ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
يلتقي خصوم الرئيس دونالد ترامب وأنصاره على القول إنه لا يتصرف وفق الأعراف الديبلوماسية في سياساته الخارجية، ولا يتخذ قراراته الداخلية وفقا للتقاليد والقيم الأمريكية أو حتى وفقا للقوانين وبنود الدستور الذي أدلى بقسم اليمين للعمل على احترامه وصيانته.
يُتهم الرئيس ترامب أنه في علاقاته وقراراته الخارجية يقوم بتقويض إرث سياسي يعود لحوالي 75 عاما، حين قامت الولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية ببناء مؤسسات وتحالفات دولية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتحالفات إقليمية مثل العلاقات الخاصة مع اليابان وكوريا الجنوبية، والأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، واتفاقات التجارة الحرة الدولية وغيرها، والتي اعتمدت عليها واشنطن أو استخدمتها بين وقت وآخر في صراعها الطويل والناجح ضد الاتحاد السوفياتي، والتي ساهمت في جعل الولايات المتحدة الدولة العظمى اقتصاديا وعسكريا وثقافيا. حلفاء أمريكا التقليديين مثل كندا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا، والذين قاتلوا جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية والحروب اللاحقة في شبه الجزيرة الكورية وفيتنام والعراق وأفغانستان، إضافة إلى الحرب الدولية ضد إرهاب تنظيم القاعدة، وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وجدوا أنفسهم في خانة الدول التي يعتبرها الرئيس ترامب غير حليفة. الرئيس ترامب اتهم هذه الدول بأنها تهدد الأمن القومي الأمريكي، كما يتبين من قراره قبل أيام بفرض رسوم إضافية (تعريفات) على استيراد الصلب والألومنيوم من هذه الدول بحجة أنها تهدد الصناعات الأمريكية، العسكرية تحديدا، الأمر الذي يعني أنها تهدد الأمن القومي الأمريكي.
تصرفات ترامب تعكس رغبته بأن يكون متميزا عن أسلافه، وخاصة باراك أوباما، وخبرته شبه المعدومة بالسياسة، وخاصة السياسة الخارجية، وهذا يتبين من تعامله مع الاقتصاد العالمي وكأنه لا يزال يعيش في خمسينات القرن الماضي، كما تعكس هذه الممارسات ميل ترامب للانتقام من منافسيه وخصومه، والذي ترجمه من خلال إقالته لجيمس كومي من منصبه كمدير للأف بي آي، ومحاولته التي لا تعرف الكلل لتشويه سمعة خصومه إن كانوا من السياسيين أو الاعلاميين. ينظر ترامب إلى العالم من منظور نرجسي بحت. كل شيء يبدأ به، وينتهي معه. ليس لديه أصدقاء أو أعداء دائمون، لديه فقط مصلحة شخصية دائمة وثابتة وغير قابلة للتغيير، وهذا يفسر إيمانه العميق بالعلاقات التعاقدية التي تفيده شخصيا بالدرجة الأولى.
معاقبة الحلفاء ومكافأة الخصوم
الرسوم الإضافية (التعريفات) المفروضة على الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك تقضي برفع التعريفات بنسبة 25 بالمئة للصلب و10 بالمئة على الألومينيوم المستورد من هذه الدول. صحيح أن شركات الصلب والألومنيوم الأمريكية استفادت بعض الشيء من هذه الرسوم، إلا أن صناعات أمريكية عديدة، سوف تتضرر منها بشكل مباشر أو غير مباشر. وسوف تفرض هذه الدول رسوم مضادة، الأمر الذي قد يؤدي إلى خسارة مئات الآلاف من الوظائف الأمريكية في السنوات المقبلة. وفور فرض الرسوم الأمريكية سارعت كندا إلى الإعلان عن إجراءات مضادة موجهة إلى صناعات أمريكية مختلفة. وإذا استمر الوضع كما هو عليه، فإن الولايات المتحدة ستجد نفسها في حرب تجارية دولية، تؤدي في نهاية المطاف إلى إلحاق أضرار كبيرة بجميع اقتصاديات الدول المتحاربة. هذه الحرب، تشكل تطورا ايجابيا وحتى تاريخيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يشجع مثل هذا الشرخ السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، لأنه يسهل عليه بسط نفوذه في أوروبا ويعزز من مناعته ضد أي إجراءات أوروبية بسبب تدخله في الشؤون الداخلية الأوروبية مثل التدخل في انتخابات هذه الدول، وضد الإجراءات العقابية التي فرضتها هذه الدول على روسيا في أعقاب احتلالها وضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا.الرئيس ترامب الذي استفاد من التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، سعى منذ وصوله إلى البيت الأبيض إلى تحسين العلاقات الأمريكية-الروسية، ولكن التحقيقات القضائية بالتدخل الروسي، وإمكانية تورط بعض المسؤولين في حملته الانتخابية في التدخل الروسي، منعته من تحقيق ذلك، وهو الذي لا يخفي إعجابه بالرئيس الروسي، ورغبته بإقامة علاقات خاصة مع روسيا. ومقارنة التصريحات الودية التي كان يطلقها ترامب حول بوتين وروسيا، بالتصريحات السلبية التي كان يطلقها ترامب ضد حلفاء أمريكا التقليديين، تبين عمق الشرخ الذي خلقه ترامب مع حلفاء أمريكا القدامى.
اللافت هو أن الصين وليس كندا أو الدول الأوروبية، هي الدولة الرئيسية التي تغرق السوق الأمريكي بالصلب والألومنيوم والتي تنتهك الاتفاقات التجارية والتي تعتبر المذنب الأكبر لجهة سرقة حقوق الملكية الفكرية وخاصة من الولايات المتحدة. والأمر الأكثر استغرابا، هو أن الرئيس ترامب فرض هذه الرسوم (التعريفات) على الحلفاء الذين اعتبروها مع معظم الخبراء بأنها رسوم حماية، في الوقت الذي كان يوفر فيه التسهيلات لشركة الاتصالات الصينية العملاقة ZTE على الرغم من انتهاكاتها للعقوبات الأمريكية ضد إيران وكوريا الشمالية، بعد أن وفرت الصين تسهيلات تجارية لشركات تمتلكها ايفانكا ترامب، إبنة الرئيس الأمريكي. في حقبة ترامب، حلفاء أمريكا القدامى يتعرضون للعقاب وكأنهم خصومها، وخصوم أمريكا التقليديين مثل الصين وروسيا، تتم معاملتهم وكأنهم حلفاء قدامى.
مفاجآت وتقلبات ترامب في الشرق الأوسط
نفّذ ترامب بعض وعوده وتهديداته التي ألزم نفسه بها خلال حملته الانتخابية والمتعلقة بقضايا ونزاعات الشرق الأوسط، بما في ذلك اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، وكذلك انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الدولي الموقع مع إيران. وترامب يبدو مرتاحا للغاية في علاقاته مع القادة المتسلطين في العالم وليس فقط مع المتسلطين في الشرق الأوسط. وهذا ينتهك المواقف الأمريكية التقليدية المؤيدة لحقوق الإنسان، حيث كانت الولايات المتحدة في ظل الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين تؤيد علنا وفي الاتصالات الديبلوماسية حقوق الإنسان، ولن لم تقم بشكل ثابت بدعم هذه الحقوق وكانت تلجأ بين وقت وآخر لاعتماد انتقائية تحبذ حلفائها الأمر الذي عرضها لانتقادات مبررة. الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتأييد الأخيرة في استخدام القوة ضد المتظاهرين الفلسطينيين، وحتى تفادي الدعوات المتوقعة خلال أعمال العنف للطرفين لممارسة ضبط النفس، كلها تبين استخفاف ترامب وحكومته بالأعراف والممارسات الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط. ويمكن أن نضع في هذه الخانة، غياب الانتقادات الأمريكية لأعمال الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكيف يمكن استغراب هذا الموقف، في الوقت الذي توقفت فيه تقارير وزارة الخارجية الرسمية عن وصف الأراضي الفلسطينية بالمحتلة من قبل إسرائيل.
الرئيس ترامب يقول إنه يريد التصدي للنفوذ الإيراني التخريبي في المنطقة، ولكنه يريد سحب القوات الأمريكية المنتشرة في شمال شرق سوريا بسرعة “وترك الآخرين ليهتموا بها”. ولولا تدخل وزارة الدفاع التي اقنعت بضرورة إبقاء هذه القوات في المستقبل المنظور لكان قد نفّذ ذلك. ترامب لا يبالي إذا كان الانسحاب سيعزز من نفوذ إيران وروسيا، أو أنه سيعني التخلي عن الحلفاء المحليين من سوريين، عربا أو اكرادا، على الرغم من أنهم لعبوا دورا رئيسيا في دحر تنظيم الدولة الإسلامية في تلك المنطقة من سوريا. الرئيس ترامب يريد من دول الخليج، التي كلما تحدث عنها تحدث عن غناها الذي ليس له حدود برأيه، أن تحل مكان القوات الأمريكية في سوريا، أو أن تمول نفقات القوات الأمريكية المرابطة هناك. وترامب يتحدث عن مثل هذه المسائل الحساسة بطريقة مبسطة تبين مرة أخرى سطحية إلمامه بهذه القضايا المعقدة. ترامب يتعامل مع دول الخليج العربية وكأنها مصارف متخمة بالمال.
ترامب الانقلابي ضد القيم الأمريكية
على الصعيد الداخلي لم يحدث أن حكم الولايات المتحدة رئيسا يقوم بشكل مستمر بتشويه سمعة القضاء الأمريكي، وإضعاف سلطة وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)،( على الرغم من أنه شخصيا عيّن قادة هذه المؤسسات) والتشكيك بصدقية وسمعة أجهزة الاستخبارات الأمريكية. وحتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، فتح ترامب حربا لا هوادة فيها ضد التعديل الأول في الدستور الأمريكي الذي يضمن حرية الرأي والتعبير والتجمع والدين وغيرها من الحقوق الأساسية، كما يتبين من هجماته الشرسة ضد الصحافة الأمريكية بما في ذلك استثناء بعض الإعلاميين ومهاجمتهم بالأسم وتحريض أنصاره على مهاجمتهم وعدم وتصديق تقاريرهم وتحقيقاتهم. الأمريكيون يتحدثون وعن حق عن ثبات وصلابة ومتانة النظام السياسي الأمريكي وعن جدارة وقوة مؤسساته وقدرتها على صد أي محاولات لتقويضها أو إضعافها، ويشيرون إلى حوادث عديدة تعرضت لها هذه المؤسسات لهجمات داخلية قوية، كما تمثلت في الحقبة المكارثية في خمسينات القرن الماضي التي حاول خلالها السيناتور جوزيف مكارثي وأنصاره من شن حملة تهديد وترهيب ضد المثقفين والكتاب اليساريين أو المشتبه بميولهم الشيوعية، والتي انتهت بهزيمة هذه الحملة. كما يشيرون إلى محاولات الرئيس ريتشارد نيكسون إساءة استخدام المؤسسات الأمريكية مثل وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها للتغطية على تورطه في فضيحة ووترغيت، إضافة إلى العداء السافر الذي أبداه نيكسون للصحافة الأمريكية (التي ساهمت في إرغامه لاحقا على الاستقالة)، ولكن نيكسون وجد معارضة حتى من الجمهوريين، كما أنه لم يسع إلى تقويض مختلف المؤسسات الأمريكية كما يفعل ترامب حاليا. ما يقوم به ترامب حاليا من خلال مشروعه الانقلابي ضد معظم القيم المكرسة في الدستور الأمريكي والمؤسسات التي يفترض أن تقوم بحماية وصيانة هذه القيم، مثل المؤسسات القضائية والقانونية والتشريعية، وضد الأعراف والتقاليد الأمريكية مثل تعزيز وصيانة الوحدة الوطنية والتصدي للاستقطابات الدينية والعرقية، غير مسبوق منذ استقلال الولايات المتحدة في 1776. ترامب مهووس بإرضاء قاعدته الشعبية الضيقة، والتي ترى في المهاجرين خطرا عليها، والتي تعتقد أن لون أمريكا التقليدي الأبيض يتغير وأصبح أسمرا أكثر فأكثر، هذه القاعدة التي ترى أن أمريكا المسيحية تاريخيا، أصبحت أقل مسيحية في مطلع القرن الحادي والعشرين، هذه القاعدة التي لا تزال تتمسك بمخاوفها من الأقليات والتي ترى في المتغيرات الديموغرافية خطرا عليها، هذه القاعدة ترى في ترامب المدافع الأول عن مصالحها واهتماماتها. وهذا يعني أن ترامب يتجاهل، لا بل أحيانا يشجع المواقف المعادية للمهاجرين، والأقليات غير البيضاء وغير المسيحية، ولما لا فهو حين اعلن عن حملته الانتخابية، ومن خلال أول قراراته التنفيذية كرئيس للبلاد، عامل هذه الفئات كخصوم وحتى كأعداء. السؤال الملح كان ولا يزال، إلى متى يمكن للولايات المتحدة كمجتمع ومؤسسات تحمل هذا الوضع غير الاعتيادي، لا بل الخطير الذي تمثله ظاهرة دونالد ترامب؟