ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
التطور الهام، في فضيحة التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية الذي فرض نفسه على الإعلام الأمريكي والأوساط السياسية في واشنطن خلال الأسبوع المنصرم، لم يكن “خبرا ملفقا” كما هي عادة الرئيس ترامب في وصف مثل هذه الاخبار، بل خبرا حقيقيا تمثل بقيام نجله دونالد ترامب جونيور بالكشف عن مراسلات إلكترونية تعود إلى حزيران/يونيو 2016 بينه وبين مقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف تدبير اجتماع مع محامية تمثل الحكومة الروسية يفترض أن توفر له معلومات مضرة بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وتكشف الرسائل بوضوح أن الروس كانوا يريدون تزويد جونيور بمعلومات سرية “مفيدة جدا لوالدك”. وجاء في رسالة بعثها الوسيط الإنكليزي روب غولدستون، لنجل الرئيس أن المعلومات “بالغة الأهمية وحساسة، ولكنها جزء من دعم روسيا وحكومتها للسيد ترامب”. بعد عشرين دقيقة من استلامه لهذه الرسالة الإلكترونية، رد جونيور بحماس “إذا كانت المعلومات كما تقول، فإني أحبها، وخاصة (استخدامها) في وقت لاحق من الصيف”، وذلك في إشارة، إلى رغبته باستخدام المعلومات التي يفترض أن تضر بحملة كلينتون في نهاية الصيف، أي الفترة التي تسبق الشوط الأخير في الحملة الانتخابية لكي يكون للمعلومات أثرها الأكبر .
وهذه هي المرة الأولى، التي يؤكد فيها عضو من عائلة الرئيس، ولاعب هام في حملته الانتخابية أن الحملة كانت مستعدة، لا بل تواقة للتعاون مع حكومة أجنبية تعتبرها الطبقة السياسية في واشنطن خصما تاريخيا للولايات المتحدة. وبغض النظر عن نتائج الاجتماع الذي أكد جونيور أنه لم يحصل فيه على أي معلومات مفيدة للحملة، لأن المحامية الروسية أرادت بحث كيفية الغاء العقوبات الأمريكية على روسيا المفروضة بعد غزوها لأوكرانيا، فإن مجرد قبول جونيور الاجتماع وبالأهداف المذكورة، بحضور صهره جاريد كوشنر، (المسؤول البارز حاليا في البيت الأبيض) ومدير الحملة الانتخابية آنذاك بول مانافورت، أعطى زخما ودعما للشكوك القوية بـ “تواطؤ” حملة ترامب مع السلطات الروسية في التدخل في انتخابات الرئاسة لمساعدة ترامب ضد المرشحة الديمقراطية كلينتون. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد كشفت عن الاجتماع في نهاية الأسبوع الماضي، حيث سارع نجل الرئيس إلى الادعاء أن الاجتماع كان لبحث استئناف برنامج قديم يهدف إلى تبني الأيتام الروس، علقه الرئيس بوتين بعد فرض العقوبات الأمريكية في 2014 ولم يكن له علاقة بالانتخابات الأمريكية. وعندما واجهت نيويورك تايمز نجل الرئيس بأن لديها نسخ عن المراسلات، اضطر جونيور للكشف عنها، باسم “الشفافية”.
“تواطؤ” أم سذاجة ؟
ومرة أخرى عادت مسألة احتمال “تواطؤ” حملة ترامب أو بعض العاملين فيها مع الحكومة الروسية في التأثير على الانتخابات إلى الصدارة، وتجدد النقاش القانوني حول ما إذا كان مثل هذا “التواطؤ” يعتبر انتهاكا لقوانين الانتخابات الأمريكية التي تحرم حصول أي حملة انتخابية أو مرشح على مساعدات مالية من مصادر خارجية، أو أي دعم “ذو قيمة” ويمكن أن يؤثر على الانتخابات. وفور الكشف عن الرسائل الإلكترونية علق الرئيس ترامب نشاطاته الرسمية العلنية ليومين قبل أن يدافع عن نجله –بفتور واضح- في تغريداته، ولاحقا في مؤتمره الصحفي الذي عقده مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون، خلال زيارته لباريس. الرئيس ترامب نفى أن تكون المحامية ممثلة للحكومة الروسية – بعكس ما ورد في المراسلات- وأن الاجتماع كان قصيرا ولم يتسم بأي أهمية، ولم يؤد إلى نتيجة، ورفض القول بأن الاجتماع غير مناسب أو أنه يعتبر انتهاكا أو خطأ، مدعيا أنه من الطبيعي قبول مثل هذه العروض إذا كانت تؤدي للحصول على معلومات عن الخصم الانتخابي، وأن معظم الناس يمكن أن يقبلوا بمثل هذه الاجتماعات. التطورات الأخيرة، ستوفر مادة هامة للغاية للتحقيقات العديدة التي تجريها لجان الكونغرس، والمحقق الخاص روبرت مولر، الذين يسعون لكشف الصورة الكاملة للتدخل الروسي بالانتخابات واحتمال ضلوع ممثلين عن حملة ترامب “بالتواطؤ” مع الروس. منتقدو الرئيس وعائلته قالوا إن التطورات الأخيرة يمكن أن تشكل الأرضية القانونية لاتهام الرئيس ومساعديه بالتواطؤ مع روسيا، وتوقعوا الكشف عن معلومات إضافية في هذا الشأن، نظرا لأن وسائل الإعلام الأمريكية، وتحديدا المكتوبة، تكشف بشكل يومي تقريبا عن تطورات جديدة، معظمها محرج للرئيس وعائلته وحملته. وهذا مؤشر مقلق للرئيس ترامب، لأن بعض المعلومات والتطورات المحرجة مصدرها موظفون في البيت الأبيض والأجهزة الحكومية الأخرى، ما يعني وجود انقسامات وخلافات داخلية، حيث يسعى كل مسؤول بارز يمكن أن تطاله التحقيقات قانونيا، بالعمل على حماية نفسه على حساب الآخرين. المتعاطفون مع ترامب وعائلته، رفضوا اعتبار أن اجتماع حزيران/يونيو 2016 الذي انعقد في برج ترامب في نيويورك، يشكل تواطؤا، ورأوا أنه يعكس سذاجة من قبل نجل الرئيس، كما ادعوا أن “التواطؤ” بحد ذاته لا يعتبر انتهاكا أو جرما جنائيا. تطورات الأيام الأخيرة، أكدت وجود نمط مقلق في سلوك بعض المسؤولين البارزين في حملة ترامب – ولاحقا مساعديه في البيت الأبيض- أي عدم الإفصاح الطوعي عن الاجتماعات التي عقدوها قبل وبعد الانتخابات مع مسؤولين روس، أو مواطنين روس مقربين من السلطات الحكومية. المسؤولون يعترفون بهذه الاجتماعات، فقط بعد أن تكشف عنها وسائل الإعلام. جاريد كوشنر، صهر الرئيس اضطر مرتين إلى تعديل الوثائق الرسمية المتعلقة بالكشف عن أي نشاطات أو اجتماعات عقدها مع مسؤولين أجانب لكي يحصل على ترخيص يسمح له بالاطلاع على معلومات حكومية سرية وحساسة، لأنه لم يذكر أسماء المسؤولين الروس الذين اجتمع بهم. ومؤخرا اضطر كوشنر للكشف عن اجتماع السنة الماضية، بعد أن اكتشف محاموه المراسلات المتعلقة بترتيب الاجتماع ونصحوه بتعديل الوثائق. ويجد كوشنر نفسه الآن في وضع قانوني حساس، لأنه إذا ثبت بالفعل أنه تعمد عدم الكشف عن اتصالاته السرية مع الروس، فإن ذلك يعتبر انتهاكا للقوانين لأنه موظف رسمي في البيت الأبيض، بعكس نجل الرئيس ترامب.
أيهما أسوأ الخطيئة الأصلية أم التغطية عليها
أبرز دروس فضيحة ووترغيت في سبعينات القرن الماضي والتي أدت إلى استقالة أول رئيس في تاريخ الجمهورية الأمريكية، هي أن “التغطية” على الخطيئة الأصلية، تكون عادة أسوأ من الخطيئة الأصلية ذاتها. ففي حالة ووترغيت، الخطيئة، أو الجريمة الأصلية كانت في اقتحام مركز الحزب الديمقراطي للحصول على وثائقه، ولكن تورط البيت الأبيض، بما في ذلك الرئيس ريتشارد نيكسون شخصيا في عملية التغطية على الجريمة، وانتهاك الدستور، كانت أكبر وأخطر بكثير من جريمة انتهاك مركز الحزب الديمقراطي. في حالة فضيحة التدخل الروسي، فإن الأمر معكوسا، لأن الجرم الأصلي، أي تدخل دولة أجنبية تعتبر معادية ربما بالتواطؤ مع مسؤولين في حملة ترامب، في العملية الديمقراطية الأمريكية، هو الأخطر من أي محاولات للتغطية عليه. بعض الأسئلة المثيرة التي خلقتها ووترغيت تطرح الآن وبإلحاح، ومن أبرزها “ما الذي يعرفه الرئيس، وفي أي وقت عرفه؟” وهل سيضطر الرئيس ترامب، إلى التخلص من بعض مساعديه، كما فعل الرئيس نيكسون لحماية نفسه؟ وهل سيضطر ترامب لاحقا إلى التخلص من المحقق الخاص روبرت مولر، كما فعل نيكسون؟
مما لا شك فيه أن هذه التطورات، ساهمت في تضييق الحصار على البيت الأبيض الذي يحاول، حتى قبل هذه التطورات الأخيرة تقنين المعلومات أو انتقائها وحرمان الصحفيين من فرص محاورة المسؤولين الإعلاميين في البيت الأبيض في إيجازات صحفية متلفزة. ومنذ انتخابه عقد ترامب مؤتمرا صحفيا رسميا واحدا فقط على غير عادة أسلافه – امتنع عن عقد مؤتمر صحفي بعد نهاية قمة الدول الصناعية العشرين في ألمانيا الأسبوع الفائت- ويعمل جاهدا على السيطرة على الدورة الإعلامية، أو عرقلتها وتحويل الأنظار عن القضايا الحساسة والمحرجة له من خلال تغريداته. وتحدثت بعض التقارير الصحفية عن تفاقم عزلة ترامب، وتوتر العلاقات بينه وبين مساعديه، حيث يعبر عن سخطه بالصراخ، بما في ذلك الصراخ في وجه شاشات التلفزيون عندما يسمع أو يشاهد ما لا يعجبه. والمعروف أن ترامب يخصص وقتا هاما يوميا لمراقبة البرامج الحوارية التلفزيونية.
انشغال الرئيس ترامب نفسه، وكذلك بعض كبار مساعديه في البيت الأبيض، مثل صهره جاريد كوشنر سيحد من قدرته على إقرار برنامجه الداخلي في الكونغرس – لم ينجح حتى الآن في إقرار أي قانون هام – كما قد يضعفه بشكل ملحوظ في معالجة التحديات الخارجية، مثل الخطر النووي والصاروخي الذي تمثله كوريا الشمالية، وإدارة الحرب ضد إرهاب “داعش” و “القاعدة” في سوريا والعراق واليمن والصومال، أو معالجة الأزمة الأخيرة التي نشبت بين قطر، والرباعية العربية المؤلفة من السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين، والتي يحاول وزير الخارجية ريكس تيلرسون التوسط لحلها، حيث لا تبدو هناك أي بوادر لحل قريب.
التحدي الكوري الشمالي والحرب ضد “داعش” في سوريا والعراق ومضاعفاتها السياسية، إضافة إلى أزمة الخليج، هي تحديات آنية وملحّة وتتطلب تدخلا واهتماما مكثفا وثابتا من الرئيس ذاته، وقرارات محورية لا يستطيع أحد غير الرئيس اتخاذها. كيف يمكن الانتصار في المعارك السياسية في العراق وسوريا عقب تحرير مدن وبلدات البلدين من احتلال “داعش”؟ هل ستنجح الحكومة العراقية الآن في منع بروز الاستقطابات المذهبية بشكل نافر بعد تحرير الموصل ومحيطها، أم أنها ستسمح بسيطرة “سياسات الهوية” Identity politics والمذهبية (السنية والشيعية) التي فرضت نفسها بعد تحرير المدن العراقية السابقة من سيطرة “داعش”. ما الذي يعنيه الاعتماد على المجالس المحلية المدنية التي تحاول واشنطن الاستثمار فيها لتسليمها مهام إدارة المناطق المحررة من “داعش” في سوريا. هل سيبرز الوجه البشع “لسياسات الهوية” في مدينة الرقة ومحيطها، وخاصة بين الأكراد والسنّة العرب؟ وهل ستتعايش واشنطن – وغيرها من العواصم الغربية، مثل باريس- مع نظام الأسد الدموي، بحجة أن الأولويات الغربية هي لمكافحة الإرهاب في سوريا؟ وإلى أي مدى يمكن لواشنطن محاولة الموازنة بين مجموعة الرباعية العربية وقطر في الخليج ؟ استمرار حالة الحصار على البيت الأبيض، واستمرار هاجس وانشغال الرئيس ترامب بمضاعفات فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات، واحتمال تواطؤ بعض مساعديه، وربما تواطؤه شخصيا فيها، تعني فقط أن هذه التحديات الخارجية وغيرها سوف تتفاقم أكثر مع ما يعنيه ذلك من انتكاسات وربما نكسات محتملة للولايات المتحدة ومصالحها ومكانتها الدولية.