ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
الأيام الأخيرة من شهر مايو – أيار لم تكن ودية للرئيس دونالد ترامب. داخليا، ازدادت الأصوات التي تطالب بمحاكمته، مهددة بالتحول إلى جوقة صاخبة لا يمكن تجاهلها.
واضطربت الأسواق المالية وتفاقم القلق حولها جراء الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، على خلفية قلق المزارعين والعمال من مضاعفات رسوم الحماية التجارية التي فرضها ترامب على العديد من البضائع الصينية التي تعّود المستهلك الأمريكي شرائها بأسعار مقبولة، والتي ردت عليها الصين برسوم مضادة. صحيح أن معدلات البطالة متدنية جدا والاقتصاد بشكل عام لا يزال ينمو (وهو نمو بدأ وارتفع باستمرار خلال ولايتي الرئيس السابق باراك أوباما) إلا أن الرواتب لم ترتفع بما فيه الكفاية، كما أن الهوة بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعا، والضغوط على الطبقة الوسطى تزداد باضطراد.
خارجيا، بعد سنتين ونصف في البيت الأبيض لم يحقق ترامب أي انجاز داخلي، وجميع قراراته في هذا المجال كانت سلبية، مثل الانسحاب من اتفاقيات أو التزامات خارجية كان أسلافه قد الزموا البلاد بها، مثل الاتفاق الدولي النووي مع إيران، والانسحاب من اتفاقية باريس للبيئة، واتفاق الشراكة لدول حوض المحيط الهادئ. وتتأرجح علاقات الولايات المتحدة مع كل من كندا والمكسيك بين الفتور والتوتر. وأصاب الفتور علاقات ترامب بقادة دول أوروبا الديمقراطيين، وإن كانت ودية أكثر مع الأوروبيين الاوتوقراطيين مثل فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا. وعلى الرغم من تفاخر ترامب بصداقته مع زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، إلا أنه لم يحدث أي تقدم على الإطلاق في مجال تخفيض أو إلغاء البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية. وعلى الرغم من الحديث المستمر عن ما يسمى “بصفقة القرن” إلا أن المسافة بين الفلسطينيين وإسرائيل لم تكن بهذا البعد منذ بداية ما سمي بـ “عملية السلام” قبل عقود. أما اخفاق بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في تشكيل الحكومة والدعوة لانتخابات برلمانية جديدة في سبتمبر – أيلول المقبل يعني أنه لن يكون هناك أي حديث عن طروحات سياسية بشأن النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي (إذا افترضنا وجود مقترحات جدية أصلا) لن يكون واقعيا قبل الخريف المقبل، أي مع اقتراب موسم الانتخابات الحزبية. انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، ولكنه لم يعتمد حتى الآن على سياسة واضحة المعالم تجاه هذا البلد، أكثر من إعادة فرض العقوبات الاقتصادية ضدها. وزاد التصعيد العسكري وتبادل التهديدات في الأسابيع الماضية، على خلفية إرسال امدادات عسكرية أمريكية إلى منطقة الخليج، من احتمالات وقوع حوادث أمنية قد تدفع بالبلدين إلى مواجهة عسكرية غير مقصودة. وما زاد الأمور غموضا، هو أن تبادل التهديدات، صاحبه رسائل سلمية أطلقها ترامب شخصيا، كرر فيها استعداده للتحاور مع الإيرانيين، قائلا إن كل ما عليهم فعله هو أن يتصلوا به هاتفيا. هذه المواقف المتناقضة تخلق الحيرة ليس فقط في طهران، بل أيضا في العواصم الأخرى المعنية بالعلاقات بين واشنطن وطهران من عواصم دول الخليج العربية إلى العواصم الأوروبية والآسيوية. وحتى العلاقات مع روسيا التي أراد ترامب حتى قبل انتخابه أن يجعلها خاصة وحميمة، لم تتحسن ولم تتطور. بعد سنتين ونصف في البيت الأبيض، ترامب لا يستطيع طمأنة الحلفاء والأصدقاء، كما لا يستطيع ارغام الخصوم على احترامه.
ترامب سيبقى في ظل مولر حتى بعد مغادرته للبيت الأبيض
في الأيام الماضية، وجد الرئيس ترامب نفسه في موقع دفاعي لا يتمناه أي رئيس لنفسه، مع ارتفاع الأصوات المطالبة بمحاكمته في مجلس النواب في أعقاب بيان المحقق الخاص روبرت مولر والذي أكد فيه بشكل لا لبس فيه، أن تحقيقاته بالتدخل الروسي في انتخابات 2016 واحتمال تعاون ترامب أو العاملين في حملته مع الجهود الروسية لم تكشف عن أدلة كافية تثبت أنه “لم يرتكب أي جرم واضح” ولذلك فإنه لم يبرئه من تهمة التعاون مع الروس، كما أن الأدلة المتوفرة حول تعاون الطرفين للتأثير على الانتخابات “لم تكن كافية” لاتهامه بالتآمر مع روسيا. وبدأ مولر بيانه وأنهاه بتذكير الأمريكيين بالتحدي الجوهري الذي تواجهه البلاد، والذي كان وراء تعيينه محققا خاصا، أي التدخل الروسي الواسع النطاق والمنظم للتأثير على الانتخابات لمساعدة الرئيس ترامب على الفوز ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وبقاء هذا الخطر معلقا فوق الولايات المتحدة مع اقترابها من انتخابات 2020. مولر وصف التدخل الروسي الذي قام به ضباط استخبارات وضباط عسكريون بأنه “هجوم” ضد النظام السياسي الأمريكي، وأن هذا التدخل شمل اختراق وسائل الاتصال الاجتماعي، واختراق الحسابات الالكترونية للمرشحة الديمقراطية وحزبها وسرقة رسائلها الالكترونية وتوزيعها على منظمة ويكيليكس التي قامت بدورها بنشرها انتقائيا.
بيان مولر، الذي شاهده ملايين الأمريكيين يتحدث للمرة الأولى بعد صمت استمر لسنتين، لم يتضمن معلومات أو حقائق مثيرة أو غير معروفة، ولكن أهميته تكمن في أنه شرح للأمريكيين للمرة الأولى وبكلماته هو – وليس عبر كلمات وزير العدل وليام بار- لماذا توصل إلى الاستنتاجات التي توصل إليها، ولماذا لم يحيل ترامب إلى القضاء. وبعد شهرين من صدور تقريره، وأكثر من شهر بعد توزيعه ونشره، بعد حجب فقرات تتعلق بمعلومات شخصية عن الشهود، قام مولر بشرح السبب الرئيسي لقراره عدم إحالة ترامب إلى القضاء، أي القواعد الداخلية لوزارة العدل والتي تمنع محاكمة أي رئيس خلال وجوده في منصبه لأن ذلك يتعارض مع الدستور الأمريكي، وإن كانت هذه القواعد تسمح بالتحقيق في ما إذا كان الرئيس أو أي من مساعديه قد انتهكوا القوانين، وإحالة الآخرين باستثناء الرئيس إلى القضاء. وأبرز ما جاء في بيان مولر هو قوله إن “الدستور يتضمن هيئة أخرى غير النظام القضائي لمحاكمة رئيس خلال وجوده في منصبه”. ومع أن مولر لم يذكر أسم هذه الآلية، إلا أنه كان من الواضح أنه كان يتحدث عن الكونغرس بصفته الهيئة الوحيدة التي يخولها الدستور محاكمة وإقالة الرئيس. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يفسر العديد من الحقوقيين والخبراء بشؤون الدستور والقضاء بأن بيان مولر، الذي أنهى فيه علاقته بوزارة العدل، هو دعوة ضمنية ولكن قوية للكونغرس الأمريكي لكي يمارس صلاحياته الدستورية بالبدء بإجراءات محاكمة الرئيس ترامب في مجلس النواب.
أهم ما فعله مولر بأسلوبه الهادئ والواضح هو دحضه الفعال لادعاءات كل من وزير العدل وليام بار والرئيس ترامب اللذين بدءا سردية مزورة لتقرير مولر بهدف تبرئة ترامب من تهم التعاون مع روسيا، والادعاء بأنه لم يقم بمحاولة عرقلة التحقيق، وهو الذي طلب من محاميه دون ماغان التخلص من المحقق مولر على سبيل المثال. كما أن الرئيس ترامب بالتحديد قد نجح في إقناع قاعدته الضسفة بأن تقرير مولر، وفقا لتفسير الوزير بار له، قد برأه من تهمة التعاون مع روسيا، والأهم من ذلك برأه من تهمة عرقلة العدالة، على الرغم من أن التقرير يتضمن 10 حوادث قام فيها ترامب بمحاولة عرقلة التحقيق.
وخلال الدقائق التسعة التي قام خلالها المحقق مولر بقراءة بيانه، نجح في تقويض ادعاءات الوزير بار الذي قال للأمريكيين حتى قبل نشر التقرير أن مولر لم يستند في قراره عدم إحالة ترامب إلى القضاء على القواعد المتبعة في وزارة العدل. ولكن هذا ما أكده مولر بشكل لا لبس فيه، حين قال للأمريكيين يوم الثلاثاء إنه التزم بهذه القواعد، بصفته موظفا ملحقا بالوزارة.
بيان مولر الذي لخص فيه تقريره وأوضح فيه رؤيته للخطوات المقبلة غيّر المعادلة السياسية في واشنطن، وسحب البساط من تحت أقدام ترامب ووزير عدله وقادة الحزب الجمهوري في الكونغرس وقلب مسلماتهم رأسا على عقب، وأرغمهم على مواجهة أسئلة عديدة مشككة بروايتهم حتى بعض الأماكن المفاجئة مثل بعض الإعلاميين في شبكة فوكس اليمينية المتعاطفة تقليديا مع ترامب. وحتى قبل بيان مولر، هزّ النائب الجمهوري جاستن عمّاش (متحدر من أب فلسطيني وأم سورية) البيت الأبيض والقادة الجمهوريين في الكونغرس حين أصبح المشّرع الجمهوري الأول – والوحيد حتى الآن- بالدعوة إلى محاكمة ترامب. ومنذ الثامن عشر من مايو- آيار حين بدأ وابلا من التغريدات الواضحة والقوية التي برر فيها قانونيا وسياسيا الأسباب الموجبة لمحاكمة ترامب، والذي شرح لاحقا لناخبيه في إحدى مقاطعات ولاية ميتشغان لماذا يجب على مجلس النواب محاسبة ترامب، أصبح عمّاش الشخصية السياسية الأكثر جاذبية وإثارة للجدل في البلاد.
وكما كان متوقعا، أدى بيان مولر وردود الفعل عليه إلى تفاقم الضغوط على رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي للبدء بالجلسات الأولية لبحث جدوى وكيفية محاكمة ترامب، وهي الجلسات التي تسبق الجلسات التي تطرح فيها رسميا التهم الموجهة لترامب. حتى الآن دعاة محاكمة ترامب هم أقل من خمسين عضوا، ولكن سلوك ترامب، وخاصة توجيهاته لجميع العاملين في الأجهزة الحكومية عدم التعاون مع لجان الكونغرس في تحقيقاتها، يمكن أن تؤدي إلى ارغام بيلوسي إلى تعديل موقفها، خاصة وأن أكثر المرشحين الديمقراطيين لمنصب الرئاسة يميلون إلى ضرورة البدء بالجلسات التمهيدية للتحضير لمحاكمة ترامب. خلال تحقيقات مولر وفريقه، تم الكشف عن انتهاكات للرئيس ترامب وشركته لم تكن مرتبطة مباشرة بانتداب مولر، أي التحقيق بالتدخل الروسي بالانتخابات، الأمر الذي أدى إلى مطالبة محاكم أخرى في نيويورك وواشنطن وولاية فيرجينيا النظر فيها. وهذا يعني أن القضاء الأمريكي سوف يواصل تحقيقاته بسلوك الرئيس ترامب وعائلته لسنوات عديدة.
صباح الخميس، بدأ ترامب يومه بشّن هجوم شخصي ضد المحقق مولر، تابعه خلال لقاء عاصف مع الصحفيين ، حاول فيه أن يشكك بصدقية مولر وجميع أعضاء فريقه، وأعتبرهم من أسوأ الناس في العالم، مكررا ادعائه الذي لا أساس له من الصحة بأن مولر ناقم عليه لأنه لم يعينه مديرا لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي). اللافت هو أن ترامب وللمرة الأولى قال في إحدى تغريداته الصباحية بأنه لم يشارك “في المساعدة التي قدمتها لي روسيا في الانتخابات”. وهذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها ترامب بأن روسيا لم تتدخل فحسب في الانتخابات، ولكنها فعلت ذلك لمساعدته، وهو التقييم الذي أجمعت عليه أجهزة الاستخبارات الأمريكية. ولكن ردود الفعل السريعة في وسائل الاعلام على هذه التغريدة دفعته لاحقا خلال لقائه مع الصحفيين لأن يقول “كلا، روسيا لم تساعد على انتخابي”، ثم سأل الصحفيين لمرتين “هل تعلمون من انتخبني؟ أنا الذي قمت بانتخابي”.
ولكن ما لم يستطع ترامب اخفائه هو قلقه الواضح واستيائه العميق من أنه سوف يبقى حتى آخر يوم له في البيت الأبيض، لا بل حتى بعد عودته إلى الحياة الخاصة وهو يعيش في ظلال روبرت مولر الداكنة.