أظهرت الذكرى الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا، مدى التغييرات السياسية والاستراتيجية التي شهدتها العلاقات الدولية، منذ اندلاع هذه الحرب النظامية الأولى على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وكيف أبرزت صلابة ومرونة الديموقراطيات الغربية في التأقلم مع هذا التحدي الروسي الاستراتيجي والرد الفعّال ضده، كما أبرزت في الوقت ذاته مكامن الضعف والهشاشة في العلاقات الأطلسية والتضامن داخل حلف الناتو، حيث تقوم دول أعضاء في الحلف، مثل هنغاريا وتركيا، بمساعدة روسيا ديبلوماسياً واقتصادياً من خلال الالتفاف على العقوبات الاقتصادية، ومحاولة عرقلة تعزيز الناتو. مراجعة المشهد الميداني مع بداية السنة الثالثة للغزو، والاحتلال الروسي لحوالي ربع الأراضي الأوكرانية، يوضح أنه بعد النكسات التكتيكية المحرجة التي تكبدتها القوات الروسية، والخسائر البشرية الكبيرة التي منيت بها، خاصة في السنة الأولى، أن الأداء النوعي للقوات الروسية قد تحسن، كما يظهر من مواجهتها للحملة المضادة التي شنتها القوات الأوكرانية في السنة الماضية، وكما تجلى من انسحاب أوكرانيا من موقعين هامين على الجبهة الطويلة في الأسابيع والأيام الماضية.
قبل عامين، حظي الرئيس جوزيف بايدن بتقدير العديد من الأميركيين، وباحترام قادة الدول الصديقة والحليفة بسبب فعاليته في الحفاظ على وحدة حلف الناتو، وقيادة أعضاء الحلف في توفير الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، والوقوف معها في المحافل الدولية كما في مسرح القتال، بعد أن قوّضت المقاومة الأوكرانية المفاجئة التقويمات المتشائمة لأجهزة الاستخبارات الغربية، تماماً كما فاجأت توقعات روسيا بانهيار الدفاعات الأوكرانية خلال أيام. صحيح أن الولايات المتحدة وحلفائها لم يزودوا أوكرانيا خلال السنة الأولى للغزو بالأسلحة الهجومية الفتاكة، بما فيها الطائرات والدبابات والصواريخ المتطورة، إلا أنها زودتها بأسلحة دفاعية فعالة كانت محورية في صد الهجوم الروسي، ولاحقاً دحر القوات المحتلة وارغامها على الانسحاب من أراض أوكرانية واسعة.
في المقابل، مني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الأسابيع والأشهر الأولى للحرب بنكسة سياسية محرجة، تلت النكسات العسكرية العديدة التي منيت بها قواته الغازية، بعد أن تبين مدى عزلته الديبلوماسية وشمولية العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفائها ضد النظام المصرفي الروسي، وتجميد الودائع الروسية المالية الكبيرة في المصارف الأوروبية، وفرض عقوبات شاملة على قطاع الطاقة الروسي، الذي يعتبر العصب الاقتصادي الأساسي للبلاد.
مع بداية السنة الثالثة للحرب، تبدو هذه الأجواء القاتمة بعيدة عن الرئيس بوتين، الذي لم ينجح بالبقاء في السلطة فحسب، بل عزز من موقعه، خاصة بعد أن تغلب على تمرد ميليشيات “فاغنر” في الصيف الماضي، وبعد مقتل رئيسها يفغيني بريغوجين. وتزامنت الذكرى السنوية الثانية للحرب، تقريباً، مع مقتل أليكسي نافالني، أبرز معارض لبوتين داخل روسيا في ظروف غامضة في سجنه.
في المقابل، انقلبت الصورة بالنسبة للرئيس بايدن، الذي يجد نفسه في موقع دفاعي ومحبط خلال الأشهر الماضية لعجزه عن اقناع الكونغرس على إقرار خطة المساعدات لأوكرانيا، والبالغة قيمتها 60 مليار دولار.
تركت الحرب أثاراً عميقة على العلاقات والتحالفات الدولية، وأدت إلى تحسن سريع ونوعي في العلاقات التجارية والسياسية بين روسيا والصين. العقوبات الغربية ضد روسيا دفعتها إلى الاعتماد أكثر من السابق على الأسواق الصينية لبيع نفطها. هذه العقوبات الجذرية أثارت مخاوف الصين من أن الغرب سوف يلجأ إلى إجراءات متشددة ضدها في حال اتخذت اجراءات عدوانية ضد تايوان. وقوف الصين عملياً إلى جانب روسيا في الحرب ضد أوكرانيا، ساهم في تعليق مشاركة إيطاليا في مبادرة الحزام والطريق الصينية لتعزيز التعاون الاقتصادي، والتي استخدمتها الصين لبسط نفوها الاقتصادي في العالم، كما أدت الحرب إلى تعليق “الاتفاق الشامل حول الاستثمارات بين الاتحاد الأوروبي والصين” في مايو/أيار 2021، أي بعد خمسة أشهر فقط من توقيعه.
ولعبت العقوبات الغربية ضد روسيا دوراً هاماً في تعزيز علاقات روسيا بعدد من الدول الهامة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، مثل الهند وجنوب أفريقيا والسعودية ودولة الإمارات والبرازيل، وحتى مع دول في حلف الناتو مثل تركيا وهنغاريا. هذه الدول ساهمت أحيانا باسم الحياد، وأحيانا انطلاقاً من رغبتها بتحدي الغرب ومساعدة موسكو، ودائما باسم حماية مصالحها الاقتصادية في تعطيل، أو حتى محاولة تقويض، العقوبات الغربية، خاصة تلك الموجهة ضد قطاع الطاقة الروسي. ولهذه الأسباب نجحت موسكو، ولكن نسبياً، بخلق نظام مناعة سمح لها بمواصلة تصدير نفطها، وإن بأسعار مخفضة إلى دول مستهلكة هامة، مثل الهند. الفجوات الموجودة في جدار العقوبات ضد روسيا هامة، ولكن لا يمكن التذرع بهذا الادعاء، كما تفعل روسيا وحلفائها، بأن العقوبات الغربية غير فعالة. وهناك دراسات عديدة تبين أن العقوبات المباشرة ضد روسيا، وغير المباشرة ضد الدول والشركات الأخرى التي تتعامل معها، قد نجحت في إلحاق أضرار كبيرة بالاقتصاد الروسي، وبالأطراف التي تتحدى هذه العقوبات. الخبراء في الشؤون الاقتصادية يقولون إن مثل هذه العقوبات تتطلب زمناً طويلاً نسبياً لكي تظهر نتائجها بشكل كامل.
وكان من الطبيعي أن تتحول هذه الحرب بين أكبر دولة في العالم، وأكبر دولة في أوروبا، إلى عامل سياسي هام داخل جميع الدول المحيطة بالدولتين، أو تلك المعنية بمستقبليهما. وهكذا تحولت مسألة مساعدة أوكرانيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً إلى مسألة محورية داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبعة، إضافة إلى الدول الكبيرة الأخرى التي تربطها علاقات متشعبة مع روسيا والدول الغربية، والتي لها دور هام في تطبيق أو تعطيل العقوبات الغربية ضد روسيا، مثل الصين والهند والبرازيل والسعودية والإمارات. الحرب في أوكرانيا أصبحت قضية انتخابية ملحة في الدول الديموقراطية التي ستشهد انتخابات برلمانية أو رئاسية هذه السنة من ليتوانيا مروراً ببريطانيا وانتهاءً بالولايات المتحدة.
وأبرز القضايا الخلافية الراهنة في الموسم الانتخابي الطويل في الولايات المتحدة هي قضية البت بخطة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، التي اقترحها الرئيس جوزيف بايدن في السنة الماضية، والتي أقرها مجلس الشيوخ مؤخراً (في سياق خطة تشمل مساعدات عسكرية لإسرائيل وتايوان)، والتي يرفض مجلس النواب، الذي تسيطر عليه أكثرية جمهورية بسيطة، حتى طرحها للتصويت. رئيس مجلس النواب مايكل جونسون يبرر رفضه طرح الخطة للتصويت بالدعوة إلى ربطها بموافقة الرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي على خطة شاملة ومتشددة لوقف تدفق المهاجرين واللاجئين إلى الولايات المتحدة. ولكن السبب الحقيقي لتصلبه يعود لمعارضة الرئيس السابق دونالد ترامب للخطة، لأنه لا يريد اعطاء الرئيس بايدن انتصاراً كبيراً في سنة انتخابية، ولأنه يعارض تسليح أوكرانيا.
في المواجهة الراهنة حول تقرير مصير صفقة المساعدات لأوكرانيا، يبدو أن المرشح الرئاسي ترامب الذي يقترب من الحصول على ترشيح حزبه لمنصب الرئاسة، والذي يواجه أكثر من تسعين تهمة جنائية ومدنية في ولايتي جورجيا وفلوريدا، وفي مدينتي واشنطن ونيويورك، في موقع أقوى من موقع الرئيس بايدن.
بعد سنتين من حرب ضارية ومكلفة بشرياً ومالياً، وتحولت إلى حد كبير في الأشهر الأخيرة إلى حرب استنزاف على جبهة تمتد مئات الأميال، هناك حالة إرهاق بشري وعسكري في أوكرانيا، وحتى في روسيا، على الرغم من عدم وجود أي بوادر حول استعداد أي من الدولتين المتصارعتين لقبول تنازلات عسكرية جوهرية تؤدي إلى هدنة مؤقتة أو وقف لإطلاق النار، ناهيك عن تحقيق تسوية سلمية للنزاع. روسيا تصر على أهدافها القصوى: اسقاط الحكم في كييف، وإرغامها على قبول “السيادة” الروسية على المقاطعات الأوكرانية التي ضمتها روسيا في الشرق، إضافة إلى شبه جزيرة القرم، وبقاء أوكرانيا في الفلك السياسي الروسي. بينما تصر أوكرانيا على مواصلة القتال لاستعادة أراضيها المسلوبة، ومواصلة مسيرتها لكي تصبح جزءا عضوياً من أوروباً.
أوكرانيا، لا تملك احتياطا بشرياً كبيراً يسمح لها بتجنيد المقاتلين الجدد، حتى ولو توفرت لهم الأسلحة الجديدة. روسيا في وضع أفضل نسبياً في هذا السياق، ولكن تفوقها السكاني لم يترجم حتى الآن بشكل فعال على أرض المعركة، على الرغم من الانجازات التكتيكية الأخيرة. وهذا يعني أن “التوازن” الراهن مرشح للاستمرار في المدى المنظور. لم يقطع الأوكرانيون الأمل بعد في قدرة الرئيس بايدن على أن يوفر لهم المساعدات الموعودة، أو على الأقل جزءاً أساسياً منها، بينما يأمل الرئيس بوتين بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الأمر الذي سيقلب رأساً على عقب معظم المسلمات السياسية والاستراتيجية التي كانت في صلب العلاقات الأطلسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تصريحات ترامب الأخيرة، التي أكد فيها استخفافه بمستقبل الحلفاء الأوروبيين، حين قال أنه لن يبال إذا هاجمت روسيا أي حليف أوروبي يتقاعس بالمساهمة المطلوبة بميزانية الناتو، عززت المخاوف العميقة في العواصم الحليفة وفي أوساط الديموقراطيين في الولايات المتحدة من أن إعادة انتخاب ترامب سوف تكون بداية النهاية للقيادة الأميركية لحلف الناتو. ويمكن لترامب، في حال عودته للبيت الأبيض أن يقوض حلف الناتو دون الانسحاب الرسمي منه. كل ما عليه أن يفعله هو أن يشكك بجدوى الحلف، وأن يتوقف عن المشاركة في المناورات العسكرية، أو تقليص عديد القوات الأميركية في أوروبا، ووقف تسليح أوكرانيا. يدرك أعضاء الحلف جيداً أن دولاً مثل هنغاريا وتركيا، وهي ليست في الصف الأول في الحلف، نجحت في عرقلة أو تأخير قرارات أساسية للحلف، مثل قبول عضوية السويد وفنلندا.
مع بداية السنة الثالثة للحرب، تشعر الدول الأوروبية، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة، بالإرهاق الاقتصادي والعسكري لنفقات هذه الحرب المفتوحة في قلب أوروبا. وحتى الآن أنفقت الدول الأوروبية حوالي مئة مليار دولار على المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا. وفي مطلع فبراير/شباط تعهد الاتحاد الأوروبي بتخصيص مساعدات جديدة لكييف بقيمة 60 مليار دولار. من جهتها قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 66 مليار دولار، إضافة إلى المساعدات الموعودة بقيمة 60 مليار دولار.
الصورة ليست قاتمة كلياً لأوكرانيا أو لحلف الناتو، على الرغم من الارهاق الذي تشعر به المجتمعات والاقتصادات التي تدعم أوكرانيا في حربها لتحرير أراضيها من الاحتلال الروسي. الحقيقة الصارخة أن روسيا بعد سنتين من القتال لا تزال غير قادرة على هزيمة أوكرانيا. وروسيا التي أرادت إضعاف وتفكيك حلف الناتو، ساهمت بحربها الكارثية في تعزيز روابط الحلف، كما أدت إلى زيادة حجمه وقوته بعد انضمام فنلندا والسويد إلى صفوفه. وهكذا أكتشف الرئيس بوتين أن حدود بلاده مع حلف الناتو قد ازدادت بمسافة 830 ميلاً، وهو طول الحدود المشتركة مع فنلندا.
مستقبل حلف الناتو لا يزال مهدداً، ولكن الخطر الأكبر لا يمثله أوتوقراطي شرقي أسمه فلاديمير بوتين، بل مشروع أوتوقراطي غربي أسمه دونالد ترامب. هذه هي العبرة التاريخية النافرة في الذكرى الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا.