ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
كما كان متوقعا، ذهب الرئيس دونالد ترامب إلى مؤتمر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، بلجيكا، ليزعزع أسس أقوى حلف عسكري في التاريخ، للمرة الثانية خلال سنتين، عبر القائه محاضرات فوقية على قادة الدول الأعضاء ومطالبتهم بفظاظة بزيادة إنفاقهم العسكري.
ترامب بدأ اليوم الأول للمؤتمر بتوجيه توبيخ علني ونافر لألمانيا لأنها تمول خط أنابيب للغاز من روسيا، مدعيا أن ألمانيا تريد حماية أمريكية من روسيا في الوقت الذي تمول فيه موسكو بمليارات الدولارات، قبل اعلانه في نهاية المؤتمر نجاحه في إطفاء الحرائق التي اججها بنفسه، وليؤكد بغطرسته المعهودة للمشاركين في المؤتمر للصحفيين “أنا عبقري مستقر للغاية”. وكأن الفوضى التي جلبها ترامب إلى بروكسل لم تكن كافية، فقد جلبها معه إلى محطته الثانية في جولته الأوروبية، إلى بريطانيا حيث انتهك الأعراف الديبلوماسية حين انتقد رئيسة الوزراء تيريزا ماي في مقابلة مع صحيفة The Sun بسبب ما ادعى أنه سوء إدارتها لكيفية انسحاب بلادها من الاتحاد الأوروبي، موجها إليها اللوم قائلا “في الواقع قلت لتيريزا ماي كيف تفعل ذلك، ولكنها لم تستمع لي”. وأوضح ترامب أنه ليس مستعجلا – بعكس تيريزا ماي – للتوصل إلى اتفاق للتجارة مع بريطانيا، ما يعني تعميق عزلة بريطانيا الاقتصادية. في المقابل أثنى ترامب بسخاء على وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، الذي استقال مؤخرا من حكومة تيريزا ماي احتجاجا على سياستها المتعلقة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي قائلا “أنا أحترم بوريس للغاية، ومن الواضح أنه معجب بي ويقول أشياء جيدة للغاية عني…”وحين سؤاله عما إذا كان يتوقع أن يصبح جونسون رئيسا للوزراء قال ترامب “لا أريد أن أرى مواجهة بينهما، أنا أقول إنه يمكن أن يكون رئيس وزراء عظيم لأنه مؤهل لذلك”.
ولم يستثن ترامب من نيرانه، رئيس بلدية لندن صادق خان الذي انتقد زيارته لبريطانيا وشجع التظاهرات ضد ترامب في العاصمة، قائلا إن أداء خان “سيء..” واتهمه بالتقاعس في مكافحة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها لندن في السنوات الماضية. ويمكن القول إن “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة وبريطانيا، التي كانت في صلب سياسات “الغرب” لأكثر من قرن وخاصة خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، قد انتهت في حقبة ترامب أو شارفت على النهاية. وبعد أن أصر ترامب على أن شعبيته عالية في بريطانيا، انتقل إلى فبركة استطلاع للرأي في الولايات المتحدة جاء فيه على حد قوله “إنني الرئيس الأكثر شعبية في تاريخ الحزب الجمهوري، أي بنسبة 92 بالمئة”، مضيفا أن هذا يعني “أنني تغلبت على ابراهام لينكولن”. ولا يوجد أي استطلاع للرأي فيه مثل هذه الأرقام، كما أنه لم تكن هناك استطلاعات للرأي خلال حقبة ابراهام لينكولن.
قبل جولته الأوروبية، توقع ترامب المناوشات في بروكسل، والاضطرابات في لندن في أعقاب الأزمة الحكومية، وتنبأ بأن أسهل محادثات سيجريها سوف تكون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في أول قمة رسمية تجمعهما في هلسنكي يوم الأثنين. هناك تباين واضح بين تصريحات وتغريدات ترامب المشككة بجدوى حلف الناتو من جهة، وموافقة ترامب على البيان المشترك للحلف، والقرارات العملية التي اتخذتها القمة لتعزيز التعاون العسكري مثل تعزيز الجهوزية القتالية وتطوير القدرات في مجال الحرب الإلكترونية، وتجديد اللغة القوية للحلف ضد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا، من جهة أخرى. ورأى بعض المحللين أن موافقة ترامب على مقررات القمة (التي تدعمها بقوة وزارة الدفاع)، تهدف من جملة ما تهدف إليه إلى تعزيز موقعه التفاوضي عشية لقائه بالرئيس بوتين. قد يكون ذلك صحيح جزئيا، ولكن الواقع هو أن موقف ترامب الحقيقي والثابت والقديم، هو أن حلف الناتو ليس محوريا لصيانة أمن الولايات المتحدة. في الواقع خلال اليوم الثاني للقمة، هدد ترامب بأنه إذا لم تزيد معظم الدول الأعضاء من ميزانيتها العسكرية بقيمة 2 بالمئة من دخلها القومي، فإن الولايات المتحدة قد تبدأ بالسعي لسياسة دفاعية بديلة “وأن نسير على طريقنا” الخاص. مواقف ترامب هذه، تعزز من صحة الطرح القائل بأن الرئيس الأمريكي المهووس بمسألة ارغام الدول الأوروبية بشكل علني وفظ على زيادة ميزانياتها العسكرية، يستخدم هذه الحجة إما لإضعاف الحلف أو تبرير الانسحاب منه. ويعتقد أنه حتى ولو زادت هذه الدول من ميزانياتها العسكرية كما يريد ترامب، فإنه سيواصل ادعاءاته بأن أمريكا تتحمل كل الأعباء المالية والعسكرية للحلف.
مواقف ترامب من الحلف خاطئة كليا أو جزئيا. فهو يخلط بين ميزانية الحلف المحدودة – حيث تساهم أمريكا بنسبة 22 بالمئة، وألمانيا على سبيل المثال بنسبة 14 بالمئة- وبين الميزانيات العسكرية للدول الأعضاء، وهي مسألة الخلاف الأساسية بينه وبين أعضاء الحلف الذين يفترض أن يرفعوا من إنفاقهم العسكري إلى قيمة 2 بالمئة من دخلهم القومي مع حلول سنة 2024 وفقا لاتفاق تم التوصل إليه في 2014. ترامب يرى حلف الناتو على أنه ترتيب استراتيجي تقوم فيه واشنطن بتوفير الحماية للأعضاء مقابل دفعهم أموال حماية، وهذا ما يفسر ادعائه بأن أعضاء الحلف مدينون لأمريكا، وأنهم متقاعسون عن دفع أموال الحماية المستحقة عليهم. ترامب يرى الحلف من منظور مالي ضيق للغاية، ولا يدرك أن أمريكا التي كانت الطرف المؤسس للحلف قد استفادت ولا تزال تستفيد منه. وكانت دول الحلف قد نفذت البند الخامس للحلف والقاضي باعتبار أي هجوم على عضو في الحلف بمثابة هجوم على جميع أعضاء الحلف، مرة واحدة في تاريخ الحلف المؤسس في 1949، وذلك حين تعرضت الولايات المتحدة لهجمات سبتمبر – أيلول 2001، والتي أدت إلى غزو أفغانستان وهي عملية عسكرية شاركت، ولا تزال تشارك فيها دول حلف شمال الأطلسي، التي قاتل جنودها جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية وتكبدوا الخسائر البشرية كما تكبدت القوات الأمريكية. بعض أعضاء الحلف في بروكسيل حاولوا أن يشرحوا لترامب أن الحلف هو أعمق وأبعد من المساهمات المالية، مثل مشاركة بعض دول الحلف في الائتلاف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لاستئصال وهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق في السنوات الأخيرة، وكيف أن عملية تدريب القوات العراقية تتم بمشاركة مباشرة من مدربين ومستشارين عسكريين من دول الناتو وليس فقط من قبل القوات الأمريكية. وتستخدم القوات الأمريكية قواعدها في أوروبا وتحديدا في ألمانيا في أي عمليات عسكرية ضد تنظيم القاعدة، ولشنّ أي عمليات عسكرية ضد أهداف في إفريقيا أو الشرق الأوسط. وبعد سحب قوات حفظ السلام الأمريكية من البوسنة وكوسوفو، قامت قوات من الناتو باستبدالهم. وازداد الانفاق العسكري لدول الحلف بقيمة 87 مليار دولار منذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، أي قبل سنتين من انتخاب ترامب.
الأوروبيون الذي شاركوا في قمة الناتو، لم يحاولوا إخفاء استيائهم وغضبهم من ترامب ورأوا في توبيخه العلني والسافر لألمانيا تصعيدا مقلقا ضد المستشارة ميركل الشخصية السياسية الرئيسية في القارة الأوروبية التي يسعى فلاديمير بوتين للتخلص منها منذ سنوات. توقيت انتقادات ترامب لميركل قبل أيام من اجتماعه ببوتين كان واضحا للجميع. لا أحد يعلم ما الذي سيدور في الاجتماعات المغلفة بين الرئيسين ترامب وبوتين، وهذا أمر غير معهود في مثل هذه القمم في السابق، ما يعني أنه لن يكون هناك سجل لما تم التحدث بشأنه أو لأي اتفاقات تم التوصل إليها. ترامب كان قد قال إنه يتوقع أن تكون سوريا وأوكرانيا في طليعة جدول الأعمال. ويتوقع المحللون أن يطلب بوتين من ترامب تخفيض أو إلغاء العقوبات التي فرضت على روسيا عقب ضم شبه جزيرة القرم، أو حتى الإعتراف بأن القرم هي جزء من روسيا الاتحادية. وكان ترامب قد ألمح إلى ذلك حين أشار إلى أن سكان القرم يتحدثون الروسية، وأن روسيا قد بنت جسرا يربطها بشبه الجزيرة. وأشار محللون إلى أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي أبلغ بوتين أن تل أبيب لا تسعى للتخلص من نظام بشار الأسد، ولكنها تريد في المقابل أن تستخدم روسيا نفوذها لابقاء القوات الإيرانية بعيدة عن حدود إسرائيل. وتحدث محللون عن “مقايضة” كبيرة بين أمريكا وروسيا تقضي بتسليم الولايات المتحدة ببقاء شبه جزيرة القرم بيد الروس، مقابل قيام روسيا بتحجيم الوجود العسكري الإيراني في سوريا. طبعا، مثل هذه “المقايضة” تعكس تمنيات أكثر مما تعكس حقائق على الأرض. وحتى الدول الكبرى تكتشف في مثل هذه الحالات مدى محدودية قوتها. وحتى مجرد التكهن بشأن أي مقايضة من هذا النوع، دون الأخذ بعين الاعتبار ما يريده الشعب السوري، يجب أن يعتبر تخليا عن السوريين لا يمكن تبريره أخلاقيا، أو التسليم به سياسيا.