وقّع الرئيس دونالد ترامب خلال أول 100 يوم له في الحكم على ثلاثين قرارا تنفيذيا، معظمها إما غير قابل للتنفيذ أو تم تحديه وتعليقه قضائيا، أو يتوقف تنفيذه على موافقة الكونغرس بعد تخصيص الاعتمادات المالية له، وبعضها حتى رمزي ويعكس رغبات الرئيس وتمنياته ولا قيمة فعلية له. ولكن الرئيس ترامب، على الرغم من ادعاءاته بأنه حقق إنجازات تاريخية خلال الأشهر الثلاثة الأولى له في البيت الأبيض لم يحقق أي إنجاز تشريعي في الكونغرس، على الرغم من أن حزبه الجمهوري يسيطر على مجلسي الكونغرس. وقبل أيام، حاول البيت الأبيض الاعتماد على ما يمكن تسميته “بالحقائق البديلة” لإقناع الأمريكيين بأن إنجازات ترامب بالفعل تاريخية ولا سابقة لها. وجاء في بيان عدّد قرارات الرئيس ترامب أنه “حقق خلال أول 100 يوم له أكثر مما حققه أي رئيس آخر منذ الرئيس فرانكلين روزفلت”. وادعى البيان أن عدد القرارات التنفيذية التي وقعها ترامب في 100 يوم الأولى من ولايته يفوق عدد كل القرارات التي وقعها الرؤساء الأمريكيين خلال الفترة ذاتها، بمن فيهم الرئيس روزفلت، الذي وقع ، وفقا للبيت الأبيض 9 قرارات فقط.
هرطقة سياسية
نادرا ما يقارن المؤرخون والمحللون السياسيون أي رئيس أميركي، خلال الثمانين سنة الماضية بالرئيس فرانكلين روزفلت، لأن روزفلت الذي انتخبه الأمريكيون لأربع ولايات متتالية غيّر حياة الأمريكيين بطريقة جذرية لم يقترب منها أي رئيس تلاه، أو سبقه في القرن العشرين. ويلتقي معظم المؤرخين على القول إن هناك ثلاثة رؤساء أمريكيين عظام: جورج واشنطن في القرن الثامن عشر، ابراهام لينكولن في القرن التاسع عشر، وفرانكلين روزفلت في القرن العشرين. ومن هذا المنظور فإن مقارنة “إنجازات” ترامب بالانجازات الحقيقية والتاريخية لروزفلت يعتبر على أقل تقدير هرطقة سياسية لا تغتفر.
يعود تقليد امتحان أداء الرئيس الأمريكي خلال أول 100 يوم له في الحكم إلى أول ولاية للرئيس روزفلت التي بدأت في مارس 1933 بعد أن ورث أكبر كارثة كساد اقتصادي في تاريخ البلاد. وللتدليل على حكمة وقيادة روزفلت في أول 100 يوم له، فقد افلح في إقناع الكونغرس بإقرار 76 قانونا من بينها 15 قانونا تاريخيا بالفعل وأدت إلى إحياء الاقتصاد الأمريكي وتشغيل ملايين الأمريكيين في خطط تنموية غيرت من نوعية حياة الملايين من المواطنين وخاصة في الولايات الجنوبية الفقيرة. وأبرز إنجاز حققه روزفلت كان في تعبئة الشعب الأمريكي وطاقاته الكبيرة في الرد على الحرب التي شنتها اليابان ضد الولايات المتحدة، وفي قيادة واشنطن للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. بعد نهاية الحرب في 1945 وصل حجم الاقتصاد الأمريكي إلى حوالي 45 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي.
ويفترض أن تكون فترة ال100 يوم الأولى لأي رئيس, هي الفترة التي يتمتع بها بثقة وتأييد الأمريكيين الذين انتخبوه، الأمر الذي يؤهله لتطبيق برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية واقناع الكونغرس لإقرار مشاريع القوانين التي يقدمها لأعضائه. صحيح أن فترة ال100 يوم الأولى هي فترة اعتباطية، إلا أنها في معظم الأحيان تعطينا فكرة عن نوعية قيادة الرئيس وما إذا كانت لديه خريطة طريق واضحة للمستقبل. ومعظم الرؤساء الذين خلفوا روزفلت وكانت ولاياتهم هامة مثل ترومان و أيزنهاور وجونسون وريغان وأوباما، بدأوا انجازاتهم في أول 100 يوم لهم في الحكم.
انجاز يتيم ونكسات
الإنجاز الرئيسي الذي حققه ترامب خلال هذه الفترة، والذي ستبقى مضاعفاته ماثلة في حياة الأمريكيين حتى بعد نهاية ولاية ترامب كان في تعيينه للقاضي المحافظ نيل غورسيتش عضوا في المحكمة العليا، وهي عضوية غير مقيدة بفترة زمنية. ومقابل هذا الإنجاز تعرضت خطة ترامب للرعاية الصحية التي كان يفترض أن تستبدل قانون أوباما للرعاية الصحية، لنكسة محرجة، بعد أن أخفق هو ورئيس مجلس النواب بول رايان في إقناع كتلة جمهورية متشددة في المجلس بالموافقة على خطة ترامب. هذه المعارضة أرغمت ترامب ورايان على عدم طرح مشروع القانون على التصويت.
وواجهت قرارات ترامب التنفيذية المثيرة للجدل والمبنية على حجج قانونية واهية، تحديات قضائية أبطلت العمل بها، وأبرزها قراره الموقع في أول اسبوع له في الحكم بشأن حظر دخول رعايا سبعة دول ذات أكثرية مسلمة والذي علق تنفيذه قاض فيدرالي في ولاية واشنطن، وحظي لاحقا قراره تصديق محكمة فيدرالية في ولاية كاليفورنيا. وهكذا تعرض ترامب لأول هزيمة على يد القضاء، لحقتها نكسة أخرى حين تحدى قاض في ولاية هاواي، القرار التنفيذي المعدل بهذا الشأن والذي وقعه ترامب معتقدا أن التعديلات التي أدخلت عليه ستحصنه ضد الطعون على أساس أنه قرار يميز ضد المسلمين، وهذا ما حدث. خلال حملته الانتخابية كان وعد ترامب لأنصاره ببناء جدار عازل على الحدود الطويلة مع المكسيك، من ابرز وعوده، وكان يردد أمام أنصاره بشكل طقوسي أن المكسيك هي التي ستدفع نفقات بناء مثل هذا الجدار والمقدرة بأكثر من عشرين مليار دولار. ترامب كان يسأل جمهوره : من سيمول الجدار، والجمهور يردّ ويهتف بحماس وقناعة :المكسيك. ولكن المكسيك بالطبع رفضت ما اعتبرته ابتزازا أمريكيا، واتسم الاتصال الهاتفي الأولي بين ترامب ورئيس المكسيك انريكي بينيا نييتو بالتوتر الأمر الذي أدى إلى إلغاء زيارة لواشنطن كان بينيا نييتو يعتزم القيام بها خلال الأسابيع الأولى لترامب في البيت الأبيض. موقف المكسيك أرغم ترامب على مطالبة الكونغرس بتخصيص أول دفعة للبدء ببناء الجدار بقيمة مليار دولار، مدعيا أنه سوف يستعيد هذا المبلغ من المكسيك عبر سبل مختلفة من بينها فرض تعريفات إضافية على البضائع المكسيكية. ولكن ترامب سرعان ما أدرك أن هناك معارضة قوية في الكونغرس لتمويل الجدار، ليس فقط من قبل الديمقراطيين، ولكن أيضا من قبل بعض المشرعين الجمهوريين. هذه المعارضة من الكونغرس أرغمت ترامب على سحب الطلب وعدم إدراجه في الميزانية المؤقتة التي رفعها إلى الكونغرس. ووقع ترامب على قرارات تنفيذية من بينها قرار الانسحاب من مفاوضات اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وقرارات أخرى تخفف من القيود البيئية والقانونية المفروضة على أعمال الشركات الأمريكية الكبيرة.
بدايات ترامب كانت مضطربة لأكثر من سبب أبرزها شخصيته الصدامية واسلوبه المتهور، واستخدامه غير المنضبط لأسلوب التغريد على موقع تويتر في إيصال مواقفه ورسائله إلى أصدقائه وخصومه معا. ووجد ترامب ومساعدوه أنفسهم في مواجهة تحقيقات فيدرالية بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية والذي كان هدفه الأساسي منع وصول مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض. ومنذ اللحظة الأولى من ولاية ترامب، تخيم ظلال التدخل الروسي في الانتخابات بثقلها الكبير على رئاسة ترامب. فضيحة التجسس الروسي، واحتمال ضلوع فرد أو أفراد ناشطين في حملة ترامب، أو من المقربين من ترامب وافراد عائلته، أسقطت أول ضحاياها، عندما اضطر ترامب إلى إقالة مستشاره لشؤون الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين، لأنه لم يطلع نائب الرئيس مايك بنس على مضمون اتصالاته مع السفير الروسي في واشنطن.
بين الغموض والاستمرارية
مع انتهاء أول 100 يوم له في الحكم، ليس من الواضح ما إذا كان للرئيس ترامب سياسة خارجية واضحة. ومواقفه تجاه التحديات والأزمات والقضايا الخارجية تتسم بالغموض والتناقض، كما هو الحال في ما يتعلق بمواقفه تجاه القضايا والتحديات الداخلية. وأبرز ما يميز قرارات ترامب الخارجية هو اعتماده المتزايد على القوة العسكرية، على حساب ما يسمى “بالقوة الناعمة” والوسائل الدبلوماسية. وهذا يعني أن دور وزارة الخارجية التي قرر ترامب تخفيض ميزانيتها بحوالي 30 بالمئة تقريبا، سوف ينحسر أكثر ومعه المساعدات المالية التي تقدمها وزارة الخارجية لبعض الدول الصديقة، والمؤسسات الدولية التي تساهم في حماية المصالح الأمريكية.
ولكن حتى استخدامه للخيارات العسكرية، بما فيها القصف الصاروخي لقاعدة الشعيرات الجوية السورية، واستخدام “أم القنابل” وهي أكبر قنبلة غير نووية في العالم ضد تحصينات لتنظيم “الدولة الاسلامية” في افغانستان، وتكثيف العمليات الخاصة والقصف الجوي لعناصر القاعدة وداعش في اليمن، وزيادة عديد القوات الخاصة في سوريا، وإرسال السفن الحربية إلى منطقة شبه الجزيرة الكورية، لا يمكن اعتبارها مفردات لإستراتيجية واضحة.
على الصعيد الخارجي، لم ينسحب ترامب من اتفاقية باريس للبيئة التي وقعها الرئيس أوباما، كما أنه لم يتخذ أي إجراءات لتقويض سياسة الانفتاح على كوبا التي أقرها الرئيس السابق. ولم يطبق وعوده وتعهداته الصاخبة لإسرائيل وأنصارها بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. والأهم من كل ذلك، لا يبدو أن ترامب، على الرغم من مواقفه العدائية لإيران وسياساتها السلبية في المنطقة، واعتباره للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد على أنه أسوأ اتفاق في التاريخ، يعتزم الانسحاب منه. ولكن ترامب في مواجهته غير المباشرة مع إيران، عزز من تعاون الولايات المتحدة الميداني مع السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في حرب اليمن، حيث كثف الطيران الأمريكي من قصفه لأهداف في اليمن خلال أسبوع واحد أكثر مما فعلته إدارة الرئيس أوباما خلال سنة، وفقا للتقارير الصحفية.
وعلى الرغم من دعوة ترامب إلى اعتماد استراتيجية جديدة في الحرب ضد “الدولة الإسلامية”، إلا أنه بعد ثلاثة أشهر لا توجد هناك معالم لأي استراتيجية مختلفة عن استراتيجية أوباما، مثل دعم الهجوم العراقي لتحرير الموصل من داعش، ودعم قوات ائتلاف سوريا الديموقراطية، وخاصة الأكراد ومساعدتهم في التحضير لمعركة تحرير مدينة الرقة السورية من احتلال تنظيم “الدولة الإسلامية”داعش. استخدام ترامب للقوة العسكرية -ولو بشكل محدود- ضد النظام السوري يعني أن تمنياته السابقة باحتمال التعاون العسكري مع روسيا، وربما مع نظام الأسد، ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” قد تبخرت.