مع حلول يوم الثلاثين من الشهر الجاري، يكون قد مر على وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض مئة يوم. التقويمات الأولية من المحللين والمعلقين لأداء ترامب خلال هذه الفترة تتراوح بين السلبية والكارثية. بعض الأوصاف التي تتردد هي، “فشل تاريخي”، “انهيار تاريخي”، “يتسبب بالدوران”، “إجراءات غير مسبوقة”. كيف بدأ هذا التقليد السياسي الذي لا يوجد له أي أساس تشريعي، بل هو طقس سياسي، أو امتحان لا يفلت منه أي رئيس؟
بدأ الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت ولايته الأولى في 1933، وسط فترة الكساد الاقتصادي الكبير الذي عاشته الولايات المتحدة والعالم في ثلاثينات القرن الماضي، بسلسلة جريئة وخلاقة وسريعة من الإجراءات والقرارات السياسية والتشريعية والإدارية خلال أول مئة يوم له في البيت الأبيض. هذه الإجراءات وضعت البلاد على الطريق الطويل لاستعادة عافيتها الاقتصادية، بعد أن طمأن الأميركيين في خطاب تنصيبه قائلا “ليس لدينا ما نخافه سوى الخوف نفسه”.
خلال هذه الفترة، أوقف روزفلت النشاطات المصرفية لمنع إفلاس المصارف، وسحب الولايات من المعيار الذهبي، وأقر مع الكونغرس قوانين جديدة غير مسبوقة لمساعدة المزارعين وأصحاب المنازل والعاطلين عن العمل، كما ألغى قانون تحريم الكحول، الذي لحقته فوراً “حفلات البيرة” التلقائية التي عمت البلاد. هكذا بدأ تقليد تقويم أداء الرؤساء الأميركيين خلال أول مئة يوم لهم في السلطة. وحتى اليوم بقي أداء روزفلت الاستثناء الذي لم يقترب منه أي رئيس آخر منذ ذلك التاريخ، مع أن الرئيس رونالد ريغان اقترب أكثر من غيره من سجل روزفلت.
خلال أول مئة يوم له في السلطة، أذهل دونالد ترامب الأميركيين بالوتيرة السريعة لتوقيعه على القرارات التنفيذية، التي اعتمد عليها – على الرغم من أن الكثير منها مشكوك بصدقيتها القانونية – بدلاً من الاعتماد على الكونغرس لإقرار القوانين، وهي عملية بطيئة، وتتطلب مشاركة فعالة من الهيئة التشريعية، مع أن الحزب الجمهوري يسيطر على مجلسي الكونغرس، ولكن ترامب يريد أن يتفرد بالسلطة. خلال هذه الفترة وقع ترامب على 130 قراراً تنفيذياً، العديد منها لا يستند إلى أي أسس قانونية، وهذا ما يفسر 80 قراراً قضائيا ضد هذه القرارات التنفيذية، بما في ذلك قرارات صادرة عن قضاة عينهم رؤساء جمهوريين.
ويجد ترامب نفسه الآن في مواجهة قرار اتخذته المحكمة العليا بالإجماع يطالبه “بتسهيل” عودة مهاجر من السلفادور – متزوج من أميركية، وله عائلة في ولاية ماريلاند – اعترفت إدارة ترامب أنها نقلته “بالخطأ” إلى سجن مشهور بقسوته في السلفادور، دون أي إجراءات قانونية. استخفاف المسؤولين في إدارة ترامب بالقرارات القضائية، والانتقادات الشخصية السافرة الصادرة عن ترامب ضد القضاة، بما فيها المطالبة بعزلهم ومحاكمتهم، وهو أمر لم يلجأ إليه رئيس أميركي منذ الحرب الأهلية، أدى إلى تخوف الكثيرين من انزلاق البلاد إلى أزمة دستورية خطيرة.
يأمل ترامب من خلال معظم هذه القرارات التنفيذية في تعزيز سلطته التنفيذية على حساب السلطة التشريعية المتمثلة بالكونغرس، والسلطة القضائية المتمثلة بالقضاة الفيدراليين والمحكمة العليا. بعض هذه القرارات التنفيذية هي بكل بساطة محاولات انتقامية من خصومه، الذين عارضوه خلال ولايته الأولى، وهو من خلال استخدامه غير الشرعي لوزارة العدل يسعى لمعاقبتهم، من خلال بدء تحقيقات قضائية ضدهم، وارغامهم على توكيل المحامين للدفاع عن أنفسهم. وساعده في ذلك، نجاحه حتى قبل انتخابه، في إعادة خلق الحزب الجمهوري على شاكلته، وتحويله إلى طائفة سياسية تدين له بولاء شبه أعمى.
وفي أول مئة يوم له في البيت الأبيض، بدا ترامب وكأنه يشن حرباً على أكثر من جبهة، بعضها بهدف الانتقام، وبعضها لأنها تخدم مزاجه ونزواته الشخصية. والأهداف تشمل وسائل الاعلام التقليدية الكبيرة، وآخرها برنامج “ستون دقيقة”، الذي تبثه شبكة سي بي أس، وهو من أقدم البرامج التلفزيونية الجدية، وطالب بتعويضات بقيمة 10 مليارات دولار. قرار شركة باراماونت جلوبال (Paramount Global)، التي تملك الشبكة، الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب للتوصل إلى تسوية خارج المحكمة، أدى إلى استقالة كبير منتجي برنامج “ستون دقيقة”، لأنه خسر قدرته على اتخاذ قرارات مستقلة، في إشارة إلى خضوع الشركة لضغوط ترامب.
وكما يضع ترامب نفسه في مواجهة القضاء المستقل، والتشكيك بقراراته، فإنه استهدف كبريات مكاتب المحاماة في البلاد، وخاصة في واشنطن ونيويورك، لأن هذه المكاتب تجرأت على تمثيل بعض خصوم ترامب، ما أرغم بعض هذه المكاتب على التوصل إلى تسويات مع إدارة ترامب، حيث قبلت تقديم خدمات قانونية مجانية بقيمة عشرات الملايين من الدولارات، لكي لا تخضع لعقوبات يفرضها ترامب – بشكل غير قانوني، مثل إلغاء الرخص القانونية التي تسمح للمحامين في هذه المكاتب دخول المباني الحكومية، للاجتماع بمحامي الحكومة، أو للمرافعة في المحاكم التي تعتبر مبان حكومية.
وتشمل القرارات التنفيذية العقابية عدداً موجهاً ضد كبريات الجامعات، مثل هارفارد – أقدم وأشهر وأغنى – جامعة في البلاد، وجامعة كولومبيا وغيرها. هدد ترامب بتجميد المنح الحكومية التي تقدمها الحكومة منذ الحرب العالمية الثانية للجامعات الكبيرة، للقيام بالأبحاث العلمية والطبية، ومنها منحة تزيد عن ملياري دولار لجامعة هارفارد جمدها ترامب، لأن الجامعة رفضت شروطه، مثل تغيير مناهجها التعليمية، والادعاء بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لمكافحة العداء للسامية، وغيرها من المطالب التي تقوض الحريات الأكاديمية. نجحت ضغوط ترامب في إرغام جامعة كولومبيا على التوصل إلى تسوية مع ترامب، قبلت فيها الجامعة معظم شروط الحكومة، ومنها إعادة هيكلة قسم الشرق الأوسط والدراسات الأفريقية لأن الحكومة تعتبره “يساريا”.
ويقوم ترامب، بالتحالف مع أيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، بحملة ضد الإدارة المدنية، التي يعتبرها ترامب جزءاً من “الدولة العميقة”، ما أدى إلى طرد وتسريح مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين بشكل اعتباطي. هذه التفرد باتخاذ القرارات الاعتباطية، خارج السياق القانوني، يبين أن ترامب يستعير صفحات من كتاب الأوتوقراطيين الذين سبقوه إلى السلطة عبر الانتخابات، قبل أن يلجؤوا إلى تقويض العملية الانتخابية، مثل فكتور أوربان في هنغاريا، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وقيس سعيد في تونس. ويهدف ترامب من هذه الحرب لاحتواء، وحتى الهيمنة على، هذه المؤسسات، التي ضرورية لازدهار وتقدم أي مجتمع ديموقراطي، وتفريغها من محتواها الديموقراطي.
ولكن اخفاق ترامب التاريخي يتمثل في الفوضى، وحالة انعدام الثقة بالاقتصاد الأميركي التي خلقها عبر قراراته الاعتباطية في فرض الرسوم الجمركية العالية ضد الأصدقاء والخصوم، والتسبب في حرب تجارية مع الصين، التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وخلال مئة يوم، انحسرت الإنتاجية الأميركية، وفقدت الشركات الأميركية، والمستهلك الأميركي الثقة بمستقبل الاقتصاد الأميركي، وشهدت الأسواق المالية في نيويورك هبوطاً حاداً ما أدى إلى خسارة هذه الأسواق 10 ترليون دولار بين 2-9 أبريل/نيسان. وتوقع حاكم المصرف المركزي جيروم باول بطء النمو الاقتصادي، ورأى أن رسوم ترامب الجمركية ستؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم. كما انحسرت قيمة الدولار في العالم.
اخفاق ترامب في مجال السياسة الخارجية سافر بالمقارنة مع تأكيداته قبل انتخابه من أنه سيحرز انجازات سريعة في إنهاء الحرب في أوكرانيا وغزة. وبدلاً من صيانة وقف إطلاق النار في قطاع غزة سمح لإسرائيل باختراقه، كما قام بتحول استراتيجي في موقف الولايات المتحدة التقليدي من روسيا، حيث أصبحت روسيا حليفاً للولايات المتحدة، وحين أعاد ترامب كتابة التاريخ مدعياً أن أوكرانيا، وليست روسيا، هي التي بدأت الحرب. ومع أن أوكرانيا قبلت قبل أسابيع اقتراح ترامب لوقف إطلاق النار، لا تزال روسيا تواصل تدمير أوكرانيا على الرغم من مواقف ترامب الإيجابية تجاهها.
وفي مواقف تقترب من العدمية، شنّ ترامب حرباً تجارية ضد أكبر شريكين اقتصاديين للولايات المتحدة: كندا والمكسيك، إضافة إلى أكبر كتلة تجارية في العالم، أي الاتحاد الأوروبي واليابان. تهديد ترامب العلني بضم كندا أغضب الكنديين، كما أثار حديثه عن الاستيلاء على جزيرة غرينلاد سخط سكان الجزيرة، والدانمارك التي تملك غرنلاند.
نجح ترامب في بداية محاولاته ترهيب مؤسسات المجتمع المدني، مثل الجامعات ووسائل الاعلام المستقلة، والسلطة القضائية المستقلة، حيث أرغم بعضها مثل جامعة كولومبيا، وبعض مكاتب المحاماة الكبيرة على قبول شروطه. ولكن في الأيام والأسابيع الماضية، بدأنا نرى بدايات مقاومة منظمة لسلطوية ترامب، وكان في طليعة هذه المقاومة جامعة هارفارد، التي لم ترفض فقط شروط ترامب، بل تحدته في المحاكم ضد اجراءاته التعسفية، مثل حرمانها من منح الأبحاث العلمية، وتهديده بحرمان هارفارد من الاعفاءات الضرائبية. وفي اليوم التالي لقرار هارفارد، وقع 220 رئيس جامعة وكلية في الولايات المتحدة على بيان مشترك أدانوا فيه محاولات إدارة ترامب السيطرة على الجامعات. وجاء في البيان أن محاولات الإدارة “التدخل سياسياً” في شؤون المؤسسات التعليمية وتخطي صلاحياتها “يهدد مجمل التعليم العالي في أميركا”.
كما ازداد عدد مكاتب المحاماة التي تحدت قرارات ترامب، ولجأت إلى القضاء لوقفه. وفي هذا الوقت واصل القضاة المستقلون قراراتهم ضد اجراءات ترامب، وتشمل هذه القرارات القضائية التهديد بمعاقبة المسؤولين الحكوميين إذا استمروا في تحدي أوامر القضاة.
وتشهد الولايات المتحدة تظاهرات شعبية عارمة ضد سياسات ترامب الاقتصادية، وقراراته السياسية والقانونية الاعتباطية. وهذا ما عكسته مختلف استطلاعات الرأي التي كشفت في الأيام الأخيرة من انحسار شعبية ترامب، وخاصة في صفوف الناخبين المستقلين، الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض. اللافت أن هذه الاستطلاعات أظهرت معارضة شريحة من الناخبين الجمهوريين لسياسة ترحيل المهاجرين غير الموثقين وحرمانهم من حقوقهم القانونية. وواجه عدد من المشرعين الجمهوريين جماهير ساخطة في مقاطعاتهم تطالبهم بتحدي قرارات ترامب الاعتباطية.
أعادت أكثرية بسيطة من الناخبين الأميركيين دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لاعتقادهم أنه قادر على احتواء معدلات التضخم، ولكنه في أيامه المئة الأولى زج البلاد في حرب تجارية مع العالم، وهدد مستقبل الاقتصاد الأميركي، ومكانة الدولار في العالم، وأرغم الحلفاء والخصوم على الحديث عن مرحلة “ما بعد أميركا”، وهو عالم لم تعد فيه الولايات المتحدة، كما يحلو للأميركيين وصفها تقليدياً “بالمدينة المشعة على التلة”.