ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
عندما بدأ دونالد ترامب حملته الانتخابية قبل أكثر من سنتين، تعاملت القيادات التقليدية للحزب الجمهوري معه كظاهرة سياسية هامشية، وغريبة وحتى ترفيهية، بسبب تاريخه في مسابقات الجمال وتلفزيون الواقع. وبعد انحسار موجة السخط التي أثارها حين هاجم المهاجرين من المكسيك بعنصرية نافرة خلال اعلانه رسميا عن خوض المعركة، أصبح ترامب مرغوبا به ومقبولا كضيف يجلب المشاهدين في برامج تليفزيونات الكابل حيث كان يدخل في سجالات ومبارزات حامية وظريفة مع مقدمي البرامج على خلفية اعتقاد عام بأنه ظاهرة ترفيهية عابرة. وحتى بعد أن بدأ ترامب بتصفية الخصم تلو الآخر من بين ستة عشرة مرشحا، جميعهم لهم خبرات تشريعية أو تنفيذية بعكسه تماما، لم تقلق هذه القيادات التي كانت تنقل تأييدها من مرشح إلى آخر، إلى حين كان ترامب يسقطه بسيفه، على خلفية هتافات جماهيره الذين اعتبروه عاصفة سياسية ستنشف المستنقع الآسن في واشنطن. قلة هم الذين توقعوا نجاح ترامب في “تطبيع” التعصب العرقي والديني وخاصة في تجلياته ضد المهاجرين من غير البيض وضد المسلمين. وحتى عندما كان ترامب يثير قضايا مشروعة مثل قلق الأمريكيين من استمرار تورط أمريكا في حروب ونزاعات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، كان يفعل ذلك بطريقة فظة واستفزازية، مثل مطالبة الدول التي توفر لها الولايات المتحدة الغطاء العسكري، بدفع أموال الحماية. ولكن ترامب استغل بمكر وحنكة مخاوف جماهيره من الاقتصاد المعولم والذي ادعى أنه المسؤول عن فقدان وظائف الملايين من الأمريكيين، متعهدا بإعادة هذه الوظائف للذين فقدوها. وحتى مع اقتراب مؤتمر الحزب الجمهوري في صيف 2016 بقي البعض في المؤسسة الجمهورية التقليدية يأملون بالتوصل إلى ترتيب يؤدي إلى بروز مرشح آخر غير ترامب. طبعا، هذه التمنيات والأوهام لم تتحقق، وحطم ترامب الكثير من المسلمات السياسية ومن أبرزها احترام إرث اسلافه وعدم مهاجمة الحزب الذي ترشح باسمه. خلال هذه الفترة، بدأت الشروخ السياسية والايديولوجية في الحزب الجمهوري تتوسع وتتعمق أكثر.
بعد فوز ترامب بالرئاسة، بدأت قيادات الحزب الجمهوري في الكونغرس، بالتعلق بأوهام وتمنيات جديدة، من أبرزها أن مسؤوليات منصب الرئاسة وجسامة التحديات، وضرورة التوصل إلى تسويات مع الحزب المعارض، لحل المشاكل الداخلية، والنزاعات الخارجية، سوف تتضافر كلها لارغام ترامب على تعديل مواقفه المتشددة. ولكن ترامب واصل ممارساته للسياسة وفقا لأهوائه ونزواته، حيث كان ولا يزال يتلذذ بمراقبة خصومه وأعدائه، وحتى مؤيديه وهم يتحزرون ويتكهنون بمعنى مواقفه وتصريحاته وتهديداته. ولكن إصرار ترامب على حصوله على الولاء غير المشروط من قيادات الحزب في واشنطن، إضافة إلى تهديده لهم بأنه سيشجع خصومهم في الانتخابات التمهيدية، أرغم العديد منهم على التحلي بالصمت المريب، باستثناء أقلية ضئيلة، وأن كان لها وزنها المعنوي والسياسي.
الانتفاضة الأخيرة؟
خلال أيام قليلة، وجد الرئيس ترامب نفسه يتعرض لانتقادات حادة لسياساته، وشخصيته وأهليته للحكم. جاءت هذه الانتقادات من شخصيات وقيادات جمهورية، في ما بدا وكأنه انتفاضة جمهورية يقوم بها ما تبقى من الجناح المعتدل في الحزب الجمهوري، والذي يرى أن البلاد تسير على طريق محفوف بالألغام. بدأ السيناتور جون ماكين الجولة الاخيرة المناوئة لترامب حين قال في خطاب ألقاه في حفل لتكريمه في فيلادلفيا “أن نخاف من العالم الذي نظمناه منذ ثلاثة أرباع قرن من الزمن، ونتخلى عن القيم التي نشرناها في العالم، وأن نرفض واجبات القيادة العالمية.. من أجل قومية ملفقة نصف مطبوخة من قبل طباخين يفضلون البحث عن أكباش الفداء بدلا من حل المشاكل، فهذا موقف غير وطني”.
جورج بوش، آخر رئيس جمهوري فعلي قال يتعين على الأمريكيين أن “يستعيدوا هويتهم” وهم يواجهون التحديات لقيمهم. وفي تحد واضح لطروحات ترامب جدد الرئيس الأسبق تأييده للهجرة والتجارة الحرة، وندد بالقومية المتعصبة، وشجب ما اسماه “القسوة العادية” التي يتسم بها السجال السياسي الراهن، وتابع “رأينا القومية يتم تشويهها إلى شوفينية، وتناسوا الدينامية التي جلبها المهاجرون دائما إلى أمريكا”. وواصل بوش انتقاده المبطن لترامب قائلا “نرى انحسار الثقة في قيمة الأسواق الحرة والتجارة الدولية…لقد رأينا عودة مشاعر الانعزالية، وهم تناسوا أن الأمن الأمريكي مهدد مباشرة من الفوضى واليأس الموجود في الأماكن البعيدة”.
ويوم الثلاثاء الماضي شهدت واشنطن سجالا غير معهود بين رئيس الجمهورية وعضوين في مجلس الشيوخ من الحزب ذاته. ترامب استأنف تهجمه على السيناتور بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية الذي تلاسن مع الرئيس في الأسابيع الماضية، مدعيا أن كوركر يعارض خطته لإصلاح قوانين الضرائب، ومتهما إياه بأنه ايد الاتفاق النووي مع إيران، وهذا غير صحيح. من جهته، رد كوركر قائلا إن ترامب “لديه مشكلة كبيرة مع الحقيقة”، وأنه “يذّل” أمريكا. وبعد ساعات القى السيناتور جيف فليك خطابا تضمن انتقادا قويا ومؤثرا لشخصية ترامب وسياساته في قاعة مجلس الشيوخ، وأعلن أنه لن يترشح لولاية أخرى في 2018 بسبب المناخ السياسي الراهن الذي جلبه ترامب. وقال فليك “يجب ألا نتعامل ابدا مع التقويض المستمر لاعرافنا الديمقراطية ومُثلنا على أنها أمر عادي، ويجب ألا نقبل ابدا التقسيم اليومي لبلادنا”.
ترامب يسيطر على الحزب الجمهوري
هذه المواجهات بين ترامب ومنتقديه من حزبه حدثت قبل أن يكمل سنته الأولى في الحكم، وتزامنت مع انحدار شعبية الرئيس إلى أدنى مستوياتها. وجاء في استطلاع لشبكة فوكس نيوز أن شعبية ترامب وصلت إلى 38 بالمئة. ولكن المثير هو أن شعبية ترامب في أوساط الجمهوريين لا تزال عالية حيث يوافق على أدائه 83 بالمئة. هذا التأييد العالي لترامب في قاعدته هو الذي يحصنه ضد أي انتقادات تأتي من قيادات الحزب. صحيح أن قاعدة ترامب ضيقة نسبيا ولكنها لا تزال متحمسة له، وتؤيده في نزاعاته مع القيادات الجمهورية. بالمقابل بعض القيادات الجمهورية التي تنتقد سلوكيات ترامب وتسخر منه في السر، توافق على بعض سياساته وتريد إقرار بعض طروحاته، ولذلك تقبل بمثل هذه المقايضة. بعد خطابي ماكين وفليك، ذكرت تقارير صحفية أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ يوافقون على بعض أو مجمل طروحات ماكين وفليك، ولكنهم قطعا لا يريدون المجازفة بإغضاب ترامب ليجدوا أنفسهم هدفا لتغريداته اللاذعة، والأسوأ من ذلك بالنسبة لمستقبلهم السياسي أن يجدوا أنفسهم خلال الانتخابات الحزبية الأولية في مواجهة مرشح متشدد أكثر منهم مدعوما ماليا من القوى المتعاطفة مع ترامب. مع حلول انتخابات 2018 النصفية، لن يبقى في مجلس الشيوخ شخصيات مثل كوركر أو فليك. أما السيناتور ماكين فهو يعاني من سرطان في الدماغ، الأمر الذي يثير الشكوك في امكانية استمراره وفعاليته المستقبلية. اللافت هو أن السيناتور فليك هو جمهوري محافظ بالمعنى المتعارف عليه، وسجله في المجلس واضح، ومع ذلك فقد رحب عدد من الجمهوريين في الكونغرس بقراره لأنهم كانوا يخشون خسارته وخسارة مقعد جمهوري. وسارع ستيفن بانون المستشار السابق للرئيس ترامب والذي أعلن أنه “يشن حربا ضد المؤسسة الجمهورية التقليدية” إلى اعتبار قرار فليك انتصارا له، قائلا إنه حصل على “جلدة رأس” إضافية. قرار كوركر وفليك عدم الترشح لولاية ثانية، إضافة إلى الضغوط والترهيب الذي يمارسه متشددون مثل بانون ضد المشرعين الذين يفكرون بالتصدي للرئيس ترامب، والتهديد بحرمانهم من مصادر تمويل حملاتهم الانتخابية، كلها عوامل زرعت الخوف في قلوب المشرعين والمرشحين الجمهوريين. بعض المشرعين الجمهوريين الذين لا يجمعهم الكثير مع ترامب أو حتى ممن كانوا هدفا لهجمات الرئيس، بدأوا بعملية دخول بيت الطاعة تحضيرا لانتخابات 2018. وهناك مؤشرات عديدة بأن الحزب الجمهوري منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض يقترب منه ايديولوجيا وسياسيا، حيث يسعى المتشددون مثل بانون وجماعات مماثلة إلى تشجيع ترشح شخصيات لم يكن لأحد أن يتخيل انتخابها قبل سنوات، مثل القاضي روي مور الذي فاز بالانتخابات الحزبية الأولية لشغل المقعد الذي شغر في ولاية ألاباما بعد تعيين جيف سيشنز وزيرا للعدل، وهو معروف بعدائه السافر للمسلمين والمثليين، وكانت له مواقف عدائية من الرئيس السابق أوباما. وخلال نشاط انتخابي قبل فوزه، تحدث القاضي مور أمام مؤيديه وهو يلوح بمسدس بيده، ليؤكد لهم تصميمه على الدفاع عن حرية اقتناء الأسلحة النارية.
ولكن، المواجهة بين ترامب ومنتقديه من الجمهوريين في الكونغرس، يمكن أن تحرمه على الأقل في المستقبل القريب من إقرار بعض برامجه، وخاصة إقرار مشروع قانون اصلاح النظام الضرائبي، لأنه لن يحصل على الأكثرية البسيطة وخاصة إذا قرر كوركر وماكين وفليك رفض التصويت على مثل هذه القرارات. ولكن ترامب لا يزال يدعي أنه على الرغم من هذه الخلافات فإن الحزب الجمهوري “متحد” في ظل قيادته.
غياب شخصيات مثل كوركر وفليك، واحتمال غياب جون ماكين، سوف يعزز من فرص سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري، وهو الذي انضم اليه في وقت متأخر للغاية. كل هذا يعني أن انتفاضة ماكين وفليك وكوركر، ستكون عابرة ولن تمنع من تحول الحزب الجمهوري إلى نسخة مماثلة لدونالد ترامب.