ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تدهورت العلاقات المتوترة أصلا بين الرئيس ترامب وقادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى مستويات متدنية وغير معهودة في الأيام القليلة الماضية حين هاجمهم الرئيس بشكل نافر وعلني، واصفا تقييماتهم للأخطار الاستراتيجية التي تهدد الولايات المتحدة بالخاطئة وحتى “الساذجة”. وكان ترامب بذلك يشير إلى استمرار خطر تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، ومستقبل البرامج النووية لكوريا الشمالية، وإيران وغيرها.
وبعد أقل من 48 ساعة عدّل ترامب من هجماته هذه بعد اجتماعه بقادة الاستخبارات في اليوم ذاته، وادعى بشكل سافر وخلافا لما يعرفه الجميع أن هؤلاء القادة أكدوا له أنهم لم ينتقدوا مواقفه وطروحاته وأن وسائل الاعلام حرّفت تصريحاتهم، وأخرجتها عن سياقها، على الرغم من أن تقييماتهم المناقضة لسياسات ترامب جاءت أثناء جلسة استماع علنية، وبثتها قنوات تلفزيونية على الهواء مباشرة.
وتعقد لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ سنويا جلسة علنية لمناقشة تقرير الاستخبارات حول التحديات الاستراتيجية التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم. انتقادات ترامب استهدفت دان كوتس مدير مكتب الاستخبارات الوطنية ( الذي ينسق عمل 16 جهازا استخباراتيا)، وجينا هاسبل مديرة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، وكريستوفر راي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، وهم القادة الذين عينهم ترامب شخصيا. ما قاله قادة أجهزة الاستخبارات في الكونغرس، والهجوم الشرس الذي شنه ضدهم الرئيس ترامب في وابل من التغريدات الحادة، وما تلاه من تلويحه بغصن الزيتون لهم، ومن ثم نفيه للحقائق، جاء ليظهر أن الرئيس ترامب يعيش في كوكب متواز، ولكنه بعيد جدا عن الكوكب الذي تعيش فيه الأوساط السياسية في واشنطن والملايين من الأمريكيين الذين يعيشون في ولاياتهم الخمسين، التي يبعد بعضها بآلاف الأميال عن العاصمة واشنطن.
وخلال السجال السريالي بين ترامب وأجهزة الاستخبارات، صّوت مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون بأكثرية من 68 صوتا من أصل مئة للتعجيل بالموافقة على قرار طرحه رئيس الأكثرية الجمهورية السيناتور ميتش ماكونيل، يعبر بقوة عن معارضته “للانسحاب السريع للقوات الأمريكية ” من سوريا وأفغانستان. وقال ماكونيل، وهو حليف لترامب ونادرا ما يختلف معه علنا، “من الضروري للولايات المتحدة أن تقود وتحافظ على ائتلاف دولي ضد الإرهاب، وأن تقف وراء حلفائها المحليين”، في البلدين. ومن المتوقع أن يوافق المجلس على هذا القرار في الأسبوع الأول من فبراير- شباط. وكان ترامب قد أعلن في ديسمبر-كانون الأول أنه يريد سحب مجمل القوات الأمريكية من سوريا التي يزيد عديدها عن ألفي عنصر، وأنه يعتزم سحب سبعة آلاف عسكري من أفغانستان، أي نصف عديد القوات المنتشرة هناك. وإذا لم تكن ضغوط الكونغرس على ترامب كافية، فقد سربت مصادر في وزارة الدفاع أن الوزارة أعدت تقريرا يحذّر من أنه بعد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” سيكون قادرا خلال ستة أشهر أو سنة من الاستيلاء من جديد على أراض يديرها مباشرة، كما حدث خلال ما سمي بالخلافة الإسلامية في سوريا والعراق.
هل تنظيم الدولة الإسلامية حي أم ميت؟
وبينما كان ترامب قد أعلن قبل شهرين “لقد هزمنا الدولة الإسلامية في سوريا” ، قال كوتس للجنة الاستخبارات يوم الثلاثاء أن التنظيم بعد خسارته لمعظم الأراضي التي كان يسيطر عليها، عاد إلى جذوره كتنظيم حرب عصابات قادرا على شن الهجمات “ولا يزال يسيطر على آلاف المقاتلين” في سوريا والعراق. من جهتها، قالت هاسبل مديرة سي آي أي أن إيران لا تزال ملتزمة “من الناحية التقنية” بالاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن في السنة الماضية، ولكنها أضافت أن قادة إيران يبحثون عن سبل استئناف برنامجهم النووي إذا ارغمتهم العقوبات الاقتصادية على ذلك. وكان كوتس واضحا أكثر حين قال : ” لا نعتقد أن إيران تقوم بأي نشاطات يمكن أن نقول أنها ضرورية لإنتاج سلاح نووي”. ومرة أخرى، أكد قادة الاستخبارات أن روسيا تواصل محاولاتها للتدخل في الانتخابات الأمريكية، وأنها حاولت – ولكنها أخفقت – في التأثير على الانتخابات النصفية في نوفمبر-تشرين الثاني الماضي. وكانت الاشتباكات بين ترامب وأجهزة الاستخبارات قد بدأت قبل فوزه بالانتخابات، وتفاقمت فور انتخابه عندما رفض تقييم أجهزة الاستخبارات الأولي الذي قُدم له بعد انتخابه والذي يؤكد التدخل الروسي في الانتخابات لصالحه.
ومنذ قمة سنغافورة بين ترامب وزعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، دأب الرئيس الأمريكي على القول إن تقدما كبيرا قد حدث على طريق نزع الأسلحة النووية من كوريا الشمالية حين كان يشير إلى وقف التجارب الصاروخية والنووية، لكن تصريحات كوتس ناقضت ذلك عندما قال إن الاستخبارات الأمريكية لا تتوقع أن تتخلى كوريا الشمالية عن ترسانتها النووية لأن قادتها يعتقدون “أن الأسلحة النووية ضرورية لضمان بقاء النظام”. وفي صباح الأربعاء، بدأ ترامب قصفه المدفعي الثقيل ضد قادة الاستخبارات، قائلا إنهم مخطئون، ولا يدركون مدى خطر إيران، وادعى أن هناك فرصة جيدة للتوصل إلى اتفاق مع كوريا الشمالية، مختتما هجماته بالقول “ربما يجب على قادة الاستخبارات العودة إلى المدرسة”. ورأى عدد من المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين أن هجمات ترامب هذه تقوض سمعة أجهزة الاستخبارات الأمريكية في العالم، وخاصة لدى أصدقاء وحلفاء واشنطن، وتُضعِف من قدراتها، وثقة العاملين فيها، وقال بعضهم إن البلاد ستكون في لحظة حرجة للغاية في حال بروز أزمة استراتيجية خطيرة تتطلب اعتماد الرئيس على أجهزة استخباراته وتقييمها للخطر، لكي يستطيع اتخاذ القرارات الصائبة. ولوحظ أن الاخطار التي عددها تقرير الاستخبارات، مثل الحروب الألكترونية، والتنسيق المتزايد بين روسيا والصين للتصدي للمصالح الأمريكية في العالم، والذي أعاد تنافس أمريكا مع البلدين إلى حقبة خمسينات القرن الماضي، وغيرها من الأخطار، تجاهل “الخطر” الذي يتحدث عنه الرئيس ترامب دوما، أي الوضع على الحدود الجنوبية مع المكسيك.
مضاعفات الانسحاب الأمريكي من سوريا
منذ اللحظة الأولى لإعلانه المفاجيء عن سحب القوات من سوريا (والذي تقول وزارة الدفاع إنه سينتهي في منتصف الربيع المقبل)، والرئيس ترامب يتعرض للانتقادات من داخل وخارج حكومته. المعارضة القوية للانسحاب من وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس أدت إلى استقالته. قرار ترامب الاعتباطي الذي اتخذه دون تنسيق مسبق مع الحلفاء الغربيين أو الشرق أوسطيين أو المحليين، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل أكراد سوريا عمودها الفقري، عرضه لانتقادات واسعة وقوية من مختلف الأطراف، زاد من حدتها ثناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قرار الانسحاب. ولكن هذه الانتقادات أرغمت ترامب وحكومته على البحث عن بدائل لتدخل تركي عسكري في شمال سوريا ضد قوات الحماية الشعبية الكردية المتحالفة مع واشنطن والتي تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تصنفه أنقرة – وواشنطن – تنظيما إرهابيا.
ومن جملة الخيارات المطروحة مقابل احتلال تركي عسكري لمناطق في شمال سوريا لابقاء الأكراد تحت السيطرة، هو اقتراح إقامة منطقة آمنة في جزء من الشمال السوري يقوم فيه حلفاء أمريكا الأوروبيين بفرض الأمن فيها. ويقول حسن حسن، الخبير في شؤون تنظيم “الدولة الإسلامية” والمعلق الدوري في مجلة أتلانتك في حوار خاص إن اقتراح المنطقة الآمنة قابل للتنفيذ وعملي “طالما بقيت الولايات المتحدة عسكريا في سوريا”. ولكن حسن، الذي ألف مع زميله الصحفي مايكل وايتس كتابا بعنوان “الدولة الإسلامية: داخل جيش الإرهاب” إن المشكلة التي ستواجه المنطقة الآمنة هي الفراغ الناتج عن إخفاق واشنطن بالعمل على مسار سياسي متواز مع المسار العسكري لتخفيف حدة التوتر بين حلفائها ومحاولة صيانة مصالحهم بمن فيهم تركيا والقوى المحلية المعارضة للنظام السوري والعمل على حل سياسي يتخطى نظام بشار الأسد.
ولكن حسن، يشير إلى أنه في أعقاب الانسحاب الأمريكي فإن “الوضع سيصبح مفتوحا على مختلف الاحتمالات”، و آن ذاك لن تكون الدول العربية والأوروبية الحليفة قادرة على مواصلة أدوارها، “لأن روسيا وإيران سيمنعان العرب والأوروبيين من تسيير الدوريات في المنطقة، ولكن هذا لن يحدث إذا بقيت القوات الأمريكية منتشرة في سوريا”. ويرى حسن، أنه منذ إعلان ترامب عن الانسحاب، لم تطرح واشنطن تصورا يعالج مطالب ومخاوف تركيا المتعلقة بقوات الحماية الشعبية الكردية ومستقبلها. ويشير حسن، إلى أنه خلال الحرب الجوية والبرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” لم تكن هذه المسألة ملحة. وبعد أن يشير إلى أن “الدولة الإسلامية” قد هزمت كتنظيم يسيطر على أراض كانت ترزح تحت سيطرته “فلا يوجد هناك أي عذر يبرر ذلك”.
الانسحاب الأمريكي من سوريا، في ظل اتساع خلافات البيت الأبيض مع أجهزة الاستخبارات، ومع استمرار غياب تسوية سياسية هناك، يضع سوريا على الطريق الذي يوصل البلد إلى مرحلة ما بعد نظام الأسد، وهو يصب عمليا في مصلحة روسيا وإيران، وإلى حد أقل تركيا. هذه الأطراف، إضافة إلى إسرائيل، هي أقوى من أي تحالف عربي لا يحظى بمظلة أمريكية.