ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
طمأن الرئيس دونالد ترامب الشعب الأمريكي والعالم، فور عودته من سنغافورة حيث اجتمع بكيم، زعيم كوريا الشمالية في أول لقاء قمة بين البلدين منذ نهاية الحرب الكورية قبل 65 سنة، أن كوريا الشمالية، الدولة التي يحكمها أقسى نظام سياسي في العالم، والتي اعتبرها ترامب نفسه قبل أشهر الدولة التي تشكل أكبر خطر على الولايات المتحدة، “لم تعد تشكل خطرا نوويا” على أمريكا، على الرغم من أن القمة لم تتبنى خطة عملية لنزع الأسلحة النووية وآليات التحقق من ذلك، أو أي جداول زمنية لتحقيق هذا الهدف. الساعات القليلة التي قضاها ترامب مع كيم، والبيان المشترك الذي صيغ بلغة عمومية وانشائية تضمنت وعود مستقبلية وليس خارطة طريق واضحة، لم تغير حقيقة أن الترسانة النووية الكورية الشمالية والتي تتراوح بين 20 و60 قنبلة نووية والصواريخ الباليستية والعابرة للقارات القادرة على حمل هذه القنابل، وعشرات المنشآت التي تطور وتبني الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية لا تزال موجودة وناشطة، كما كانت قبل القمة.
الانتقادات الموضوعية والشرعية لاجتماع القمة بين ترامب وكيم، والصادرة عن مختلف الجهات والأطراف السياسية، لا تلغي حقيقة أن الاجتماع بحد ذاته قد قلّص – على الأقل في المدى المنظور- من احتمالات العودة إلى طريق المواجهة العسكرية، كما بدا الوضع في بداية السنة. أن يبالغ الرئيس ترامب بأهمية القمة، وأن يعتبرها بداية إيجابية، لم يكن مفاجأ، لأنه يبالغ حتى بشأن المسائل البسيطة. ولكن أن يثني بسخاء محرج على المزايا القيادية لكيم جونغ أون الذي وصفه بالقوي والذكي والظريف، والمفاوض البارع، فقد أدى مثل هذا التزلف من رئيس الولايات المتحدة لدكتاتور يشرف نظامه على معسكرات اعتقال جماعية، ولا يتردد في تجويع شعبه، وحتى في قتل أفراد من عائلته، أدى إلى خلق مشاعر امتعاض واستياء عميقة في الأوساط السياسية الأمريكية. لاحقا تبين من لاري كادلو المستشار الاقتصادي لترامب، أن غضب الرئيس الأمريكي من ترودو كان مفتعلا بعض الشيء لأن ترامب عندما سمع ترودو يقول إنه لن يقبل بالترهيب الأمريكي قد أضعفه عشية القمة مع كيم.
المقارنة بين الانتقادات القاسية التي وجهها ترامب إلى حلفاء أمريكا التقليديين الذين التقاهم في قمة مجموعة السبعة الاقتصادية في كندا قبل توجهه إلى سنغافورة، وخاصة رئيس وزراء كندا جاستن ترودو الذي وصفه “بالضعيف” و “الكاذب”، والاعجاب السريع الذي أبداه بكيم “القوي”، فرضت نفسها على الخطاب السياسي، خلال أسبوع أقل ما يقال فيه أنه تميز بالغرابة والسريالية وانقلاب المعايير بطريقة تجعل الحليف يبدو خصما والعدو يقترب من أن يصبح صديقا. هذه المواجهة في كندا دفعت بمعلق أمريكي للحديث عما أسماه “مبدأ ترامب”، أي “كيف تخسر الأصدقاء وتؤثر على الأعداء”. الرئيس ترامب نفسه أكد هذا التوجه حين قال في مؤتمره الصحفي عقب انتهاء القمة “وكما أظهر التاريخ مرة تلو الأخرى،الخصوم يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء”. وهكذا تحول كيم الذي وصفه ترامب قبل بضعة أشهر “بالرجل الصاروخي الصغير” الذي هدده “بالنار والغضب الذي لا حدود له” إلى الرجل الذكي والظريف والموهوب. ولكن بعد أكثر من ثمانية عشر شهرا على انتخابه، أظهر خلالها أكثر من مرة إعجابه بالقادة الإوتوقراطيين والمتسلطين وحتى الطغاة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، والفيليبيني رودريغو دوتيرتي، يجب الاّ يؤدي آعجاب ترامب السريع هذا إلى دهشة أي مراقب جدي للرئيس الأمريكي.
مجرد لقاء تعارف ومشروع صداقة
نتائج القمة التي تلخصت في بيان مشترك من أقل من 400 كلمة تعكس حقيقة أن الرئيس ترامب لم يذهب إلى سنغافورة – على الرغم من التعهدات والوعود العلنية- للتوصل إلى اتفاق جدي يتضمن أكثر من وعود فضفاضة من كوريا الشمالية وجدول أعمال حقيقي للبدء عمليا بتفكيك الترسانة النووية، بل للتعرف على كيم، كشخص، وكزعيم مستعد أو قادر على التوصل إلى “صفقة العصر النووية” التي تؤكد حقيقة استعداده للتخلص من ترسانته النووية. المسؤولون الأمريكيون وتحديدا الرئيس ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، ركزوا كثيرا على العبارة التي تلزم كيم “بالتخلص من الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية بشكل كامل”. ولكن الطرفان تفاديا حتى تحديد أو تعريف ما تعني كلمة “نزع السلاح النووي” denuclearization، كما لم يتوصلا – وفقا لما قيل وكتب علنا- إلى التفاهم على خريطة طريق للمستقبل، إو جدول زمني لتفكيك الترسانة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية. وما يتباهى به ترامب ومستشاريه حول التزام كيم بنزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية، في 2018، حصل الرئيس الاسبق جورج بوش على أكثر منه في 2005، حين تعهد كيم، والد كيم “بالتخلص من الأسلحة النووية والبرامج النووية الحالية…”
من جهته ذهب كيم إلى سنغافورة ليقف مع الرئيس ترامب بمثابة الند له على منصة مشتركة وليصافحه على خلفية اعلام أمريكية وكورية شمالية مصفوفة جنبا إلى جنب. وللمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة في 2011، وخلال أقل من ستة أشهر، سافر كيم للمرة الأولى خارج كوريا الشمالية، حيث زار الصين مرتين واجتمع برئيسها شي جينبينغ، كما زار المنطقة المنزوعة من السلاح بين الكوريتين للاجتماع برئيس كوريا الجنوبية مون جاي-إين. وأخيرا أنهى كيم رحلته السريعة من العزلة التامة والخطب الغاضبة إلى حصوله على قبول جيرانه لشرعيته، والأهم من ذلك قبول الولايات المتحدة بشرعيته والتفاوض معه. واضافة إلى هذه المكاسب السياسية والرمزية، حصل كيم على تنازل أمريكي ملموس، أي تجميد المناورات العسكرية الأمريكية-الكورية الجنوبية التي تجري دوريا مرتين في السنة، وهذا طلب كوري شمالي قديم. الرئيس ترامب قدم هذا التنازل قبل استشارة كوريا الجنوبية وقبل اعلام وزارة الدفاع الأمريكية. تبرير ترامب لموقفه كان سافرا لأنه وصف التدريبات المشتركة “المناورات الحربية”. وفي طريق عودته إلى واشنطن، كرر ترامب رغبته المعروفة بسحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية، والمنتشرة هناك منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، وهو موقف تعارضه وزارة الدفاع.
قمة سنغافورة بدت وكأنها آخر تجليات تلفزيون الواقع المفضل لدى الرئيس ترامب. والآن بعد أن انتهت وسمح الرئيس ترامب لنفسه بالادعاء بأنه حقق انتصارا عجز عنه أسلافه من جمهوريين وديموقراطيين، تحولت مهمة التفاوض الحقيقي والتقني مع الكوريين الشماليين إلى وزير الخارجية مايك بومبيو. قبل أشهر كان ترامب وبومبيو وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين يتحدثون عن اتفاق نووي مع كوريا الشمالية يؤدي وبسرعة إلى التخلص من ترسانتها النووية بطريقة مؤكدة ولا رجوع عنها. الآن، اعتمد بومبيو صيغة مختلفة حين اعترف أنه يأمل بإنجاز هذه المهمة (المستحيلة؟) قبل نهاية ولاية ترامب في سنة 2020. الخبراء في شؤون الأسلحة النووية يقولون إن نزع السلاح النووي من كوريا الشمالية قد يستغرق 10 سنوات إذا افترضنا التعاون الكامل والصادق من قبل كيم.
كان من اللافت، أن ترامب خلال مؤتمره الصحفي قال إنه مستعد للتفاوض مع إيران مجددا للتوصل إلى “اتفاق حقيقي” بدلا من الاتفاق الذي انسحب منه وأعقبه بفرض عقوبات جديدة ضد إيران. ووفقا لتصور ترامب فإنه يفترض عودة الإيرانيين إلى طلب التفاوض، “ولكن من المبكر حدوث ذلك الآن”. وكرر ترامب ادعائه أن إيران اليوم ” هي دولة مختلفة ” عما كانت عليه قبل “ثلاثة أو أربعة أشهر”. واضاف “لا اعتقد أنهم واثقون من أنفسهم الآن” كما كانوا في السابق.
ولم يقدم ترامنب أي ادلة تثبت أن إيران فقدت الثقة بنفسها إو أوقفت نشاطاتها السلبية في الدول العربية إو تحديثا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. عسكريا لا تزال إيران طرفا مقاتلا في سوريا، ويمكن اعتبار التحالف الجديد في العراق بين القوى التي يمثلها مقتدى الصدر وقوات “الحشد الشعبي” القريبة من إيران، على أنه انتصار سياسي لطهران. كما أنه لا توجد أي أدلة حول تراجع الدعم الإيراني للثوار الحوثيين وحلفائهم ضد الحكومة اليمنية.
يأمل الرئيس ترامب بترجمة ما يعتبره انجازا هاما في قمة سنغافورة إلى إنجاز انتخابي في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني-نوفمبر المقبل. ومن المبكر القول ما الذي سيحدث للاتفاق خلال الأشهر القليلة المقبلة، ولكن ليس من المتوقع أن يكون للقضايا الخارجية تأثير ملموس على الانتخابات النصفية.