قبل 12 يوماً من موعد الانتخابات، وبعد انهيار السجال الانتخابي بين الرئيس ترامب ومنافسه الديموقراطي جوزيف بايدن إلى مستوى متدن للغاية وغير مسبوق في تاريخ الانتخابات الأميركية، وصل إلى حد اتهام ترامب لمنافسه “بالمجرم”، الذي يشرف على “مشروع اجرامي” لعائلة بايدن، التقى المرشحان وجهاً لوجه في المناظرة الثانية والأخيرة بينهما، ليقدما للشعب الأميركي خيارين واضحين، لأنه من الصعب وصف مواقف كلا المرشحين بأنها تمثل “رؤية” لمستقبل الولايات المتحدة.
جاءت المناظرة على خلفية اقبال مكثف من الأميركيين على التصويت المبكر، حيث وصل عدد الناخبين الذين صوتوا مباشرة في مراكز التصويت أو بواسطة البريد إلى أكثر من 47 مليون ناخب. ومع دخول السباق الرئاسي شوطه الأخير، وجد الرئيس ترامب نفسه في موقع دفاعي، حيث بدا وكأنه محاصر من الجهات الأربعة، لأنه كان يوجه نيرانه إلى أهداف عديدة، بعضها متوقع، وبعضها كان مستغرباً حتى لأنصاره ومساعديه. ولهذه الاسباب تحولت المناظرة الثانية الى آخر فرصة لترامب لوقف انهيار حملته، مع مرور الأيام الأخيرة، ومع الانخفاض المستمر في ميزانيته الحربية.
ولكن الانطباع الأولي عن المناظرة للعديد من المراقبين والمحللين، هو أن أداء ترامب – على الأقل فيما يتعلق بالشكل إن لم يكن بالمضمون، الذي اتسم بإظهار عدائية وحدة أقل تجاه منافسه بايدن – يمكن أن يؤدي إلى وقف النزيف الحاد في حملته، بعد أدائه الكارثي في المناظرة الأولى، وبعد سلوكه الغريب، حين أنهى علاجه من فيروس كورونا، حيث واصل التقليل من خطر وأهمية الفيروس، وحتى الاستخفاف به والتبشير بنهايته القريبة.
عشية المناظرة، اتهم مدير الاستخبارات الوطنية جون راتكليف إيران وروسيا بانتهاك السيادة الأميركية، من خلال التدخل في الانتخابات، وبعث رسائل تهديد إلى ناخبين مسجلين كديموقراطيين، تهددهم بالعقاب إذا لم يصوتوا للرئيس ترامب. وقال راتكليف أن إيران بعثت برسائل الكترونية تضليلية تهدف إلى “ترهيب الناخبين، والتحريض على خلق الاضطرابات الاجتماعية وإلحاق الضرر بالرئيس ترامب”. ولاحقاً قال مسؤولون في أجهزة الاستخبارات أن إيران اخترقت المنظمة اليمينية العنصرية المعروفة باسم “الشباب الفخورون” المؤيدة لترامب، لخلق الانطباع أنها المنظمة التي بعثت برسائل التهديد. ومع أن المسؤولين أكدوا تدخل روسيا في العملية الانتخابية، إلا أن طبيعة هذا التدخل بقيت مجهولة.
جاء الكشف عن هذه المعلومات والاتهامات، في نهاية اليوم الذي استخدمت فيه حملة بايدن أهم سلاح في ترسانتها، والمعروف باسم باراك أوباما، الذي وجهته إلى مدينة فيلادلفيا، بولاية بنسلفانيا المحورية والضرورية للغاية لنجاح بايدن، في محاولة لاستغلال شعبية أوباما الكبيرة، لحرمان الرئيس ترامب من فوز آخر في الولاية التي فاجأ الديموقراطيين قبل أربع سنوات، حين أخذها من معسكرهم. شدد أوباما على ضرورة الاقبال المكثف، خاصة من قبل الشباب الأميركي من أصل أفريقي، وحذر من خطأ الاعتماد على استطلاعات الرأي، التي تؤكد بمعظمها تقدم بايدن على ترامب، مذكراً اياهم بالاستطلاعات المماثلة في 2016 والتي أظهرت خطأ تقدم مرشحة الحزب آنذاك هيلاري كلينتون.
استطلاعات الرأي التي تبين أن بايدن متقدم على ترامب على المستوى الوطني ومستوى الولايات أغضبت ترامب، ودفعته لمطالبة وزير عدله وليام بار بمحاكمة بايدن وباراك أوباما بتهم ملفقة. وهاجم ترامب الهيئة المنظمة للمناظرات، لأنها فرضت قيوداً جديدة للسيطرة أكثر على المناظرة، ومنع المرشحين من مقاطعة بعضهما البعض. ولم ينس ترامب مهاجمة مديرة المناظرة الاعلامية القديرة كريستين ويلكير.
وفي هذه الأجواء المشحونة، تورط ترامب في خلاف كبير مع شبكة سي بي أس، عندما خرج غاضباً من مقابلة كان يجريها مع الاعلامية المخضرمة ليسلي ستال، التي تعمل منذ عقود في برنامج “ستون دقيقة” ذو الشهرة والنوعية العاليين، بسبب أسئلتها القوية. وأخيراً، وجه ترامب سهامه الجارحة الى أبرز اخصائي في مكافحة الأوبئة في الولايات المتحدة، الطبيب أنطوني فاوتشي، وهو عضو في الفريق الذي شكله البيت الأبيض لمكافحة الجائحة، لأن فاوتشي المعروف باستقلاليته، لا يتردد في انتقاد الرئيس ترامب وطروحاته الغريبة بشأن الفيروس.
هذا هو المناخ الذي جرت فيه المناظرة. وكعادته لجأ ترامب إلى الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع، وحاول استفزاز بايدن، من خلال استخدامه لملف، جمعه محاميه رودي جولياني حول نجل بايدن، هنتر، يتضمن اتهامات غير مؤكدة، ويعتقد بعض المحللين أن الاستخبارات الروسية تقف ورائها، ومفادها أن عائلة بايدن فاسدة، وتلقت أمول من دول مثل روسيا والصين. وسارع بايدن للرد على ترامب ومخاطباً الأميركيين مباشرة قائلا “أنتم تعرفون من أنا، وتعرفون من هو”.
دافع الرئيس ترامب عن أدائه في مكافحة جائحة كورونا، كما واصل التقليل من خطر الفيروس، وادعى أن عدد الوفيات ينحدر، وهذا ادعاء يتناقض مع الاحصاءات اليومية، التي تبين ارتفاعاً ملحوظاً في الوفيات، ثم تحدث عن “تطوير لقاح للفيروس قريباً”، أو مع حلول نهاية السنة. وواصل ترامب مبالغاته حول الفيروس، حيث قال، “نحن نتعلم كيف نتعايش معه”. ورد بايدن ساخراً، “نحن نتعلم كيف نموت معه”. وبعد أن أشار بايدن إلى أن عدد الوفيات بلغ 220 ألفاً، أضاف، “أي مسؤول عن هذا العدد من الوفيات يجب ألا يبقى رئيساً للولايات المتحدة”.
المرشحان تبادلا التهم حول جميع محاور المناظرة، ولكن احدى أبرز وأهم لحظات المناظرة جاءت خلال مناقشة مسألة التمييز العنصري في البلاد، وبعد أن كرر ترامب ادعائه السافر بأنه “الانسان الأقل عنصرية في هذه القاعة”، وبعد أن ادعى أنه أفضل رئيس أميركي للأميركيين من أصل افريقي منذ الرئيس ابراهام لينكولن، الذي أنهى العبودية، رد بايدن باتهام ترامب بأنه “الرئيس الأكثر عنصرية في تاريخنا الحديث، فهو يصب الزيت على كل نار عنصرية”.
وتفادى الرئيس ترامب الاجابة المباشرة على أسئلة عديدة، من بينها سؤال حول التلوث، الذي تخلقه المنشآت النفطية التي تضر صحياً بالسكان المقيمين قربها. ورد ترامب قائلاً، انهم يتلقون رواتب جيدة، ولكنه لم يتطرق إلى البيئة. من جهته قال بايدن إن المسألة تتخطى الرواتب، ومن الضرورة معالجة البيئة، وفرض القيود التي تمنع التلوث وتهديد صحة المواطنين. وخلال هذا السجال سأل ترامب منافسه بايدن، “هل تريد إغلاق صناعة النفط؟” أجاب بايدن، انه يريد “الانتقال من صناعة النفط” إلى تطوير مصادر الطاقة الأخرى، مثل تلك التي تخلقها الطاقة الشمسية والتوربينات التي تستغل طاقة الرياح. وسارع ترامب إلى اتهام بايدن بأنه يريد القضاء على صناعة النفط، وقال للناخبين في ولاية بنسلفانيا، المنتجة للنفط، إن بايدن يريد وقف انتاج النفط.
وحين سؤاله عما يمكن أن يقوله للأميركيين من أصل افريقي، الذين يعانون من الممارسات العنصرية، خاصة على أيدي الشرطة، قال ترامب أنه لا يعرف ما يمكن أن يقوله، أكثر من الاشارة إلى إنجازاته، مثل اصلاح النظام الجنائي، ومساعدة الجامعات التي يدرس فيها أميركيون من أصل افريقي، ولكنه تفادى الإشارة إلى الممارسات العنصرية في البلاد.
وتركز معظم النقاش على القضايا الداخلية، ولكن المرشحان اختلفا بقوة حول كيفية التعامل مع كوريا الشمالية وزعيمها كيم يونغ أون. انتقد بايدن بشدة سياسية ترامب لاسترضاء كيم يونغ أون، وقال انها مشابهة لمحاولات استرضاء هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، واضاف بايدن أن ترامب أعطى غطاء الشرعية لكوريا الشمالية، وتابع أن ترامب “تحدث عن علاقاته مع صديقه الذي هو في الواقع سفاح”. وأضاف بايدن أنه لن يلتقي مع زعيم كوريا الشمالية إلا بعد أن يتعهد بتفكيك ترسانته النووية. ولكن ترامب دافع عن علاقاته الجيدة مع كيم يونغ أون، لأنها ساهمت في منع حرب بين البلدين، كان الرئيس أوباما قد حذر ترامب من امكانية حدوثها حين التقى به في البيت الأبيض بعد انتخابه.
تقليدياً تساهم المناظرات في توضيح المشهد الانتخابي للناخب الأميركي، خاصة لتلك الشريحة من الناخبين المتأرجحين. وفي بعض الأحيان تتميز بعض المناظرات بكبوة هامة لأحد المرشحين تكون حرجة أو مكلفة، أو بنجاح أحد المرشحين بالتقدم بتفنيد قوي لمنافسه، أو بتحقيق أحد المرشحين لضربة قاضية لمنافسه. ولكن مناظرة ترامب-بايدن، التي جاءت بعد تصويت عشرات الملايين من الناخبين، ومع انحسار عدد الناخبين المترددين في حسم أمرهم، لن يكون لها تأثير بالغ على الانتخابات، ولكن أداء بادين الجيد نسبيا (ولأنه متقدم على ترامب، كان التحدي بالنسبة لبايدن هو ألا يكبو وألا يلحق بنفسه أي ضرر)، وأداء ترامب الأفضل بكثير من أدائه خلال المناظرة الأولى ونجاحه في وقف انزلاق حملته، يعني أن المسؤولين في الحملتين سوف يدعون أن مرشحهم قد فاز بالمناظرة.