ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
لم يحقق الرئيس دونالد ترامب في جولته العالمية الأولى أي اختراقات أو إنجازات سياسية هامة وملموسة، مثل إحياء الاتصالات الفلسطينية-الإسرائيلية أو التوصل إلى صيغة تعاون سياسي-عسكري مع دول الخليج العربية للتصدي لإيران. كما اتسمت اجتماعات ترامب بقادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسيل بالفتور والوجوم، بعد أن أنبّهم علنا ودون تبرير كامل لأنهم لا ينفقون ما فيه الكفاية على ميزانيات بلدانهم العسكرية. وإذا كان ترامب يرغب بأخذ إجازة قصيرة من تحدياته الداخلية وخاصة من مضاعفات التحقيق بالتدخل الروسي بالانتخابات فإنه أصيب بأكثر من خيبة في هذا الشأن، كما يتبين من الكشف عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) يقوم حاليا بالتحقيق بعلاقات واتصالات جاريد كوشنر، صهره وأقرب المستشارين إليه، مع المسؤولين الروس، وفي أعقاب النكسة القضائية الجديدة التي وجهتها إليه محكمة استئناف فيدرالية حين وافقت على قرار تعليق تطبيق حظر السفر المؤقت الذي فرضه ترامب على رعايا ستة دول ذات أكثرية مسلمة.
ترامب بين اصدقائه الجدد…
ولكن ترامب، الذي حظي باستقبال تاريخي وحار في الرياض لم يحظ به رئيس أمريكي من قبل، واستقبال حميم وودي في اسرائيل ورام الله، نجح بمجرد زيارته، ولأن اسمه دونالد ترامب وليس باراك أوباما، في تطوير علاقاته الشخصية مع قادة هذه الدول وغيرها من الذين التقاهم في البيت الأبيض، وتخطي مرحلة التوتر والفتور التي هيمنت على علاقات الولايات المتحدة بدول مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإسرائيل خلال السنوات الأخيرة من ولاية الرئيس أوباما. اتسمت اجتماعات ترامب مع القادة العرب في السعودية ومع قادة إسرائيل والسلطة الفلسطينية بحرارة وودية ظاهرة – وفي بعض الحالات بمديح مفرط من بعض القادة العرب بالرئيس الأمريكي – وخاصة عند مقارنتها بالوجوه المتجهمة والابتسامات الباهتة لقادة حلف الناتو في بروكسيل. هذه المفارقة كانت لافتة لأن ترامب بدا مرتاحا للغاية مع أصدقاء وحلفاء جدد نسبيا ولا تربط بين بلاده وبلدانهم أحلاف رسمية وقديمة مثل حلف شمال الأطلسي الذي يقترب من سنته السبعين.
في الرياض وقّع الرئيس ترامب والمسؤولون السعوديون على سلسلة من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والتقنية التي ستعزز العلاقات بين البلدين في المستقبل، وتسمح للرئيس الأمريكي في أن يقول للناخبين الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض إنه يحقق وعده بخلق “الوظائف والوظائف والوظائف” كما قال للصحافيين خلال اجتماعه بولي العهد الأمير محمد بن نايف، وأنه سيجلب استثمارات عربية جديدة إلى الولايات المتحدة. سياسيا، وضع الرئيس ترامب الولايات المتحدة بشكل رسمي أكثر وراء ائتلاف عربي-سني في مواجهة سياسات إيران التصعيدية والسلبية المتمثلة باستخدامها لتنظيمات وميليشيات شيعية من لبنان والعراق ودول أخرى في حروب الوكالة التي تشارك فيها في سوريا واليمن.
طبعا الزمن وحده سيقرر إذا ما كان القلق الشرعي من محاولات الهيمنة الإيرانية وحده كاف للإبقاء على مثل هذا الائتلاف، وحصره في الحيز السياسي–الإستراتيجي ومنعه من تعميق الاستقطاب السني–الشيعي الخطير الذي يمكن أن يجر المنطقة إلى صراع مذهبي مفتوح يستمر لسنوات طويلة ويؤدي إلى استنزاف الجميع. وبدأت توقعات وتمنيات البعض في أن تبدأ جولة ترامب الشرق أوسطية بإنشاء ما سمي بحلف “ناتو عربي” (سني) بالتصدع فور مغادرته الرياض. وأول بوادر هذا التصدع عكستها تصريحات منسوبة إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني انتقد فيها دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر وألمح إلى أنها تتهم قطر بدعم الإرهاب، ورأى أن لا حكمة في عداء إيران (مع أنه شارك في قمة الرياض). وتبع هذه التصريحات هجمات إعلامية بين هذه الدول وقطر.
في المدى المنظور، ما يمكن قوله ببعض الثقة، هو أن التوتر سيزداد بين واشنطن والسعودية ودولة الإمارات من جهة وإيران وحلفائها من التنظيمات الشيعية في المنطقة ( كما يتبين من التصريحات القاسية لحسن نصرالله زعيم حزب الله اللبناني ضد السعودية نيابة عن إيران في يوم الخميس) من جهة أخرى. هذا التوتر سينعكس على نزاعات المنطقة من اليمن إلى سوريا. الجميع يقولون أنهم يفضلون الحلول السياسية لهذه النزاعات، ولكن الأطراف المتصارعة في الميدان ومن يقف ورائها تتصرف وكأن لا بديل للحلول العسكرية.
في اسرائيل ورام الله، كرر ترامب رغبته في إحياء الاتصالات الفلسطينية-الإسرائيلية، حيث تعكس تصريحاته -التي لا تشمل الإشارة إلى حل الدولتين- إلى استعداده للقبول بأي اتفاقات مؤقتة تبقى دون الحل النهائي، وهو ما يمكن أن يقبل به رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وربما السلطة الفلسطينية ودول خليجية ويحظى بمباركة واشنطن التي يمكن أن تضعه في خانة تعزيز الائتلاف الإقليمي ضد إيران. ولكن من الصعب في المستقبل المنظور أن يسير نتنياهو حتى على هذا الطريق السهل لإسرائيل بحجة أنه يواجه معارضة من اليمين المتشدد في حكومته. كما أن تحريك المسار الفلسطيني-الإسرائيلي سيزداد صعوبة مع تفاقم التحديات السياسية وربما القضائية التي سيواجهها مستشار الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر الذي عينه ترامب المسؤول الأول عن إحياء المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية. وبما أن تاريخ “عملية السلام” يظهر بوضوح أنه لا يمكن عادة تحقيق أي تقدم نوعي دون مشاركة مباشرة ومثابرة من الرئيس الأمريكي، وبما أن ترامب غير ملم بتفاصيل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولا يمكن لمشاكله الداخلية إلا أن تتفاقم أكثر في الأشهر المقبلة، لذلك ليس من المرجح أن ينتج عن الأجواء الإيجابية التي صاحبت ترامب في إسرائيل ورام الله أي تغيير نوعي في طبيعة الوضع الراهن ربما باستثناء تفاقمه أكثر.
…وحلفائه القدامى
في تصريحاته، وفي لقاءاته، كما في لغته الجسدية ونبرته، كان من الواضح أن الرئيس ترامب خلال جولته الأوروبية القصيرة يعكس عدم ارتياحه للاجتماع مع حلفاء بلاده القدامى، خاصة وأن بينهم قادة جدد مثل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لم يكن ترامب يرغب بفوزه، وقادة قدامى مثل مستشارة ألمانيا انغيلا ميركل التي انتقدت ترامب ضمنا في كلمة لها في احتفال بذكرى سقوط جدار برلين في مقر حلف الناتو الجديد حين قالت إن دول الناتو “يجب أن تبقى متحدة في ثقتها بأن المجتمعات المفتوحة هي التي تجعلنا ننجح، وليس العزلة وبناء الجدران”. الرئيس ماكرون حض ترامب على عدم الانسحاب من معاهدة باريس للبيئة، كما سجلت تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا استيائها بسبب كشف الإعلام الأمريكي عن معلومات سرية تخص الهجوم الإرهابي في مانشيستر تتعلق بالقنبلة المستخدمة فضلا عن اسم المنفذ حتى قبل أن تقوم السلطات البريطانية بذلك، مطالبة واشنطن باحترام سرية المعلومات الاستخباراتية.
في كلمته الرئيسية، بمناسبة افتتاح نصب تذكاري لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، حيث وقف وراءه قادة الحلف، ارتأى ترامب أن يتحدث عن المال وما اعتبره تخلف معظم دول الحلف عن الإيفاء بالتزاماتها المالية للحلف (في الواقع الالتزامات المالية، أي 2 بالمئة من ناتج الدخل القومي هي ميزانيتها الدفاعية الفردية وليس للحلف) وفعل ذلك بلغة فظة وتوبيخية. وعكست الوجوه المتجهمة لقادة الحلف مشاعرهم الحقيقة، وهم يستمعون للرئيس الأمريكي وهو يلقي عليهم محاضرة توجيهية، وينتقد الكلفة المالية العالية للمركز الجديد لقيادة الحلف. ولكن الأمر الذي أثار استياء ودهشة قادة الحلف، كان في رفض ترامب أن يكرر الموقف التقليدي لكل رئيس أمريكي يشارك في قمم الناتو، أي تأكيد التزام واشنطن بالبند الخامس للحلف والذي يعتبر أي هجوم يتعرض له عضو في الحلف على أنه هجوم ضد الحلف بكامله. المفارقة أن ترامب أشار في خطابه إلى أن هذا البند طبق مرة واحدة في تاريخ الحلف، وذلك عندما تعرضت الولايات المتحدة لهجمات نيويورك الإرهابية وحين شاركت دول الناتو في الحرب الأمريكية في أفغانستان، حيث لا تزال لبعض هذه الدول وحدات عسكرية منتشرة هناك. وكانت دول الحلف التي لها حدود مشتركة مع روسيا وخاصة دول بحر البلطيق تريد أن تسمع مثل هذا الالتزام من الرئيس الأمريكي بسبب قلقها من التصرفات العدائية لروسيا تجاه هذه الدول والتي أصبحت مقلقة أكثر بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا وضمها لاحقا. وازدادت كذلك المخاوف الأوروبية من احتمال إلغاء ترامب للعقوبات التي فرضها الحلف ضد روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا، واحتمال معارضته لأي عقوبات جديدة يسعى بعض المشرعين الأمريكيين لفرضها ضد روسيا لمعاقبتها على التدخل في الانتخابات الأمريكية، كما يظهر ذلك في تصريح غريب لمستشار ترامب الاقتصادي غاري كوهين الذي قال إن ترامب “ينظر” في هذه العقوبات، مضيفا “في هذا الوقت، ليس لدينا موقف تجاه العقوبات”.
بعد عودته إلى واشنطن، سوف يجد ترامب من جديد نفسه جالسا تحت سيف فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات ومضاعفاتها التي تتوسع مع مرور كل يوم. الفارق الآن، هو أن التحقيقات لم تعد محصورة فقط في مسؤولين سابقين مثل بول مانافورت المدير السابق لحملته أو مايكل فلين مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، بل وصلت الآن إلى العائلة أي صهره كوشنر الذي يعتمد عليه اعتمادا كليا. التحقيقات بعلاقات كوشنر بالروس تشمل اجتماعات مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك شارك في بعضها فلين، والأهم من ذلك اجتماع عقده كوشنر في كانون الأول/ديسمبر الماضي مع سيرغي غوركوف وهو رئيس بنك روسي فرضت الولايات المتحدة عليه عقوبات اقتصادية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 2014. ولا يعني التحقيق بالضرورة أن كوشنر سوف يتهم بارتكاب أي جرائم جنائية، ولكن مصادر معنية بالتحقيق أوضحت أن التحقيقات بالتدخل الروسي لن تبقى محصورة بالشق السياسي للتدخل واحتمال تواطؤ مقربين لترامب مع الاستخبارات الروسية، ولكن التحقيق سوف يتطرق أيضا إلى احتمال ارتكاب مواطنين أمريكيين “جرائم مالية”، مثل غسل الأموال أو الحصول على قروض مالية من مصارف روسية أو أفراد ينتمون إلى “الأوليغارشية” الروسية المقربة من الرئيس فلاديمير بوتين دون الكشف عنها. ومرة أخرى سوف يجد ترامب نفسه في مواجهة تحقيقات بالتدخل الروسي من قبل لجان الكونغرس المختصة، ولكن الأهم منها هو التحقيق الجنائي الذي يقوم به المحقق الخاص روبرت مولر، وكذلك الصحافة الأمريكية وخاصة المكتوبة التي تستفيد الآن من سيل التسريبات التي تصلها من مسؤولين حاليين وسابقين يعترضون على تصرفات وسياسات ترامب ومساعديه المثيرة للقلق أو غير القانونية، وأخيرا من القضاء الأمريكي الذي يواصل تذكير ترامب بأن بعض قراراته التنفيذية، مثل قرار حظر سفر الرعايا المسلمين، هي قرارات مخالفة للدستور الأمريكي.