شهدت الولايات المتحدة يوم الخميس حدثا تاريخيا، حين بدأ مجلس الشيوخ للمرة الثالثة في تاريخ البلاد الإجراءات القانونية الأولية لمحاكمة الرئيس الخامس والأربعين دونالد جون ترامب بتهمتي إساءة استخدام صلاحياته الدستورية، وعرقلة أعمال وتحقيقات الكونغرس.
وهذه هي المرة الأولى التي يحاكم بها رئيس أمريكي بتهم تتعلق بالسياسة الخارجية. وتحول مجلس الشيوخ إلى مسرح مورس فيه طقس سياسي جمع تقاليد القرن الثامن عشر وتقنيات القرن الحادي والعشرين حين مشى ممثلو الادعاء من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ لتقديم وثائقهم وقراءة بندي الادعاء. وقرأ رقيب المجلس فقرة صاغها مؤسسو الجمهورية الأمريكية وفق حساسيات تلك الفترة التاريخية، وطالب فيها اعضاء المجلس الالتزام بالصمت المطلق أو مواجهة عقوبة السجن، وفقا لشروط المحاكمة. وسوف يطلب من الاعضاء ابقاء هواتفهم النقالة خارج القاعة، وعدم التدخل في المداولات أو التعليق عليها أو مناقشتها مع الأعضاء الآخرين، خلال الجلسات.
وبعد أن أدلى رئيس المحكمة العليا جون روبرتس الذي كان يرتدي ثوبه الرسمي الأسود الفضفاض بقسم اليمين، قام بدوره بالإشراف على قسم اليمين لجميع أعضاء المجلس والذي ينص على ضرورة تحليهم بالموضوعية خلال محاكمة الرئيس ترامب التي ستبدأ أولى جلساتها تحت إشراف القاضي روبرتس ظهر الثلاثاء المقبل. ولاحظ العديد من المحللين أن قسم اليمين والدعوة اعتماد الموضوعية في إصدار الحكم ببراءة أو ذنب الرئيس ترامب، يتناقض بشكل سافر مع مواقف الأغلبية الساحقة من الأعضاء الجمهوريين الذين أصدروا أحكامهم المسبقة ببراءة ترامب ، على الرغم من استمرار الكشف عن أدلة جديدة تثبت أن ترامب ومساعديه قد ضغطوا بالفعل على أوكرانيا لفتح تحقيق بدور نائب الرئيس السابق جوزف بايدن في أوكرانيا خلال وجوده في البيت الأبيض ودور نجله هنتر بايدن الذي كان عضوا في مجلس إدارة شركة أوكرانية للطاقة. وكان زعيم الأغلبية الجمهورية السيناتور ميتش ماكونيل قد قال إنه سينسق مواقفه مع فريق محامي الرئيس ترامب. وقبل ساعات من افتتاح الجلسة أصدر مكتب المحاسبة الحكومية، وهو هيئة تابعة للكونغرس تقريرا أكد فيه أن البيت الأبيض قد انتهك القانون حين جمّد تسليم صفقة أسلحة لأوكرانيا بقيمة 391 مليون دولار أقرها الكونغرس لارغام أوكرانيا على التحقيق بنشاطات جوزف بايدن.
وهناك أغلبية من الأعضاء الديمقراطيين الذين قالوا إنهم سيصوتون ضد ترامب لأن الأدلة المتوفرة تثبت ذنبه. وبين هؤلاء أربعة مرشحين لمنصب الرئاسة سوف ترغمهم المحاكمة على وقف نشاطاتها الانتخابية قبل أقل من ثلاثة أسابيع من بدء موسم الانتخابات الحزبية الأولية في ولاية آيوا.
واتسمت مراسم افتتاح المحاكمة بالجلال و بوطأة اللحظة التاريخية التي مرت بها البلاد ثلاث مرات في ثلاثة قرون: في القرن التاسع عشر عندما حوكم الرئيس أندرو جونسون، وفي نهاية القرن العشرين خلال محاكمة الرئيس بيل كلينتون، ومحاكمة الرئيس ترامب في القرن الحالي. ومقابل الجدية والوقار الذي اتسمت بها طقوس مجلس الشيوخ، تعامل ترامب كعادته باستخفاف مع إجراءات محاكمته وواصل اتهامه للمحكمة بأنها خدعة من الديمقراطيين لاستخدامها ضده في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وحتى هذه اللحظة المتأخرة لم يتوصل قادة الحزبين الى اتفاق بشأن استدعاء شهود جدد للمثول أمام المحكمة من الذين لم يمثلوا امام لجان مجلس النواب التي جمعت الادلة ضد الرئيس ترامب. ويصر الديمقراطيون على استدعاء عدد محدود من المسؤولين السابقين والحاليين بمن فيهم مستشار الامن القومي السابق جون بولتون، الذي وصف الاتصالات والضغوط على أوكرانيا أنها بمثابة “صفقة مخدرات”، ومدير البيت الأبيض بالوكالة ميك مالفيني، بينما يعارض الجمهوريون بتشجيع من الرئيس ترامب استدعاء مثل هؤلاء الشهود. ويطالب ترامب وغيره من الاعضاء الجمهوريين باستدعاء المرشح جوزيف بايدن ونجله هنتر للمثول أمام المجلس، في ما يعتبره العديد من المحللين محاولة لتحويل الأنظار عن انتهاكات ترامب ، والادعاء بانهم يريدون مكافحة الفساد في أوكرانيا، وأن بايدن الأب والأبن غارقان في الفساد، على الرغم من غياب أي أدلة تثبت هذه الادعاءات. قرار استدعاء الشهود يتطلب تصويت أكثرية بسيطة عليه، ويأمل الديمقراطيون أن يوافق معهم أربعة أعضاء من الجمهوريين على الأقل خلال التصويت على هذه المسائل الإجرائية. ووفقا لاستطلاعات الرأي العام أكثرية الشعب الأمريكي، (وأكثرية من الجمهوريين) يؤيدون استدعاء شهود جدد من بينهم بولتون.
وبغض النظر عن كيفية حسم الخلاف حول الشهود، من المتوقع أن تقف الاكثرية الجمهورية في المجلس وراء ترامب وان تحكم ببراءته ايضا بغض النظر عن الأدلة. سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري شبه مطلقة، وقد اثبت قدرته على معاقبة أي تحد له من داخل الحزب الجمهوري، وهو لا يتردد في معاقبة أي صوت نقدي من داخل الحزب. وخلال محاكمة ترامب في مجلس النواب أظهر الجمهوريون انضباطا قويا ولذلك لم يبرز أي صوت جمهوري ينتقد الرئيس وسلوكه وممارساته غير التقليدية وانتهاكاته للقوانين. خلال محاكمة الرئيس بيل كلينتون في 1999 صوت الديمقراطيون لتبرئة رئيسهم. ولكنهم بعكس الجمهوريين اليوم، وجهوا انتقادات قاسية وعلنية للرئيس كلينتون واعتبروا سلوكه في البيت الابيض وعلاقته بالمتدربة مونيكا لوينسكي والتغطية عليها سلوكا مشينا ومحرجا، وإن كان لا يستحق محاكمته او إقصائه من منصبه.
المضاعفات الدولية لمحاكمة ترامب
خلال التحقيقات بفضيحة ووترغيت التي أوصلت الرئيس ريتشارد نيكسون الى حافة المحاكمة والاقصاء، رّتب نيكسون زيارة مفاجئة وسريعة للشرق الاوسط في 1974، لاعادة التركيز على السياسة الخارجية، ولكنه اضطر إلى الاستقالة بعد زيارته لسوريا ومصر واسرائيل ببضعة اسابيع. خلال محاكمة الرئيس كلينتون، صعّد من الهجمات ضد تنظيم القاعدة، ولكن ذلك لم يساعده داخليا. التصعيد العسكري الذي أمر به الرئيس ترامب ضد إيران للرد على استفزازاتها، عرضة للاتهام بانه استغل التوتر مع طهران لتحويل الاهتمام عن إحالته للمحاكمة. ولكن حتى الان لم توثر مشاكل ترامب القانونية على تمسك قاعدته الشعبية به، ويعتقد ان ترامب سوف يستغل تبرئته المتوقعة من مجلس الشيوخ لاستخدامها في معركته الانتخابية ضد الحزب الديموقراطي. ويرى ترامب وانصاره ان محاكمته لن تؤثر على قاعدته الداخلية بسبب تقدم الاقتصاد الوطني وانحسار معدلات البطالة إلى مستويات تاريخية. ويدعي ترامب أنه مسؤول عن تقدم الاقتصاد الأمريكي وازدهار الأسواق المالية، وهي تطورات نادرا ما يتحكم بها الرئيس الأمريكي، ولكن ترامب مثله مثل اسلافه يدعي انه جلب الازدهار للبلاد.
المفارقة هي أن محاكمة ترامب، خاصة وأن احتمال اقصائه من منصبه أمر صعب للغاية، لن تكون لها مضاعفات كبيرة أو راسخة على الصعيدين الداخلي والخارجي. على الصعيد الخارجي، جلب ترامب معه الى هذه الساحة الفوضى والتخبط والتهور والشخصانية. من هذا المنظور، محاكمة ترامب يمكن ان ترغمه على الاهتمام بالقضايا الداخلية، ما يخفف من قدرته على التورط في النزاعات الخارجية. صدقية ترامب في العالم ليست عالية، وميله لإطلاق التهديدات السياسية وفرض العقوبات الاقتصادية أضعفت من صدقية الولايات المتحدة، إن لم نقل من “الهيبة” الأمريكية.
ولكن السبب الأساسي للقول بان المحاكمة لن تؤثر سلبا على السياسية الخارجية يعود ببساطة لعدم وجود سياسة خارجية أمريكية متماسكة يقوم ترامب وفريق لامع من الدبلوماسيين المحترفين بتطبيقها. وبدلا من ان يبني ترامب على العلاقات الجيدة للولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، هدد وفرض على هذه الدول عقوبات اقتصادية وأنب رؤسائها. ومع بداية سنته الرابعة في البيت الأبيض لا يستطيع ترامب أن يدعي أنه حقق أي انجازات خارجية هامة، أو اختراقات تاريخية. وحتى العلاقات التي يعتبرها خاصة ويريد تطويرها مثل العلاقات مع روسيا الاتحادية، لم تتطور كما كان يرغب أيضا الرئيس فلاديمير بوتين، واضطر ترامب لقبول المزيد من العقوبات التي فرضها الكونغرس ضد روسيا.
ولعل التخبط والتناقضات التي أحاطت بتعامل ترامب مع كوريا الشمالية وايران، تبين ابعاد اخفاقه في اعادة صياغة علاقات واشنطن مع هاتين الدولتين. التهديدات الأولية لكوريا الشمالية وزعيمها كيم يونغ أون بما في ذلك “تدمير” كوريا الشمالية، تحولت لاحقا الى علاقة ودية بعد ثلاثة اجتماعات وتبادل الرسائل ما أدى إلى وقوع الرئيس الأمريكي في “غرام” الحاكم المطلق لكوريا الشمالية. العلاقات مع إيران لم تكن متوترة في بداية ولاية ترامب، ولكنها وصلت إلى حافة الحرب مع بداية سنة ترامب الرابعة (والأخيرة ؟). عندما سحب ترامب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الدولي مع إيران، توقع أن تؤدي سياسة “الضغوط القصوى” إلى ارغام إيران على العودة إلى المفاوضات من موقع أضعف نسبيا. هذا لم يحدث، لا بل أن إيران صعدت من هجماتها ضد دولة الإمارات العربة المتحدة والسعودية.
ترامب ادخل الفوضى الى الشرق الاوسط، وتحديدا الى النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي حين اعطى هذا “الملف” الى صهره جاريد كوشنر الذي ليس لديه أي خبرة سياسية. وتباهى ترامب بانه سيطرح “صفقة القرن” التي ستعيد الاستقرار والازدهار والسلام الى الشرق الاوسط. وبعد 3 سنوات، لا استقرار ولا ازدهار ولا سلام.