يعيش الرئيس السابق دونالد ترامب في عالمين متناقضين، لم يحدث أن عاش فيهما أي رئيس أميركي سابق. ترامب لا يزال – بعد محاكمته مرتين في مجلس النواب، وخسارته للانتخابات في 2020، ومرور أكثر من 18 شهرًا على مغادرته للبيت الأبيض – القائد الجمهوري الأول، والذي يتصرف كأمير للحزب، الذي كان الرئيس إبراهام لينكولن (Abraham Lincoln) أول شخصياته التاريخية، بعد أن حوّله إلى ما يشبه الطائفة السياسية التي تدين له بولاء شبه مطلق.
وأكدت نتائج آخر انتخابات حزبية يوم الثلاثاء استمرار هيمنة ترامب على قاعدة الحزب الجمهوري من خلال فوز عدد من مرشحيه لمختلف المناصب الفيدرالية والمحلية، كان من بنيهم مرشحة مغمورة اسمها هارييت هاجمان (Harriet Hageman)، اختارها ترامب لمنافسة وهزيمة أهم وأعند خصم جمهوري له، النائبة ليز تشيني (Liz Cheney) التي تمثل ولاية وايومنغ. هزيمة تشيني، نجلة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، والموجودة في مجلس النواب منذ 2016، كانت متوقعة، ولكن نسبة هزيمتها كانت مدّوية، حيث حصلت على 29 بالمئة من الأصوات فقط، مقابل حصول منافستها هاجمان، التي ساعدها ترامب سياسيًا وماليًا، على 66 بالمئة من الأصوات.
هذا هو العالم الأول الذي يعيش فيه ترامب قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني، وحوله عدد هام من المرشحين الذين ساعدهم في الحصول على ترشيح حزبهم لمقاعد في مجلسي النواب والشيوخ ومنصب حكام عدد من الولايات، إضافة إلى عشرات المرشحين للإشراف على الانتخابات في ولايات بعضها ستساهم في حسم معركة الرئاسة في 2024. هؤلاء المرشحين، يرددون ادعاءات ترامب أنه هو الفائز الشرعي في انتخابات الرئاسة في 2020، وأن الرئيس بايدن ليس الرئيس الشرعي للولايات المتحدة.
ولكن ترامب، الرئيس السابق بالنسبة لأكثرية الأميركيين، يجد نفسه أكثر من أي وقت مضى تحت حصار قانوني، على المستويات الفيدرالية والمحلية (مستوى الولايات ومستوى المدن)، يهدد مستقبله السياسي والشخصي، وهو المتعود طوال حياته الطويلة كرجل أعمال ومقاول على المحاكم والدعاوى ودفع الغرامات المالية للإفلات من عقاب أسوأ. هذا هو العالم الثاني غير الآمن وغير الودي الذي يعيش فيه ترامب، والذي يمكن أن يصطدم بعالمه الأول وأن يدمره.
وصدمت مشاكل ترامب القانونية أنصاره ومعارضيه الأسبوع الماضي، حين كشف (هو وليس وزارة العدل) أن عشرات العناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) قاموا بتنفيذ أمر من وزارة العدل، بعد الحصول على موافقة قاض فيدرالي بتفتيش مقره في منتجع مارا لاغو بولاية فلوريدا، وحملوا معهم صناديق من الوثائق الرسمية التي يفترض أن تكون في قسم الأرشيف الرسمي، الذي يملك كل الوثائق الرئاسية.
وكان ترامب قد نقل عشرات الصناديق من الوثائق الرئاسية، التي يدعي أنها ملكه الشخصي إلى فلوريدا، وإن كان قد أعاد قسمًا منها قبل أشهر، وأبلغ، عبر أحد محاميه قبل عملية التفتيش الأخيرة، وفقا لتقارير صحفية، أنه لم يعد لديه أي وثائق رسمية في مقره. وبعد أن طلبت وزارة العدل مرة أخرى الحصول على هذه الوثائق، وبعد مماطلة ترامب، لم يعد أمام وزير العدل ميريك غارلند (Merrick Garland) إلا أن يأمر الإف بي آي بالحصول عليها. وفي وجه اتهامات ترامب لوزارة العدل بأنها تلفق التهم له، طلب وزير العدل من قاض فيدرالي الكشف عن مضمون أمر التفتيش وأسسه القانونية، الأمر الذي أظهر وجود تحقيق جنائي تقوم به وزارة العدل، وأن ترامب ربما انتهك قوانين فيدرالية عديدة، كما كشف أن الوثائق الموجودة في حوزة ترامب في فلوريدا تشمل وثائق لها علاقة ببرامج نووية، وإن لم يكن من الواضح ما إذا كانت هذه البرامج النووية أميركية أم تابعة لدولة أخرى.
لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن قامت عناصر أمنية بتفتيش منزل رئيس أميركي سابق بغرض الحصول على وثائق رسمية لا يفترض أن تكون بحوزته. ترامب تعامل مع تفتيش مقره بأكثر من طريقة. اتهم أولًا عناصر الإف بي آي “بزرع” وثائق مزورة لإحراجه، ثم قال أن العملية هي مجرد خداع وتلفيق وفبركة، ولاحقًا وصف عملية التفتيش القانونية، وكأنها “اقتحام” أو “غارة” قامت بها عناصر تابعة “للدولة العميقة” بغرض اضطهاده أو اضعافه، وبعدها استخدم هذه الأوصاف والنعوت والمبالغة فيها، مثل القول أنه هو الضحية المستهدفة الآن، ولكن “الدولة العميقة” سوف تستهدف مؤيديه، وأرسل هذه الأوصاف في مناشدات لأنصاره لكي يتبرعوا له بالدعم المالي لمواجهة هذه التهم.
في الأيام التي تلت الكشف عن تفتيش مقره، ارتفعت التبرعات المالية اليومية التي تصل ترامب من معدل حوالي 200 ألف دولار في اليوم إلى حوالي مليون دولار في اليوم. ومنذ مغادرته للبيت الأبيض حصل ترامب، باسم لجنة العمل السياسي التي أسسها، على تبرعات من مؤيديه وصلت إلى مئة مليون دولار. الرئيس السابق يدعي أن هذه التبرعات هي لأغراض انتخابية، ولكنه ينفق جزءًا ضئيلًا للغاية منها لمساعدة المرشحين الجمهوريين الأخرين، ويستخدم هذه الأموال لتمويل سفره ودفع رواتب موظفيه ونفقات محاميه.
نظريًا، يمكن للتحقيق بهذه الوثائق أن يؤدي إلى مقاضاة ترامب وتجريمه، حتى ولو أعلن كما هو متوقع عن ترشحه مرة أخرى لمنصب الرئاسة. ويواجه ترامب تحقيقًا قضائيًا في ولاية جورجيا، يعتبره بعض الخبراء القانونيين، ربما أخطر تحقيق ناتج عن محاولاته التلاعب بنتائج انتخابات 2020، لأنه انتهك قوانين الولاية حين حاول الضغط على المسؤولين المحليين عن الانتخابات إلغاء فوز المرشح جوزيف بايدن بالولاية. وتشمل الأدلة من جملة ما تشمل مكالمة أجراها ترامب مع براد رافنسبيرغر (Brad Raffensperger) المسؤول الأول عن الانتخابات في الولاية، وحاول الضغط عليه قائلًا، “أريدك أن تعثر لي على 11,780 صوتا”، لضمان نجاحه في الولاية. ما لم يعرفه ترامب هو أن المكالمة كانت مسجلة، كما تبين بعد أن حصلت عليها وأذاعتها صحيفة واشنطن بوست. وقبل أيام تم استدعاء رودي جولياني (Rudy Giuliani) محامي ترامب الشخصي خلال وجوده في البيت الأبيض للتحقيق معه في جورجيا. وكان جولياني رأس الحربة التي استخدمها ترامب في حملته لتزوير نتائج الانتخابات وخاصة في ولاية جورجيا.
خلال الأيام العشرة التي عقبت تفتيش مقر ترامب في فلوريدا، ازدادت شراسة السجال السياسي في البلاد، وصاحب ذلك أعمال عنف وتهديدات بعنف إضافي، إضافة إلى شّن حملة غير مسبوقة ضد شرعية الأجهزة الحكومية، وخاصة وزارة العدل والإف بي آي. وللتدليل على السيطرة شبه المطلقة التي يمارسها ترامب على قاعدته الحزبية، والتي يستخدمها لترهيب وتهديد أي قيادي جمهوري يتجرأ على معارضته كما فعل ضد النائبة ليز تشيني، سارع أقطاب الحزب الجمهوري، بمن فيهم أولئك الذين يعارضون ترشيحه مرة أخرى إلى استنكار تفتيش مقره، وحتى الدفاع عنه، ومطالبة وزارة العدل بالكشف عن تفاصيل التحقيق، وهو أمر يتنافى مع القوانين والأعراف التي تمنع مناقشة أي تحقيق خلال إجرائه. تحريض ترامب لقاعدته ضد الإف بي آي ووزارة العدل دفعت برجل مسلح ببندقية من أنصاره لاقتحام مكتب محلي للإف بي آي في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو، ما أدى إلى اشتباك انتهى بمقتله. كما تلقى القاضي الذي وقع على أمر تفتيش مقر ترامب، وكذلك عناصر من الإف بي آي إلى تهديدات باستخدام العنف ضدهم.
وعكست اللغة النابية التي استخدمها الجمهوريون في دفاعهم عن ترامب، عمق الخلافات والاستقطابات السياسية والأيديولوجية في البلاد. وعلى سبيل المثال بدأ حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون ديسانتس (Ron DeSantis)، الذي لا يخفي طموحاته الرئاسية، باستخدام عبارة “نظام بايدن” بدلا من حكومة بايدن، في الوقت الذي قارن فيه مشرعون من مجلسي الكونغرس رجال الإف بي آي بعناصر الغاستابو النازية، كما قال السناتور الجمهوري راند بول (Rand Paul) انه لا يستبعد قيام “الإف بي آي” بزرع وثائق مزورة في مقر ترامب لتجريمه.
وخلال مقابلة تلفزيونية معه، كان السناتور الجمهوري ليندزي غراهام (Lindsey Graham)، وهو عضو في اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ، يوافق على اتهامات مذيع شبكة فوكس لعناصر “الإف بي آي” بأنهم يكذبون ويخدعون ويزّورون. واتهم السناتور الجمهوري عن ولاية فلوريدا ريك سكوت (Rick Scott) مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه يتصرف وكأنه جهاز في دولة من العالم الثالث، بينما دعت النائبة الجمهورية اليز ستيفانيك (Elise Stefanik) التي تحتل المرتبة القيادية الجمهورية الثالثة في مجلس النواب إلى التحقيق مع إدارة الرئيس بايدن، ومحاسبته على استخدامه لوزارة العدل “كسلاح ضد خصومه السياسيين”. آخرون دعوا إلى وقف تمويل مكتب التحقيقات الفيدرالي.
في الأشهر التي عقبت اجتياح مبنى الكابيتول، حّذر محللون ومؤرخون من أن الولايات المتحدة تنزلق تدريجيًا باتجاه عنف سياسي يهدد نظامها الديموقراطي. في أعقاب تفتيش مقر ترامب وردود فعل الجمهوريين على الحدث، ارتفعت أصوات جديدة تدق ناقوس الخطر. الكاتب تيم ألبرتا (Tim Alberta) نشر مقالا في مجلة ذي أتلانتك قال فيه إن البلاد “تسير باتجاه مستوى من العنف السياسي لم تشهده منذ الحرب الأهلية”، أي منذ أكثر من 150 سنة.
وجاء في استطلاع أجراه مركز أبحاث تابع لجامعة كاليفورنيا/دافيز أن 67 بالمئة من الأميركيين يقولون أن هناك “تهديد جدي للديموقراطية” في الولايات المتحدة، وأن أكثر من 50 بالمئة من الأميركيين يقولون أنه “في السنوات القليلة المقبلة سوف تحدث حرب أهلية في الولايات المتحدة”.
حدوث حرب أهلية هو أمر مبالغ فيه كثيرًا، ولكن حدوث عنف سياسي غير معهود منذ الحرب الأهلية كما قال تيم ألبرتا، هو أمر غير مستبعد، والبعض يراه محتمل جدًا إذا تم على سبيل المثال مقاضاة أو تجريم ترامب، أو إذا ترشح للرئاسة وخسر السباق مرة ثانية، ورفض الاعتراف بهزيمته.
صحيح أن ترامب محاصر بتحقيقات قضائية قد تؤدي إلى تجريمه، ولكن الحقيقة المرّة هي أن ترامب المحاصر، يحاصر بدوره المجتمع الأميركي بأكمله، وهو لن يتردد إذا واجه تجريمه قضائيًا، أو أي خطر آخر يعتبره خطرًا وجوديًا، في أن يهدم هيكل الديموقراطية الأميركية عليه وعلى الأميركيين.