ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
وحده الرئيس ترامب يمكن أن يصف وضعا مأساويا تسبب به وأدى إلى خسائر بشرية ومعنوية ضخمة، على أنه إنجاز لامع يستحق التهنئة. وحده رئيس أهم وأعتى قوة ديمقراطية في العالم قادر على إعطاء زعماء متسلطين ومعادين بالعمق للقيم الديمقراطية والليبرالية، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان الفرصة لتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية على حساب حلفائه القدامى الذين نزفوا مع القوات الأمريكية في معارك ضد عدو مشترك، وأن يعتبر ذلك “أمرا واقعا خلقته الولايات المتحدة ولا أحد غيرها”. وحده الرئيس ترامب الذي يمكن أن يعطي الرئيس التركي أردوغان الضوء الأخضر لاجتياح شمال سوريا، ليسرع بعد أن تعرض لانتقادات لاذعة من الأوساط السياسية والاعلامية ومن قيادات الحزب الجمهوري، إلى التهديد “بتدمير ” الاقتصاد التركي إذا لجأت تركيا إلى استخدام العنف المفرط، ثم ليسرع بإيفاد نائبه مايك بينس على رأس وفد من المسؤولين البارزين للتفاوض مع الرئيس أردوغان على اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار بعد أن حققت تركيا بعضا من أهدافها، وتحديدا ارغام “قوات سوريا الديمقراطية” بأغلبيتها الكردية على الانسحاب من بعض المناطق المحاذية للحدود التركية، وتقويض أي خطط لديها لاقامة منطقة تتمتع بحكم ذاتي في سياق دولة فيدرالية سورية في المستقبل، إضافة إلى تحقيق الهدف التركي الهام، وهو خلق شرخ عميق بين الولايات المتحدة والكرد أو حتى تقويض هذا التحالف الأمريكي-الكردي، الذي كان في جوهر الحملة العسكرية المضادة للدولة الإسلامية والتي أدت إلى تفكيك دولة “الخلافة” الإسلامية.
وحده الرئيس ترامب القادر على الادعاء بأن الولايات المتحدة التي ستسحب معظم قواتها من سوريا، سوف تترك للآخرين، أي عمليا روسيا وتركيا ونظام الأسد مهمة مكافحة بقية خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، وليس الحلفاء التقليديين في حلف الناتو على سبيل المثال، الذين لا يوجد لهم مكان أو وظيفة في المخيلة المحدودة للرئيس الأمريكي. وأخيرا، وحده الرئيس ترامب القادر على ارتكاب خطأ استراتيجي فادح – أو ربما قرار متعمد- بسحب القوات الأمريكية من المنطقة التي ستحتلها القوات التركية دون التشاور المسبق ليس فقط مع مستشاريه البارزين لشؤون الأمن القومي، بل أيضا مع الحلفاء مثل فرنسا وبريطانيا اللتان نشرتا قوات خاصة في شمال سوريا للتنسيق والتعاون مع القوات الأمريكية.
هذه هي الكوارث التي تسبب بها الرئيس ترامب خلال الأسبوعين الماضيين، وأدت إلى مقتل مئات المدنيين السوريين، وهروب حوالي ربع مليون سوري من كرد وعرب من ديارهم، وإلى تخلي الولايات المتحدة طوعا عن نفوذها ووجودها العسكري في شمال سوريا، بعد سنوات من القتال ضد عناصر “الدولة الإسلامية” وغيرهم من الإرهابيين، بالتعاون من الحلفاء المحليين، وبعد انفاق مئات الملايين من الدولارات على المجالس المدنية وعلى تمويل المشاريع الاجتماعية والاقتصادية الرامية إلى تعزيز الاستقرار في تلك المنطقة السورية وهو ما حصل نسبيا على الأرض في السنوات الأخيرة.
روسيا وتركيا في مشهد استعماري جديد
ومن أبرز تداعيات قرار ترامب المتهور بالانسحاب في وجه القوات التركية الغازية، وأسرع روسيا ونظام الأسد لاستعادة السيطرة على عدد من البلدات الشمالية قبل أن تحتلها القوات التركية والميليشيات المتعاونة معها، هو بروز روسيا أكثر من أي وقت مضى منذ بداية النزاع العسكري في سوريا، بصفتها الدولة الخارجية ذات النفوذ الأبرز في سوريا ومحيطها، وليس الولايات المتحدة. بعد اتصالاته المربكة بالأمريكيين وتلقيه إشارات متناقضة حول اجتياحه للأراضي السورية ، توجه الرئيس أردوغان إلى روسيا للالتقاء بالرئيس بوتين الذي بنى معه علاقات قوية خلال السنوات الأربع الماضية، ليشهد العالم في 2019 مشهدا مماثلا لزعماء الدول الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وهم يتسابقون على اقتسام القارة الأفريقية. وفي مؤشر صارخ على أن انسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا أعطى الرئيس بوتين انتصارا كبيرا، وإلى حد أقل الرئيس أردوغان، قام الرئيسان بتقاسم شمال سوريا بينهما: منطقة نفوذ روسية، تنتشر فيها عناصر أمنية روسية مع قوات سورية تابعة للنظام في دمشق، ومنطقة نفوذ تركية، تنتشر فيها قوات تركية، إضافة إلى الميليشيات العسكرية التي استخدمتها تركيا لترهيب السكان المحليين، والتي ذكرت تقارير الصحافة الأمريكية أنها تشمل عناصر كانت منضوية في السابق في صفوف تنظيمي القاعدة، والدولة الإسلامية الإرهابيين. الخاسر الأكبر هم السكان المدنيون الذين نزحوا من قراهم ومدنهم أما قبل أو بعد احتلالها من القوات التركية أو الميليشيات العاملة معها والتي يقدر عددهم بحوالي ربع مليون نسمة على الأقل. الخاسر الثاني هو تحالف قوات سورية الديمقراطية الذي اضطر لسحب قواته من المناطق التي احتلتها تركيا، وكذلك المناطق التي طلبت من القوات السورية النظامية والقوات الروسية السيطرة عليها لمنع وقوعها في أيدي الأتراك، وهي خسارة أقل وجعا.
وقبل خذل حلفائه القدامى الكرد وتركهم تحت رحمة الأتراك والروس، قام ترامب بتشويه سمعتهم، وترديد الأوصاف التي ينعتهم بها أردوغان: وفجأة أكتشف ترامب أن الكرد “ليسوا ملائكة”، وأن بعضهم هم “ماركسيون” وآخرون إرهابيون أكثر شراسة من تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى أي حال لماذا يجب على الولايات المتحدة أن تلزم نفسها بحماية الكرد والقتال معهم، وهم الذين لم يسرعوا لمشاركة القوات الأمريكية والحليفة خلال عملية الإنزال البحري الضخم على شواطئ النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية؟ أو لماذا لم يحاربوا مع القوات الأمريكية خلال حرب كوريا، أو حتى القتال مع الأمريكيين في أفغانستان؟ هذه هي الاسئلة التي طرحها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية علنا ودون إحراج.
حماية النفط وليس المدنيين
خلال الأيام القليلة الماضية كان من الصعب فهم تصريحات واجتهادات ترامب ومعرفة ما هو أكاذيب واضحة، ( ادعى ترامب أنه تم اعتقال معظم إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية الذين هربوا من السجون، وهو ادعاء لا أساس له من الصحة) أو صور نمطية هوليودية مهينة وكأن المنطقة كلها صحراء مثل قوله التحقيري أنه يريد الانسحاب من منطقة “رملية مضرجة بالدماء”. وبينما كان ترامب ينوي سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا باستثناء قاعدة التنف، يبدو أنه غير رأيه بعد أن أقنعه صديقه السيناتور ليندسي غراهام الذي اجتمع بترامب برفقة معلق على شبكة تلفزيون فوكس بضرورة ابقاء بعض القوات الأمريكية لحراسة حقول النفط في شمال شرق سوريا. وهكذا بدأ ترامب باطلاق تصريحات غريبة مثل “لقد سيطرنا على النفط في الشرق الأوسط” إلى أن تبين لاحقا أنه كان يتحدث عن نشر عدد محدود من القوات الأمريكية “لحماية النفط، وسوف نقرر في المستقبل ما الذي سنفعله بالنفط”. حقول النفط التي يتحدث عنها ترامب تنتج كميات محدودة من النفط ذات النوعية المتدنية الذي يستهلك محليا والذي يتم تكريره بصعوبة. هذه ليست حقول نفط مشابهة بأي شكل من الأشكال لحقول النفط الموجودة في الدول العربية المصدرة للنفط، أهمية “حمايتها” تكمن في منع وقوعها في أيدي النظام في دمشق. ولكن موقف ترامب من النفط السوري بعث برسالة سافرة للسوريين وخاصة حلفاء ترامب القدامى الكرد: الولايات المتحدة مستعدة لنشر قواتها لحماية النفط، وليس لحماية ارواحكم.
حقق الرئيس أردوغان انتصارا تكتيكيا، حين أرغم قوات سوريا الديمقراطية على الانسحاب جنوب الحدود التركية، ولكن الاحتلال التركي للأراضي السورية لن يكون دون كلفة وقد لا يعزز من مكانة أردوغان في الداخل. المنطقة التي احتلتها تركيا ليست بالمساحة التي أرادها أردوغان لإعادة عدد كبير من اللاجئين السوريين في تركيا إلى المنطقة الحدودية، وهذا من بين الأهداف الرئيسية للاجتياح، لأن أردوغان يدرك أن ردود الفعل السلبية التركية ضد اللاجئين السوريين قد ساهمت في تخفيض شعبيته. كما أن السكان الباقين في ما يسميه الأتراك والأمريكيين “المنطقة الآمنة” هم بأكثريتهم من الكرد الذين سينظرون إلى الجيش التركي كما يجب أن ينظرون إليه كجيش احتلال، ما يعني أن الأتراك يجب أن يتوقعوا مقاومة مسلحة أما من سكان “المنطقة الآمنة” أو من كرد من خارجها. أيضا بقاء تركيا كقوة احتلال في سوريا، لن يكون دون عواقب أو عقوبات اقتصادية أما من الكونغرس الأمريكي أو من دول حلف الناتو. الاحتلال التركي لشمال سوريا، أثار من جديد وبشكل لا يمكن تجاهله السؤال المطروح في السابق ولكن ببعض الخجل وهو: ما هو مبرر بقاء تركيا في حلف شمال الأطلسي، الناتو؟