لا يستطيع أي مراقب محايد للسياسة الداخلية الأميركية أن يفهمها أو يحللها بمعزل عن وجهها الأخر: القضاء الأميركي. وعلى سبيل المثال لا يمكن معالجة أو تقويم السلوك السياسي للرئيس السابق دونالد ترامب بشكل منفصل عن محاولة فهم لوائح الاتهامات الجنائية، البالغ عددها 91 تهمة في مدينتي نيويورك وواشنطن وولايتي فلوريدا وجورجيا، الموجهة ضده. وأي نظرة سريعة على بداية موسم الانتخابات الرئاسية توضح أن هذه العلاقة الجدلية بين السياسة والقضاء لا تحيط فقط بالرئيس السابق ترامب، بل إلى حد أقل بالرئيس جوزيف بايدن ونجله هنتر بايدن، وبنائب الرئيس السابق مايك بينس.
قبل أيام، عاد التداخل بين السياسة الداخلية والقضاء إلى الصدارة بعد أن أصدر قاض فيدرالى في نيويورك حكمًا بان الرئيس السابق ترامب ارتكب عمليات احتيال من خلال تضخيم قيمة أصوله العقارية بمئات المليارات، وجرده من السيطرة على أهم ممتلكاته في نيويورك. وبعد أن مثل السناتور الديموقراطي روبرت مينينديز (عن ولاية نيوجرسي) وزوجته نادين أرسلانيان، المولودة في لبنان لأبوين أرمنيين، أمام قاض في نيويورك لمواجهة تهم بقبول رشاوى من رجال اعمال لهم صلة بمصر مقابل مساعدة الحكومة المصرية في الحصول على مساعدات عسكرية أميركية، وتوفير خدمات أخرى.
خلال وجوده في البيت الأبيض حاول الرئيس دونالد ترامب استخدام وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (الاف بي آي) وغيرها من الأجهزة الفيدرالية كأدوات سياسية ضد خصومه، ما أدى الى توتر علاقاته مع بعض المسؤولين في هذه الأجهزة. وكان السياسيون الديموقراطيون يتهمونه دومًا بمحاولة استخدام وزارة العدل كسلاح، لتقويض العدالة. وأدت الاتهامات الجنائية العديدة التي وجهت ضد الرئيس ترامب خلال ولاية الرئيس بايدن، إلى قيام السياسيين الجمهوريين – وعلى رأسهم ترامب نفسه – باتهام الرئيس بايدن باستخدام وزارة العدل كسلاح في محاولتهم لتفسير التهم الجنائية ضد ترامب، والقول بأن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة هو اضطهاد سياسي لرئيس سابق، للانتقام منه ومن أنصاره، تمامًا كما يحدث في الدول غير الديموقراطية.
في الواقع، عيّن وزير العدل ميريك غارلاند (Merrick Garland) خلال العام الماضي أربعة محققين خاصين للنظر في اتهامات جنائية ضد ترامب بسبب إساءة استخدامه لوثائق سرية، واخفائها في مقر اقامته في منتجعه مارا لاغو بولاية فلوريدا، ولدوره في محاولة قلب نتائج الانتخابات الرئاسية ما أدى الى اجتياح مبنى الكابيتول، وللنظر فيما إذا كان الرئيس بايدن ونائب الرئيس السابق بينس قد أساءا استخدام وثائق سرية رسمية وجدت في حوزتهما بدلًا من أن تكون في عهدة الأجهزة الحكومية. وآخر محقق خاص عينه الوزير غارلاند كان للنظر في تهرب نجل الرئيس هنتر بايدن من دفع الضرائب، واقتناء سلاح ناري خلال فترة كان بايدن الابن يتعاطى فيها المخدرات، وهو أمر مخالف للقانون.
وكان المحقق الخاص بالرئيس بايدن قد أصدر تقويمًا أوليًا جاء فيه أن جوزيف بايدن، خلال عمله كنائب للرئيس، احتفظ ببعض الوثائق المعدودة بطريقة خاطئة وليس عن قصد، ومن المتوقع أن تنتهي التحقيقات، وأن تتم تبرئة كلًا من الرئيس بايدن ونائب الرئيس السابق مايك بينس من أي انتهاكات مقصودة للقوانين، وأنهما بعكس الرئيس السابق ترامب لم يحاولا عرقلة التحقيقات القضائية. وهذا يعني أن التحقيقات مع الرئيس بايدن ومايك بينس سوف تنتهي قبل بداية الانتخابات الحزبية الأولية في بداية 2024.
ولكن محاكمات ترامب المختلفة، سوف تتزامن مع الانتخابات الحزبية، وسوف تعرقل من نشاطات ترامب الانتخابية، لأنه سوف يضطر أن يحضر شخصيًا بعض المرافعات ضده. من المتوقع أيضًا أن تستمر التحقيقات مع نجل الرئيس بايدن هنتر حتى بعد بدء الانتخابات الحزبية. وعلى الرغم من محاولات الجمهوريين توريط الرئيس بايدن بأعمال نجله ونشاطاته المالية، (ولهذا السبب سوف يبدأ الجمهوريون قريبًا جلسات استماع للنظر فيما إذا كانت هناك أسباب توجب محاكمة الرئيس بايدن)، لكن لا توجد هناك أي أدلة حتى الآن تظهر تورط الرئيس بايدن بأي أنشطة غير مشروعة.
القرار المفاجيء للقاضي آرثر إنغورون (Arthur Engoron) في نيويورك أن ترامب ونجليه دونالد ترامب جونيور وإريك ترامب قد ارتكبوا عمليات احتيال لأكثر من عقد من الزمن من خلال تضخيم أصوله العقارية لتحسين فرصه بالحصول على قروض من المصارف، وتخفيض قيمة هذه الأصول، ومن بينها برج ترامب في مدينة نيويورك، لتخفيض قسمة ضرائبه، يعتبر ذلك انتصارًا للمدعية العامة لاتيشيا جيمس (Letitia James)، وذلك قبل أيام من بدء المحاكمة المدنية لترامب وشركته. وتطالب المدعية العامة جيمس بتغريم ترامب مبلغ 250 مليون دولار لأن الرئيس السابق ونجليه وآخرون “مسؤولون قانونيًا عن الانتهاكات المستمرة” لقوانين ولاية نيويورك من خلال تقديم بيانات مالية كاذبة أدت إلى المبالغة في تقويم ممتلكاته بما يصل إلى 2.2 مليار دولار. وتتهم المدعية جيمس في لائحة التهم التي وجهتها لترامب في السنة الماضية أنه جنى “فائدة مالية كبيرة” من خلال تقديمه للمعلومات الكاذبة في بياناته المالية، بما في ذلك مبلغ 150 مليون دولار في شكل أسعار فائدة حصل عليها من المصارف. القاضي إنغورون وصف أكاذيب واحتيالات ترامب بالقول “هذا عالم خيالي، وليس العالم الحقيقي”.
ما يجعل هذا الحكم الأولي في هذه القضية المدنية ضد ترامب وشركته مختلفة عن الاتهامات الجنائية هو أن سيف العدالة قد اقترب من ترامب أكثر من أي وقت مضى، وإن كان العقاب المتوقع مالي، ولا يشمل عقوبة السجن. الاتهامات لترامب ونجليه بممارسة الفساد والاحتيال ليست جديدة، ولكن ما هو جديد هذه المرة هو أن القضاء بدأ بفرض ثمن باهظ على الرئيس السابق، وبدأ – بالأرقام والوقائع – تقويض اسطورته بأنه رجل أعمال ناجح، وبإظهار الاسطورة على حقيقتها، أي أنها مبنية على التضليل والأكاذيب.
وعندما ادعى محامو ترامب أنه لم يتضرر أحد من هذه الممارسات، وأن المصارف استعادت أموالها، حذرهم القاضي إنغورون وغرّمهم ماليًا. والأهم من ذلك، وافق القاضي على طلب المدعية العامة إلغاء شهادات الأعمال لترامب وعائلته، وتجريده من السيطرة على بعض ممتلكاته المميزة في نيويورك، بما فيها برج ترامب وبناية هامة أخرى في ضاحية مانهاتن. وإذا لم يتغير قرار القاضي في محاكم الاستئناف، فهذا يعني أن ترامب سوف يبقى مالكًا لهذه العقارات، ولكنه لن يكون قادرًا على اتخاذ أي قرارات مالية تتعلق بها. القرار يعني بمعناه الواسع حرمان ترامب من القيام بأعمال تجارية في نيويورك، وهذا سيشكل ضربة موجعة له ماليًا ونفسيًا.
ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر كيف سيؤثر قرار القاضي إنغورون الأولي هذا، وما يمكن أن يصدر لاحقًا عن هذه المحكمة المدنية من قرارات مؤلمة لترامب على نظرة الناخبين إليه، وإن كان معظم المراقبين لا يتوقعون أن تتخلى عنه قاعدته الموالية له. ولكن هذه الأحكام سوف تؤثر عليه سلبًا في أوساط الناخبين المستقلين، كما ستوفر ذخيرة جديدة لمنافسيه لاستخدامها ضده في المستقبل، كما لن يكون من السهل على ترامب تجاهل مضاعفاتها الشخصية والنفسية عليه.
للمرة الثانية خلال سنوات يواجه السناتور الديموقراطي روبرت مينينديز (Robert Menendez) تهم احتيال وقبول رشاوي، وإن كان هذه المرة متهمًا هو وزوجته وثلاثة رجال أعمال آخرين. وكان المدعي العام في مقاطعة مانهاتن في نيويورك قد وجه اتهامات فيدرالية بالفساد ضد مينينديز، لاستخدام منصبه في مجموعة من “المخططات الفاسدة في الداخل والخارج”، تضمنت “تعاملا مشبوها” مع الحكومة المصرية.
وفي تطور لافت، لم يختبره مينينديز خلال محاكمته الأولى، وصل عدد زملائه الديموقراطيين في مجلس الشيوخ الذين طالبوا باستقالته من المجلس إلى ثلاثين عضوًا، وذلك عندما مثل هو وزوجته صباح يوم الأربعاء أمام القاضي حيث أكد براءته. ولا يزال مينينديز يصر على بقائه في المجلس.
وجاء في لائحة التهم، إن مينينديز وزوجته نادين قد تلقيا أكثر من 450 ألف دولار كأوراق نقدية و13 سبيكة ذهبية وسيارة مرسيدس غالية مقابل استخدام سلطته ونفوذه كعضو بارز في مجلس الشيوخ من أجل مساعدة الحكومة المصرية، والتدخل في تحقيقات تجريها سلطات الأمن في سلوك بعض رجال الأعمال من معارفه، ومساعدة أحدهم ويدعى وائل حنا (أميركي من أصول مصرية) على احتكار بيع اللحوم الأميركية بعد التصديق عليها كلحوم حلال. وأشارت التهم إلى تورط مينينديز، المنحدر من أبوين كوبيين، في تعامل مشبوه مع الحكومة المصرية شمل توفير معلومات عن العاملين في السفارة الأميركية في القاهرة، وكتابة رسالة للمسؤولين المصريين، الذين استخدموها كنص رفعوه لأعضاء مجلس الشيوخ لتبرير مبيعات الأسلحة لمصر. التحقيقات أظهرت أن مسؤولين حكوميين واستخباراتيين مصريين شاركوا في الاتصالات مع مينينديز وزوجته وشركائه.
وسوف تساهم “خدمات” مينينديز لمصر في تعميق التوتر بين واشنطن والقاهرة، خاصة وأن العلاقات كانت فاترة قبل الكشف عن الاتهامات الموجهة للسناتور مينينديز. وقبل أسابيع اقتطعت إدارة الرئيس بايدن 85 مليون دولار من قيمة المساعدات العسكرية لمصر، وقدمت 30 مليون منها إلى لبنان، والمبلغ الباقي لجزيرة تايوان. وسبب هذا القرار هو استياء الإدارة الأميركية من السجل الرديء لمصر في انتهاكات حقوق الانسان. هذه الانتهاكات قد خلقت كتلة من المشرعين الأميركيين الذين يطالبون بربط المساعدات لمصر بتحسن سجلها في مجال احترام حقوق الانسان. وقبل أشهر، كشفت تقارير صحفية مبنية على مصادر استخباراتية أن مصر كانت تسعى إلى تصنيع صواريخ محلية، وتزويد روسيا بها لاستخدامها ضد أوكرانيا، كما تفعل إيران من خلال تزويد موسكو بالطائرات المسيرة. ولكن بعد أن اكتشفت الاستخبارات الأميركية هذه الخطط، تدخل المسؤولون الأميركيون، وطالبوا حكومة الرئيس السيسي بوقف هذه العملية.
وفور الكشف عن الاتهامات لمينينديز، دعا زميله السناتور الديموقراطي كريس مورفي (Chris Murphy) إلى تعليق تقديم مبلغ 232 مليون دولار، المتبقي من المساعدات المخصصة لمصر، إلى حين انتهاء التحقيقات بدور مينينديز. النائب الديموقراطي دون بايير (Don Beyer) اتهم مصر “بإدارة عملية تجسس في مجلس الشيوخ”، وتابع “وهذا يتطلب ردًا قويًا جداً من إدارة الرئيس بايدن، والرد المباشر هو تعليق المساعدات العسكرية”.
قد لا تؤدي قضية مينينديز، وغيرها من المواقف المصرية غير الودية مثل محاولة تسليح روسيا ضد أوكرانيا، إلى إقناع إدارة الرئيس بايدن بتعليق المساعدات العسكرية لمصر بشكل حاسم لأنها لا تريد قطيعة نهائية مع حليف قديم، وإن فقدت مصر الكثير من أهميتها السياسية والاستراتيجية السابقة للسياسة الأميركية في المنطقة (مصر لا تزال قادرة على لعب دور محدود في ضبط التوتر بين غزة وإسرائيل)، ولكن نفوذها الإقليمي السابق قد انحسر بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
ولكن مكانة مصر في واشنطن، بسبب انتهاكاتها لحقوق الانسان، ومحاولتها استغلال الحرب في أوكرانيا بشكل يخالف مصالح واشنطن، وأخيرًا شراء خدمات عضو في مجلس الشيوخ، سوف تنحسر أكثر من أي وقت مضى، وخاصة في الكونغرس الذي يمثل المؤسسة الأميركية الأكثر أهمية لمصر في المدى البعيد.