في اليوم الثالث بعد الانتخابات الأميركية، وبعد سباق طويل ومرهق وشرس للبيت الأبيض، شاهد الرئيس ترامب والملايين من الأميركيين الخريطة الانتخابية تتحول تدريجياً إلى اللون الأزرق الديموقراطي، مع انحسار اللون الأحمر الجمهوري، في مؤشر واضح بأن التفوق المحتمل للمرشح الديموقراطي جوزيف بايدن في الولايتين المحوريتين، بنسلفانيا وجورجيا، بأصواتها الستة والثلاثين في المجمع الانتخابي، يعني عملياً – في حالة الفوز بهما بعد انتهاء عملية فرز الأصوات – أن بايدن سيكون الرئيس المنتخب. كما حافظ بايدن على تقدمه في ولايتي أريزونا ونيفادا الغربيتين. ولكن هزيمة الرئيس ترامب المحتملة، غير الرسمية في هذا الوقت المبكر، لا تعني قطعا نهاية “الترامبية السياسية” كمزاج سياسي مناوئ للكثير من التقاليد والأعراف والقيم الأميركية التقليدية، نظراً للدعم الحماسي، الذي يحظى به ترامب من حوالي سبعين مليون مواطن، ما يعني أنه سيبقى قوة سياسية لا يمكن تجاهلها في الحياة السياسية الأميركية.
ليس من المتوقع، حتى في حال فوز بايدن بأكثر من 270 صوتا في المجمع الانتخابي – التي يحتاجها المرشح للفوز بالبيت الأبيض – وحتى مع توقع فوز بايدن بأكثر من 5 ملايين صوت في الاقتراع الشعبي، أن يعترف ترامب بالهزيمة، وسوف يلجأ إلى مختلف الوسائل القانونية والسياسية، بما فيها محاولات الترهيب والتضليل، كما فعل في كلمته في البيت الأبيض مساء الخميس، حين اتهم الديموقراطيين بمحاولة تزوير النتائج، وشكك بعملية فرز الأصوات، وتحدث عن بطاقات اقتراع شرعية وغير شرعية وعن مؤامرات لا أساس لها، ودون أن يقدم أي دليل لدعمها، ما عرّضه لانتقادات لاذعة، حتى من قبل شخصيات جمهورية حليفة له.
موقف ترامب لم يكن مفاجئاً، لأنه قام بحملة ممنهجة للتشكيك بنزاهة الانتخابات في الأشهر الأخيرة، التي سبقت الانتخابات، وهو أمر لم يحدث في تاريخ الجمهورية الأميركية. لا أحد يعرف ما الذي سيفعله الرئيس ترامب إذا لم تؤد الدعاوى والطعون، التي رفعها أو سيرفعها ضد حملة بايدن، إلى النتائج التي يأمل بها، وهو ما يقوله العديد من الحقوقيين، لأنه لم يحدث في تاريخ الانتخابات الأميركية أن لجأ رئيس إلى مثل هذه الأساليب. ولكن إذا نجح بايدن في الولايات الأربعة المتقدم فيها، وهو تقدم يراه البعض على أنه يمثل “حتمية الأرقام”، وفقا لنمط واضح في الأيام الماضية، فإنه سيفوز ب 306 صوت في المجمع الانتخابي، وهو الرقم ذاته الذي أوصل ترامب إلى البيت الابيض في 2016، وإذا زاد بايدن من نسبة تفوقه الكبيرة في الاقتراع الشعبي، فان ذلك يمكن أن يشكل تسونامي انتخابي/سياسي، لن يستطيع ترامب مقاومته.
ويبقى هناك سؤال هام لا أحد يعرف الاجابة عليه، ما الذي سيفعله ترامب خلال الفترة الانتقالية قبل أن يؤدي الرئيس قسم اليمين في العشرين من يناير المقبل، لأنه سيبقى رئيساً للبلاد يمارس جميع صلاحياته الدستورية. من سيعاقب ومن سيكافئ؟ خاصة وأنه هدد بإقالة بعض المسؤولين الحكوميين، لأنهم لم يخدموه كما كان يأمل، ومن بينهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (الاف بي آي) كريستوفر راي، الذي كان يفند ادعاءات ترامب بشأن تزوير الانتخابات، أو كبير الاخصائيين في مكافحة الأوبئة، الدكتور أنطوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للأمراض المعدية، والذي انتقد اخفاق ترامب في مكافحة فيروس كورونا ولأنه استخف به.
ما هو واضح حتى الآن هو أن الموجة الزرقاء، التي وعد بها جوزف بايدن لم تتحقق، بمعنى أنه لم ينجح كلياً في احياء ما كان يسمى “بائتلاف أوباما”، أي الشرائح الاجتماعية التي قادها باراك أوباما في حملتين انتخابيتين؛ النساء والأميركيين من أصل افريقي وغيرهم من الاقليات، والشباب المتعلمين، والمثليين وغيرهم. هذا ما عكسته النتائج الأولية لانتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، حيث لم ينجح الديموقراطيون في السيطرة على مجلس الشيوخ (الصورة سوف تتوضح أكثر في يناير المقبل مع الانتخابات الخاصة لعضوين في المجلس من ولاية جورجيا)، كما أن أكثرية الديموقراطيين في مجلس النواب قد تقلصت.
وإذا نظرنا الى المشهد الانتخابي بأكمله، لا يستطيع الديموقراطيون القول أن الانتخابات كانت رفضاً قاطعاً “للترامبية السياسية”، لأن الرئيس المهزوم حصل على تأييد حوالي سبعين مليون ناخب. كما يمكن القول إن ادعاء ترامب بأن موجة جمهورية حمراء سوف تجتاح البلاد، لم يكن له أي أساس من الصحة، بعد أدائه الرديء والكارثي في مكافحة جائحة كورونا، والانكماش الاقتصادي الكبير في أعقابها، ما أدى تحوله إلى أول رئيس يخدم لولاية واحدة منذ هزيمة الرئيس جورج بوش الأب في 1992.
ولكن السؤال الذي سيكون محور نقاش هام في المستقبل بين المحللين والمؤرخين هو: هل يمكن القول أنه لو لم تأت جائحة كورونا وخرابها الاقتصادي، لبقي ترامب في البيت الابيض لأربعة سنوات اضافية؟ حقيقة إن المرشح بايدن حوّل الانتخابات إلى استفتاء على أداء ترامب في مكافحة الجائحة، وانتقاداته لإخفاق ترامب في تخفيض عدد الوفيات جراء الفيروس، أو تخفيف المعاناة الاقتصادية للكثير من الأميركيين، الزمر الذي يعطي صدقية لهذا التساؤل، لأن هناك شريحة من الناخبين الأميركيين من الطبقة الوسطى وذوي الدخل العالي لا توافق على اساليب ترامب الفظة وغير التقليدية ونرجسيته النافرة، إلا أن هذه الشريحة مستعدة لتجاهل هذه الخصائص المشينة للرئيس، لأنها استفادت اقتصادياً خلال ولايته.
إذا لم يحصل الحزب الديموقراطي على الأكثرية في مجلس الشيوخ، سوف يواجه الرئيس بايدن صعوبات كبيرة في إقرار طروحاته، وتحويلها الى قوانين في مجلس الشيوخ، لأن منافسه القديم/الجديد السناتور الجمهوري ميتش ماكونال، سوف يحاول منعه من تحقيق أهدافه، كما فعل بنجاح خلال 6 سنوات، حين كان الرئيس أوباما ونائبه بايدن في البيت الأبيض. ولكن انتخاب بايدن، سوف يعطي البلاد فترة استراحة من الارهاق والفوضى والتوتر والشراسة التي هيمنت على السجال السياسي لأربعة سنوات، وانعكست سلباً على العلاقات التقليدية، التي ربطت الولايات المتحدة بحلفائها واصدقائها في الخارج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بمعنى أن آمال الكثير من الأميركيين ليست طموحة جداً، لأنه يمكن تلخيصها بالعودة الى “الوضع الطبيعي” الذي قلبه ترامب رأسا على عقب.
هذا يعني أن بايدن سوف يحاول احياء العلاقات التقليدية القوية بين واشنطن وحلفائها في حلف شمال الاطلسي (الناتو)، والعلاقات مع اليابان وكوريا الجنوبية التي زعزعها ترامب، كما سيعود بايدن إلى المنظمات الدولية، مثل مؤتمر باريس حول التغيير البيئي واتفاقية الشراكة الاقتصادية في المحيط الهادي للتصدي للنفوذ الاقتصادي الصيني فيها. في الشرق الاوسط، سيحاول بايدن احياء الخيار الديبلوماسي في التعامل مع النظام الاسلامي في إيران، الذي ازداد تصلباً في الداخل، وتخريباً في المنطقة، خاصة في العراق وسوريا، ومحاولة التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران، يريده أن يتضمن فترات أطول من القيود على البرنامج النووي، وربما قيود مماثلة على البرنامج الصاروخي الايراني. ولكن طموحات بايدن في هذا المجال قد تتكسر أمام جدار التصلب الإيراني، حتى ولو أحيا بايدن علاقاته مع الدول الاوروبية التي وقعت الاتفاق النووي الأول. الإيرانيون سوف يطرحون مطالب متصلبة أكثر، للتعويض عن الخسائر التي تعرضوا لها بعد العقوبات، التي فرضها عليهم الرئيس ترامب. أيضا لم يطرح بايدن أي تصور لمواجهة السياسات التخريبية الإيرانية في المنطقة، والتي وصلت في العراق إلى مرحلة دفعت بالمسؤولين الأميركيين في الأسابيع الماضية إلى التفكير الجدي في إغلاق السفارة الأميركية في بغداد، بسبب تهديدات الميليشيات العراقية التي تعمل لصالح إيران.
في هذا السياق قد تتعرض العلاقة بين واشنطن والرياض لبعض التوتر، لأن بايدن تعهد “بمراجعة” هذه العلاقات، في اعقاب اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة، ويكتب دورياً في صحيفة الواشنطن بوست، في القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا، وبسبب الحرب التي شنتها السعودية وحلفائها في اليمن، وهي الحرب التي بدأت خلال الولاية الثانية لأوباما وبايدن، والتي باركتها ولاية أوباما من خلال توفير المعلومات الاستخباراتية وتوفير الخدمات اللوجستية للعمليات العسكرية. وسوف يحاول بايدن احياء “عملية السلام” بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولكن لا توجد هناك أي مؤشرات بأنه سينجح في ذلك، وسوف يحاول استئناف المساعدات الانسانية والاقتصادية للفلسطينيين، مع ابقاء السفارة الأميركية في القدس بعد أن نقلها ترامب من تل ابيب إلى القدس.
هزيمة ترامب وفوز بايدن، يمكن أن تدفع ببعض سياسيي الحزبين إلى مراجعة طروحات وأساليب كل من الحزبين، لأن سنوات ترامب ونتائج الانتخابات أظهرت عمق الاستقطابات السياسية والثقافية في البلاد، ووجود عدد كبير من الأميركيين الذين لا يثقون بمؤسسات الدولة أو بوسائل الاعلام التقليدية أو بالأعراف السياسية. كما اظهرت الانتخابات وما احاط بها من جدل متطرف، وجود ملايين من الأميركيين الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة، ومن بينهم الرئيس ترامب، الذي كان يروج لهذه النظريات عبر تويتر، مثل الشكاوى من “الدولة العميقة” والمسؤولين فيها الذين يريدون القضاء عليه، اما لأنه يؤمن بها او لأنه أراد استغلالها لمصلحته. كل ذلك يعني أن الجسم السياسي الأميركي يعاني من أمراض يجب معالجتها بسرعة قبل أن تتفاقم أكثر. تحقيق ذلك لن يكون سهلاً في ظل وجود الاستقطابات الحادة، وعلى خلفية جائحة لا تعرف الرحمة، وتستمر في إصابة مئة ألف أميركي في اليوم، وفقا لإحصائيات الأسبوع الماضي، وفي ظل انكماش اقتصادي لن ينتهي في أي وقت قصير.
ولكن في هذا المشهد الداكن بشكل عام، هناك ومضات ساطعة، تمثلت في حقيقة أن الانتخابات جرت بشكل عام في مناخ هادئ، وأعمال العنف والشغب، التي تخوف منها الكثيرون، لم تحدث، والمسؤولين المحليين عن الانتخابات من جمهوريين وديموقراطيين، واصلوا عملهم بمهنية عالية، ودون مبالاة بتهديدات الرئيس ترامب وتهجمه على صدقيتهم. صحيح إن الديموقراطية الأميركية تعثرت خلال ولاية الرئيس ترامب، حين حاول تقويض المؤسسات القضائية والتشريعية وأجهزة الدولة، بما فيها اجهزة الاستخبارات، لأنها قاومت تهوره ونرجسيته وانتهاكاته، ولكنها بقيت صامدة، وإن أرهقها رئيس لا مثيل له بين الرؤساء الأربعة والأربعين الذين سبقوه إلى البيت الأبيض.