التطورات المتلاحقة التي عصفت بالمشهد السياسي الأمريكي بين يومي الثلاثاء والخميس تبدو وكأنها حصيلة أسابيع وأشهر. يوم الأربعاء، واصل الرئيس المنتخب دونالد ترامب اتباع سياسة الأرض المحروقة في التعامل مع من يعتقد أنهم يريدون الإساءة إليه. وصعّد من اسلوبه الصدامي حين عقد مؤتمرا صحفيا مفاجئا شن فيه حملة شرسة وغير مسبوقة ضد أجهزة الاستخبارات الأمريكية، متهما إياها بالقيام بممارسات مماثلة لما كانت تشهده ألمانيا النازية، كما هاجم بعض وسائل الاعلام الأمريكية، ومنها شبكة “سي أن أن”، متهما إياها بترويج “أخبار ملفقة”. قبل ذلك بساعات ودّع الرئيس باراك أوباما الشعب الأمريكي في خطاب رصين وحزين بعض الشيء أعرب فيه عن اعتزازه بسجله، وقلقه أيضا على سلامة التركة التي يريد أن يتذكره بها الأمريكيون والمؤرخون. قلق أوباما كان في محله، لأن مجلس الشيوخ وبعد مرور منتصف ليل الثلاثاء بدأ بالتصويت على الإجراءات التي تبدأ عملية تفكيك نظام الرعاية الصحية المعروف باسم “أوباماكير” وهو القانون الذي اقترحه أوباما وأدى إلى توفير الضمان الصحي لأكثر من عشرين مليون أمريكي، والذي يعتبره أهم إنجاز له.
وعلى مدى الأيام الثلاثة بدأ المسؤولون الذين عينهم الرئيس المنتخب ترامب للمناصب الرئيسية وخاصة في مجال الأمن القومي مثل وزراء الخارجية والدفاع والأمن الداخلي والعدل ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) بالمثول أمام اللجان المختصة في مجلس الشيوخ الذي سيصوت على ترشيحهم. وأكثر ما أثار دهشة المراقبين من جلسات الاستماع هذه هو اتخاذ هؤلاء المرشحين – ومعظمهم رجال بيض متقدمون في السن ولهم خلفية عسكرية – مواقف علنية تختلف، وأحيانا تتناقض كليا مع المواقف التي اتخذها ودافع عنها المرشح ترامب خلال أكثر من سنة في سباقه الطويل إلى البيت الأبيض. مرشحو ترامب لملء هذه المناصب الحساسة رفضوا طروحاته المتعلق باستئناف تعذيب المعتقلين المتهمين بالقيام بأعمال إرهابية، كما رفضوا التمييز ضد المسلمين ومنعهم من دخول الولايات المتحدة. وأبرز نقاط الخلاف تمحورت حول مسألة جوهرية للرئيس المنتخب ترامب: كيفية العلاقة مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، حيث كان هناك إجماع على أن روسيا هي خصم للولايات المتحدة ويجب التصدي لسياساتها العدوانية . كما كان هناك إجماع على ضرورة صيانة وتعزيز حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتعاون مع الحلفاء في مجال التغير المناخي.
ومع نهاية يوم الخميس، فوجئت واشنطن بإعلان وزارة العدل بأن المفتش العام للوزارة مايكل هورويتزسوف يفتح تحقيقا في احتمال قيام مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) جيمس كومي بإساءة استخدام صلاحياته خلال التحقيقات التي أجراها بشأن البريد الالكتروني لوزيرة الخارجية السابقة ومرشحة الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة هيلاري كلينتون. وكان كومي قد اتهم كلينتون في الصيف الماضي بالتهور الشديد لأنها أنشأت جهاز خاص لإدارة بريدها الالكتروني الخاص في منزلها خارج إشراف وزارة الخارجية، ولكنه امتنع عن احالتها الى القضاء. ولكن كومي أعلن عن استئناف التحقيقات بقضية بريد كلينتون قبل أيام من موعد انتخابات الرئاسة، ما أثار الكثير من الجدل والسخط في أوساط حملة كلينتون، وكان من بين أسباب خسارتها الانتخابات، بحسب كلينتون نفسها.
ثلاثة أيام هزت واشنطن، ولكن مضاعفاتها المتعلقة بالنزاع بين الرئيس ترامب وأجهزة الاستخبارات، احتمال بروز خلافات بين ترامب وكبار المسؤولين في حكومته، ونتائج التحقيق في إجراءات مدير أف بي آي، سوف تبقى مخيمة بظلالها الثقيلة على بدايات ولاية الرئيس دونالد ترامب بعد تنصيبه يوم الجمعة المقبل الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة.
عودة الصقيع الروسي؟
خلال حملته الانتخابية كان المرشح دونالد ترامب يتبرع بالثناء على روسيا وأهمية التحالف معها لمكافحة التنظيمات الإرهابية مثل داعش في سوريا، وكان يعرب عن اعجابه بالمزايا القيادية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان ترامب يرفض بشدة وحدة واستخفاف تأكيدات أجهزة الاستخبارات الأمريكية وعلى مدى عدة أشهر بقيام روسيا بحملة مكثفة لإلحاق الضرر بالنظام الديمقراطي الأمريكي والتأثير على انتخابات الرئاسة من خلال أعمال القرصنة وترويج الأخبار الملفقة. كما رفض انتقاد احتلال وضم شبه جزيرة القرم من اوكرانيا، أو قبول تأكيدات الاستخبارات أن التدخل العسكري الروسي في سوريا ليس لمكافحة داعش بل لدعم النظام القمعي لبشار الأسد. ولذلك جاءت شهادات مرشحيه لوزارة الدفاع ووزارة الخارجية مشجعة وأن مفاجئة بعض الشيء. الجنرال جيمس ماتيس المرشح لوزارة الدفاع كان واضحا للغاية في مواقفه النقدية من بوتين. وفي مذكرة بعثها للجنة القوات المسلحة حول مواقفه، قال ماتيس إنه يدعم رغبة الرئيس ترامب بالتحاور مع روسيا، ولكنه تحدث أيضا عن “التحديات التي تمثلها روسيا بما فيها الرسائل المقلقة جدا من موسكو بشأن استخدام الأسلحة النووية، وانتهاكاتها للاتفاقيات الموقعة معها، واستخدامها لأساليب متنوعة لزعزعة استقرار الدول الأخرى، وتورطها في القرصنة وحرب المعلوماتية”. ورسم ماتيس صورة قاتمة لاحتمالات إقامة علاقات جيدة مع روسيا، قائلا إنه منذ مؤتمر يالطا (1945) للدول الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية حاولت الولايات المتحدة التحاور بشكل إيجابي مع روسيا “ولكن قائمة النجاحات كانت قصيرة”. واتهم ماتيس الرئيس بوتين بمحاولة “تفكيك حلف شمال الأطلسي، ولذلك علينا اتخاذ الخطوات للدفاع عن أنفسنا إذا دعت الضرورة”. وخلال شهادته شدد ماتيس على أهمية التحالفات الدولية للولايات المتحدة وضرورة تعزيزها، وخاصة حلف الناتو قائلا “علينا التمسك بتحالفاتنا الدولية وشراكاتنا الأمنية. التاريخ واضح: الدول التي لديها تحالفات قوية تزدهر، وتلك التي تفتقر إليها تذوي”. وشدد ماتيس أن حلف “الناتو مركزي لدفاعاتنا، واعتقد أنه على التحالف تجديد إرادته السياسية لمواجهة وصد نشاطات روسيا العدوانية وغيرها من الأخطار الأمنية التي تهدد أعضائه”. ويتناقض موقف ماتيس إلى حد كبير مع استخفاف المرشح ترامب خلال حملته الانتخابية بجدوى وفعالية حلف الناتو. ومع أن ماتيس قال إن إيران تشكل “أكبر قوة للاضطرابات في الشرق الأوسط” وعلى واشنطن منعها من فرض هيمنتها على المنطقة، إلاّ أنه دعا إلى الالتزام بالاتفاق النووي مع إيران قائلا “أنا أعتقد أنه اتفاق غير كامل لضبط الأسلحة، وهو ليس اتفاقية صداقة. ولكن عندما تلتزم الولايات المتحدة بكلمتها، فعليها أن تحترم هذا الالتزام والعمل مع الحلفاء “للتأكد من تطبيق الاتفاق. وكان المرشح ترامب قد اتخذ مواقف متشددة لكن متباينة بعض الشيء ضد الاتفاق النووي، من بينها قوله إنه سيمزق الاتفاق.
واتخذ ماتيس موقفا مغايرا كليا لموقف الرئيس المنتخب ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية اليها. وقال إن “تل أبيب هي عاصمة إسرائيل “حيث توجد الحكومة الإسرائيلية، مضيفا أنه يفضل الالتزام بموقف الحكومة الأمريكية الرسمي وهو أن تل أبيب هي عاصمة إسرائيل. وحين سؤاله عما إذا كان يؤيد نقل السفارة إلى القدس، تهرب ماتيس من الإجابة قائلا إن السؤال يجب أن يطرح على المرشح لمنصب وزير الخارجية. كما قال ماتيس أنه يؤمن بحل الدولتين، وإن أشار إلى صعوبة تحقيق ذلك. وكان الرئيس المنتخب ترامب الذي ألزم نفسه بنقل السفارة إلى القدس، قد عين صديقه ومحاميه ديفيد فريدمان سفيرا في إسرائيل. ويؤيد فريدمان سياسة الاستيطان الإسرائيلية، ويرفض حل الدولتين وقال إنه يتطلع للقيام بعمله كسفير من القدس.
وحتى وزير الخارجية المعين ريكس تيلرسون أعلن عن موقف حازم من احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو أمر فاجأ العديد من المراقبين في واشنطن الذين توقعوا أن يكون تيلرسون توافقيا تجاه بوتين وروسيا بسبب علاقته الشخصية مع الرئيس الروسي والتي طورها كرئيس لشركة “ايكسون موبيل” النفطية وهي العلاقة التي أدت إلى منحه “وسام الصداقة” في 2013. ورأى تيلرسون أنه ليس من المتوقع أن تصبح الولايات المتحدة صديقة لروسيا“لأن قيمنا تختلف بشكل صارخ. وعلينا أن نحرك روسيا من موقعها كخصم دائم، إلى شريك في بعض الحالات”. وفيما ألمح المرشح ترامب خلال حملته أن احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم له مبررات تاريخية وثقافية، قال تيلرسون إن روسيا احتلت أرضا ليست لها، وأنه لو كان في السلطة لكان قد اقترح على أوكرانيا استخدام قدراتها العسكرية على الحدود الشرقية مع روسيا، وأنه كان على الولايات المتحدة والناتو مساعدة أوكرانيا بالامدادات وتوفير الاستطلاع الجوي.
وانتقد النائب مايك بومبيو الذي رشحه ترامب لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) الممارسات العدائية لروسيا ووافق على تقويم الاستخبارات بأن موسكو قامت بأعمال القرصنة للتأثير على الانتخابات الأمريكية. وأضاف “هذا كان عملا عدائيا اتخذته القيادة البارزة داخل روسيا” في إشارة ضمنية إلى الرئيس بوتين. وقال بومبيو إن روسيا تحاول استعادة نفوذها من خلال “غزو واحتلال أوكرانيا، وتهديد أوروبا، وعدم القيام بأي شيء للمساهمة في تدمير داعش”. وتتعارض هذه المواقف كليا مع مواقف المرشح ترامب.
لا للتعذيب واستثناء المسلمين
اتخذ وزير العدل المعين جيف سيشنز موقفا مغايرا من موقف المرشح ترامب الذي دعا في بداية حملته إلى منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة وإن عدّل موقفه لاحقا، داعيا إلى منع دخول رعايا الدول التي ترعى الإرهاب أو تنشط فيها تنظيمات إرهابية. وقال سيشنز ” أنا لا أؤيد فكرة منع المسلمين كجماعة دينية من دخول الولايات المتحدة. وقال سيشنز أنه سيحترم القانون الذي أقره الكونغرس بعد انتخاب الرئيس أوباما والذي منع تعذيب المتهمين أو المشتبه بضلوعهم بأعمال إرهابية وخاصة التعذيب المعروف بالايحاء بالغرق. وكان سيشنز قد صوت في السابق ضد تحريم هذا الأسلوب. من جهته، رفض أيضا وزير الخارجية المعين تيلرسون منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، كما رفض اعتماد برنامج مثير للجدل يتم بموجبه تسجيل المسلمين في لوائح خاصة. وقال النائب مايك بومبيو المدير المعين لوكالة الاستخبارات المركزية أنه يرفض “بالمطلق” استئناف التعذيب حتى ولو طلب منه الرئيس ترامب ذلك. واتخذ الجنرال المتقاعد جون كيلي وزير الأمن الوطني المعين، قائلا إن الولايات المتحدة يجب ألا تعود أبدا إلى استخدام أساليب التعذيب. وكان الجنرال ماتيس قد قال للرئيس المنتخب ترامب، أن هناك أساليب انسانية اكثر وفعالة أكثر من أساليب التعذيب لاستجواب المشتبه بضلوعهم بالارهاب. كما رفض بعض المرشحين لهذه المناصب مواقف أخرى للرئيس المنتخب من بينها قول المرشح لوزارة الخارجية تيلرسون أنه لا يرفض اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ وهي الاتفاقية التي كان يصفها ترامب بـ”الكارثية”. كما دعا تيلرسون إلى عدم الانسحاب من اتفاقية التغير المناخي التي وقعتها إدارة الرئيس أوباما في مؤتمر باريس، معارضا بذلك موقف ترامب من هذا الملف. من جهته قلل الجنرال جون كيلي المرشح لوزارة الأمن الوطني من أهمية فكرة الجدار العازل بين أمريكا والمكسيك الذي يدعو ترامب إلى بنائه منذ إعلان ترشحه قائلا “الجدار المادي بحد ذاته لن يحقق الهدف المقصود منه” أي تخفيض معدلات الهجرة غير القانونية للولايات المتحدة.
حكومة ترامب
من المبكر التكهن بكيفية انعكاس هذه المواقف المتضاربة لوزراء ترامب مع مواقف رئيسهم، وإلى أي مدى سوف يسمح لهم بممارسة صلاحياتهم بحرية أكثر كما وعد. أيضا ليس من الواضح إلى أي مدى سيحاول الرئيس والمسؤولون في البيت الأبيض تنسيق المواقف بين البيت الأبيض والمسؤولين عن هذه الوزارات والأجهزة، أي هل سيحاول البيت الأبيض في عهد ترامب، كما هو الحال في إدارة الرئيس أوباما، إبقاء القرارات الرئيسية في أيدي الرئيس والمسؤولين المقربين منه في البيت الأبيض. وهناك احتمال ظهور خلافات علنية بين وزراء أقوياء مثل ماتيس وتيلرسون من جهة وبعض مساعدي ترامب في البيت الأبيض والذين لا يحتاجون إلى مصادقة الكونغرس على تعيينهم، مثل مستشار الأمن القومي الجنرال مايكل فلين المعروف بمواقفه الودية تجاه موسكو. كما أنه ليس من الواضح كيف يمكن التوفيق بين مواقف الوزراء الأساسيين و تلك التي يتبناها الرئيس ترامب، خاصة وأن الأخير لا يعرف معظمهم معرفة وثيقة. وكان من اللافت أن الوزير المعين تيلرسون قد قال للجنة العلاقات الخارجية التي مثل أمامها أنه ناقش مع الرئيس المنتخب ترامب بشكل عام المباديء التي يجب أن توجه السياسة الخارجية. وحين قال له السيناتور روبرت مينينديز “كنت أعتقد أن روسيا ستكون في طليعة الأولويات … ألم يحدث ذلك” . وجاء جواب تيلرسون مقتضبا ومفاجئا :”هذا لم يحدث حتى الآن”.
ثلاثة أيام شغلت واشنطن بصخبها السياسي، قد تكون مقدمة لما سيأتي.