خلال أول شهر في ولايته الثانية، أوضح الرئيس دونالد ترامب بقراراته التنفيذية، وتصريحاته ورؤيته لدوره كمنقذ للولايات المتحدة من أزماتها الداخلية، وكمهندس لعلاقات خارجية جديدة، إنه يسعى لإدخال تغييرات جذرية وفريدة من نوعها لم يحاول أي رئيس سابق حتى التفكير فيها، منذ تأسيس الجمهورية الأميركية قبل حوالي 250 سنة، مثل تجاهل الكونغرس الذي يسيطر حزب الرئيس على مجلسيه، ومحاولته التهرب من أحكام القضاء المستقل، والتلميح بإمكانية تجاهل أو رفض قرارات القضاء، وهو أمر لم يحدث منذ الحرب الأهلية الأميركية قبل 155 سنة. وخلال أسابيع قليلة، تخلص ترامب من أجهزة حكومية خلقها الكونغرس دون استشارة الكونغرس، وقام بتسييس وزارات مثل وزارة العدل ووزارة الأمن الوطني لخدمة مصالحه، ووسع من صلاحياته التنفيذية، مقتبساً عبارة منسوبة إلى نابوليون بونابارت تقول “من ينقذ بلده لا يخالف أي قانون”.
يقود ترامب انقلاباً جذرياً في علاقات الولايات المتحدة بالعالم، متجاهلاً حلفاء واشنطن القدامى في أوروبا، في سعيه لتطبيع العلاقات مع روسيا، ومتجاهلاً اعتدائها السافر على أوكرانيا، لا بل إنه اتهم الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بالتسبب بالحرب. انحياز ترامب لروسيا لم يعد ضمنياً، بل سافراً، مثل رفضه قراراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين الاعتداء الروسي على أوكرانيا قبل ثلاثة سنوات، واقفاً في الخندق ذاته مع روسيا وكوريا الشمالية وروسيا البيضاء، وعدد من الدول التي يقودها زعماء أوتوقراطيين. لا يخفي قادة روسيا اعجابهم، بل دهشتهم، لانحياز ترامب العلني والصريح إلى جانبهم.
لا يخفي الرئيس ترامب رغبته في كسر العلاقة مع إرث السياسة الأميركية المعمول به من قبل الرؤساء الجمهوريين والديموقراطيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مثل التعاون مع الحلفاء، وخاصة في حلف الناتو، والمؤسسات الدولية المالية والصحية والتعليمية. ترامب يرى نفسه على أنه مهندس علاقات دولية جديدة مبنية على مناطق نفوذ للدول الكبرى، مماثل إلى حد كبير لمناطق النفوذ التي كانت سائدة بين الدول والإمبراطوريات الأوروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر. من هذا المنظور، وحدهم قادة هذه الدول والكيانات هم الذين يصنعون القرارات الرئيسية. وخلال مؤتمر صحفي قالها ترامب بصراحة، “حكومتي تعتزم القيام بقطيعة حاسمة مع قيم السياسة الخارجية للحكومة السابقة، وبصراحة مع الماضي”.
هذه القطيعة مع القيم والسياسات والأعراف والتقاليد الأميركية المعهودة بدت واضحة من خلال الانحياز الأميركي لروسيا (مكالمة هاتفية بين الرئيسين ترامب والروسي فلاديمير بوتين استمرت لتسعين دقيقة، جرت دون استشارة أوكرانيا او أي حليف أوروبي)، وبدت سافرة من خلال اتهام ترامب للرئيس زيلينسكي “بالدكتاتور” الذي يحكم دون انتخابات، رافضاً الاعتراف بأن الدكتاتور الحقيقي، أي بوتين، هو الذي يحكم من خلال انتخابات غير نزيهة. وأوضح المسؤولون الأميركيون إنهم لن يدعوا الدول الأوروبية إلى أي مفاوضات سلام بين أوكرانيا وروسيا ترعاها واشنطن. مواقف ترامب، الهادفة إلى تهميش دور أوروبا، دفعت بفريدريك ميرز، الفائز في الانتخابات الألمانية والمرشح لقيادة بلاده، للقول إن أولوياته ستكون في دعم أوكرانيا “وتحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة”.
بدا الانحياز الأميركي الجديد لروسيا، واضحاً من خلال الرسائل التي بعثها ترامب إلى أوروبا عن طريق نائبه جي دي فانس ووزير دفاعه بيت هيغسيت في مؤتمر ميونيخ. ألقى فانس محاضرة عن حرية التعبير للقادة الأوروبيين، مدعياً إن الخطر الأكبر الذي يواجهونه ليس متمثلا في روسيا أو الصين، بل في رفضهم قبول القوى اليمينية المتطرفة في مجتمعاتهم. أما هيغسيت فقال إن استعادة أوكرانيا لجميع أراضيها المحتلة غير ممكن، وأن لا مستقبل لها في حلف الناتو، وهي مواقف روسيا بامتياز. وهناك توقعات بأن تقوم حكومة ترامب في المستقبل بتخفيض حجم قواتها المنتشرة في أوروبا.
ترامب في رؤيته للحرب الروسية-الأوكرانية يرى المعتدي كضحية، والضحية كمعتدي. وانسجاماً مع هذا الوصف، كان من اللافت أن الولايات المتحدة اعترضت على وصف روسيا “بالمعتدي” في الحرب ضد أوكرانيا في مسودة قرار أرادت مجموعة الدول الصناعية السبعة إصداره في الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا. هذا الأسبوع، أجري الرئيس ايمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر محادثات مع ترامب في البيت الأبيض، وحاولا اقناعه بتقديم مساعدة عسكرية أميركية لأي قوة حفظ سلام أوروبية، تشمل توفير الغطاء الجوي والمشاركة في المعلومات الاستخباراتية، ولكنه يواصل رفضه إلزام الولايات المتحدة بلعب مثل هذا الدور. وخلال هذه اللقاءات كان ترامب يردد ادعائه الباطل بأن بلاده قدمت لأوكرانيا هبات بقيمة 350 مليار دولار، وأنها، بعكس الأوروبيين، لم تقدم القروض التي يجب أن تسددها لهم، مما أرغم ماكرون وستارمر على تصحيحه علناً في البيت الأبيض، والتأكيد بأن أوروبا قدمت أيضاً هبات وضمانات قروض (المساعدات الأميركية لأوكرانيا بلغت 140 مليار دولار معظمها أعطي لشركات الأسلحة الأميركية لتزويد أوكرانيا بالعتاد، بينما قدمت أوروبا 145 مليار دولار لأوكرانيا).
رؤية ترامب لدوره في العالم كقائد أوحد للولايات المتحدة، أو كما وصف نفسه على شبكة التواصل الاجتماعي تروث سوشال التي يملكها “بالملك”، لا تختلف كثيراً عن رؤية زعماء غير ديموقراطيين أو قادة دول فيها ديموقراطيات ناقصة، مثل الرئيس بوتين في روسيا، والزعيم الصيني جيشينغ بينغ، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. قبل ترامب، كان الأميركيون لا يتحدثون عن القومية الأميركية أو الحضارة الأميركية، بل كانوا يقولون إنهم يثمنون الوطنية، أي حب الوطن، دون أي انتماء اثني أو ديني. بوتين يتحدث عن استعادة مجد الإمبراطورية الروسية والاثنية الروسية وثقافتها، بينما يتغنى جيشينغ بينغ بماضي الصين الباهر، ويبشر مودي بقومية هندية، حتى يمكن وصفها بالشوفينية، ويتحدث أردوغان بفخر عن الإمبراطورية العثمانية.
في هذا النظام العالمي الجديد، أو الاصح القول في بدايات هذا النظام العالمي الجديد، هناك مفهوم مماثل لمفهوم “صراع الحضارات” الذي خرج به الباحث صاموئيل هنتغتون في تسعينات القرن الماضي. رأى هنتغتون إنه خلال الحرب الباردة كان الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، ولكن الصراعات القادمة ستكون بين حضارات مختلفة، مثل الخضارة الغربية والحضارة الصينية والحضارة الإسلامية والحضارة الارثوذوكسية والحضارة الهندية والحضارة الإفريقية، وغيرها. هذه النظرة للحضارات تتناقض مع مفهوم الدولة القومية في العصر الحديث. من هذا المنظور، الشروخ وخطوط التماس بين هذه الحضارات هي ثقافية وليس أيديولوجية.
في هذا النظام الذي نرى بداياته، كل حضارة كبيرة أو قديمة تسعى لخلق مناطق نفوذ خاضعة لها، وليس بالضرورة حلفاء بالمعنى التقليدي، وهذا ما يفسر استخفاف ترامب بأوروبا، واحترامه لروسيا بوتين، وصين جيشينغ بينغ وهند مودي وتركيا أردوغان. في هذا العالم الجديد، لا وجود لقيم أخلاقية عالمية مثل حقوق الانسان، هذا المفهوم الذي جعله الرئيس جيمي كارتر جزءاً اساسياً من السياسة الخارجية الأميركية، وعمل به جميع رؤساء الولايات المتحدة منذ سبعينات القرن الماضي.
ما يفعله بوتين في منطقة نفوذه، التي تشمل أوكرانيا وروسيا البيضاء والقوقاز وغيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة، يصب في هذه الرؤية. وهذا ما يفعله الزعيم الصيني جيشينغ بينغ في سياسته الهادفة إلى ضم تايوان إلى الصين، ودور الصين التوسعي في محيطها الجغرافي في المحيط الهادي، وقمعها للمسلمين في الصين، وهذا أيضاً ما يفسر سياسة مودي تجاه كشمير والمسلمين في الهند، وسياسة أردوغان في سوريا والعراق وأذربيجان وأرمينيا.
وللرئيس ترامب أحلامه الامبريالية التي تذكر بالدور العسكري الأميركي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين احتلت الولايات المتحدة كوبا وبورتوريكو والفيليبين وبنما. يهدد ترامب باستعادة قناة بنما، ويطالب بانضمام كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الواحدة والخمسين، كما يتطلع إلى بسط السيطرة الأميركية على جزيرة غرينلاند الأوروبية الضخمة، وأخيراً، وصول هذا الاحلام إلى احتلال قطاع غزة، وتحويله إلى منتجع سياحي تزدهر فيه فنادق ترامب، بعد تهجير سكانه الفلسطينيين الذي تعود جذورهم في غزة إلى قرون.
إنه نظام عالمي قيد النشؤ، نتعرف تدريجياً على بداياته، ولا يعرف أحد إلى أين سيؤدي. كل ما نعرفه أن انقلاب ترامب على التقاليد والأعراف الأميركية التقليدية خلال شهر واحد سوف تبقى آثاره ومضاعفاته مهيمنة لوقت طويل على عالم تعصف به تحولات جذرية، ويُنظر إلى البيت الأبيض حيث يُقيم الرجل الذي يريد أن ينصّب نفسه ملكاً على الولايات المتحدة.