الداخلية التي لا تزال تهدد الديموقراطية الأميركية.
الرئيس بايدن عبّر عن مشاعر العديد من الأميركيين حين قال إن فوضى الجمهوريين في الكونغرس “محرجة” لأن العالم يراقبها ويتساءل، لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة ترتيب أوضاعها.
خلال الأسابيع السبعة التي تلت الانتخابات النصفية، حاول كيفين ماكارثي استرضاء معارضيه – الذين يصفهم بعض المحللين “بالمتمردين” أو “مطلقي القنابل الحارقة”- من خلال قبوله بمعظم مطالبهم وشروطهم المتعلقة بتغيير قواعد عمل المجلس، بما في ذلك قبوله بحق خمسة أعضاء في المجلس بطرح إقالة رئيس المجلس على التصويت، إذا رأوا أن الأمر يقتضي ذلك. هذه الأقلية الصاخبة تريد أن تلعب دورًا هامًا في كيفية إدارة لجان المجلس، وتعيين بعضهم في مناصب حساسة في هذه اللجان، التي يريد المتشددون أن تقوم بتنظيم تحقيقات بسياسات الرئيس بايدن وبأفراد من عائلته، خاصة نجله هنتر. بعض هؤلاء يطالبون بمحاكمة بعض المسؤولين في حكومة الرئيس بايدن، خاصة وزير الأمن الوطني أليهاندرو مايوركاس، بحجة اخفاقه في ضبط الحدود مع المكسيك. وأكثر المتشددين تشددًا يريدون حتى محاكمة الرئيس بايدن بنفس التهمة وغيرها، مثل معاقبته على الانسحاب الفوضوي والدموي من أفغانستان في صيف 2021.
وخلال يومين، جرى خلال كل منهما ثلاث جولات [12 جولة تصويت حتى وقت النشر] تصويت، حصل ماكارثي خلالها على ما بين 202 و201 صوت، وذلك دون الأكثرية البسيطة المطلوبة، أي 218 صوتًا. وبما أن الأكثرية الجمهورية في المجلس الجديد لا تتعدي 222 صوتا، لا يستطيع ماكارثي تحمّل خسارة أكثر من 4 أصوات، ما يفسر أهمية وطغيان الأقلية الجمهورية التي تعارضه، والتي لا تتعدى أصواتها أكثر من 20 صوتًا. المفارقة هي أن ماكارثي أقنع نفسه بأن دعم الرئيس السابق ترامب لترشيحه لرئاسة المجلس سوف يساهم كثيرًا في تحييد الأقلية التي تعارضه، خاصة وأن جميع أعضاء هذه الأقلية يدينون بالولاء لترامب، ويصدقون أكاذيبه حول تزوير الانتخابات. وكان من اللافت أن مناشدة ترامب لجميع الجمهوريين بالتصويت لماكارثي لم تؤد إلى تغيير ولو صوت واحد مناوئ لماكارثي، وذلك في مؤشر آخر حول استمرار انحسار نفوذ ترامب داخل الحزب الجمهوري.
معضلة ماكارثي واخفاقه في السيطرة على أعضاء حزبه، تبدو نابية حين مقارنة قيادته المتعثرة بقيادة سلفه نانسي بيلوسي، التي فرضت سيطرتها القوية على مجلس النواب بأكثرية ديموقراطية بسيطة مماثلة لأكثرية الجمهوريين الحالية، ومارست قيادتها بحنكة بارعة جعلتها من أبرز وأهم رؤساء مجلس النواب في تاريخ الولايات المتحدة. نانسي بيلوسي كانت سيدة الترغيب والترهيب في الكونغرس، وأقنعت الطبقة السياسية بأكملها في واشنطن – من خصوم وأصدقاء – بأن لا حدود لانضباطها وصلابتها ومهارتها وقدرتها على المناورة، وهي المزايا التي جعلتها تنجح في إقرار العديد من القوانين والخطط التي أراد الرئيس بايدن إقرارها. ونادرًا ما طرحت بيلوسي مشروع قرار على التصويت دون التأكد المسبق من إقراره.
الاخفاق في انتخاب رئيس للمجلس يعني أن هذه المؤسسة المسؤولة عن تخصيص الاعتمادات المالية سوف تبقى مشلولة، بجميع لجانها الهامة لأن النواب المنتخبين غير قادرين على القيام بواجباتهم إلا بعد أدائهم للقسم، وهو أمر مرتبط بانتخاب رئيس المجلس. تعطيل أعمال مجلس النواب في بداية دورته سوف يؤثر سلبًا على عمل المؤسسات الأميركية الأخرى في نواح عديدة، من بينها صرف رواتب الموظفين أو توفير المخصصات المالية للذين يعتمدون على الضمان الاجتماعي والعناية الصحية.
وبغض النظر عما إذا كان ماكارثي سوف ينجح في تحييد أو استرضاء هذه الأقلية المتمردة، أو تم اختيار بديل له، فإن الرئيس المقبل لمجلس النواب سوف يكون مسؤولًا عن مجلس أضعف من المجالس السابقة، لأن الرئيس الجديد سوف يضطر للعمل في ظل التنازلات التي قدمها ماكارثي للمتشددين. وسوف يجد الرئيس الجديد نفسه يتحرك وفوق رأسه سيوفًا معلقة لن يعرف في أي وقت يمكن أن تقضي على حياته السياسية.
منتقدو كيفين ماكارثي من جمهوريين ومعلقين محايدين يقولون إنه يفتقر إلى أي رؤية سياسية راسخة، وإنه سياسي محافظ بشكل عام، ولكنه لا يؤمن بقوة بأي مبادئ، ويستخدمون عبارات مثل “انتهازي” أو “رجل أجوف” عندما يصفونه. ويلتقي الجميع على القول أن كل ما يريده ماكارثي هو احتلال مقعد رئيس مجلس النواب مهما كان الثمن. وإذا كانت الأيام الأولى من حياة مجلس النواب الجديد، في ظل محاولات ماكارثي السيطرة عليه، قد اتسمت بمثل هذه الفوضى والانقسامات والمناورات النافرة، فإن السنتين المقبلتين من حياة المجلس لن يشهدا أي انجازات تشريعية، لأن المزاج العام لشريحة كبيرة في المجلس – وليس فقط الأقلية المعارضة لماكارثي – هو مزاج انتقامي وعقابي. وهناك عشرات الأعضاء الجمهوريين من الذين يواصلون تمسكهم بأسطورة تزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وآخرون يريدون الانتقام من ما يسمونه مؤسسات “الدولة العميقة”، ومن بينها مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومصلحة جباية الضرائب، وغيرها من المؤسسات الحيوية في البلاد، لأن هذه المؤسسات برأيهم عملت ضد الرئيس السابق ترامب، وتآمرت مع الديموقراطيين ضده وضد الجمهوريين، وهي اتهامات غير مدعومة بأي أدلة.
جنوح الحزب الجمهوري إلى التطرف السياسي والتعصب العنصري بدأ يكتسب زخمًا ملحوظا منذ انتخاب الرئيس باراك أوباما في 2008، وكان أول تعبير عن هذه المواقف هو ظاهرة “حزب الشاي”، التي برزت تحت مظلة الحزب الجمهوري، والذي كان معروفًا بعدائه للرئيس أوباما وسياساته. خلال حقبة أوباما برزت مشاعر العداء للمهاجرين واللاجئين، خاصة أولئك الملونين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. في خضم هذه المشاعر والطروحات برزت ظاهرة دونالد ترامب في 2015، والتي طورها لاحقًا حين ترشح للرئاسة في 2016. هذه المشاعر والمواقف والطروحات هي التي تهيمن الآن على الحزب الجمهوري، باستثناء أقلية محافظة بالمعنى التقليدي لهذه الايديولوجية التي لعبت دورًا هامًا في الحياة السياسية الأميركية منذ الحرب الأهلية.
الجمهوريون المحافظون في مجلس الشيوخ، على سبيل المثال، عاجزون عن كبح أو تحييد هذا الرعيل الجديد من الجمهوريين الشباب المؤمنين بسياسة الأرض المحروقة – حوالي 85 بالمئة من الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب انتخبوا في 2010 (خلال ولاية الرئيس أوباما) أو منذ ذلك التاريخ – ولا يعرفون كيف يتصرفون مع هذه التركة السياسية الطاغية. هؤلاء الجمهوريون المتشددون لا يريدون بالضرورة أن يكونوا مشرعين أو مساهمين حقيقيين في حكم البلاد أو في تحقيق إصلاحات حقيقية تتطلب التعاون بين الحزبين. هؤلاء يؤمنون “بالنجومية السياسية”، وبالخطابية والمعارضة الصاخبة، وجلب الاهتمام الاعلامي لهم، ويستخدمون وسائل الاتصال الاجتماعي وشبكات تلفزيون الكابل كمنابر لمخاطبة انصارهم وترهيب خصومهم، ولا تقترن أسمائهم بأي مشاريع قوانين أو أي انجازات تشريعية تذكر.
حالة الاضطرابات والانقسامات والتشنج السياسي في أوساط الحزب الجمهوري، والتي أحاطت بمحاولات انتخاب كيفين ماكارثي رئيسًا لمجلس النواب، لن تُبقي الفوضى محصورة بالحزب الجمهوري فقط، لأن نظام الحكم في الولايات المتحدة مبني على نظام الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري. وأي حزب يتعرض لمثل الاضطرابات والانقسامات، التي يتعرض لها الحزب الجمهوري في السنوات الماضية، وكانت آخر تجلياتها فوضى محاولة انتخاب كيفين ماكارثي، سوف يعرّض النظام السياسي، وحتى جوهر الديموقراطية الأميركية، إلى أخطار حقيقية.