ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
خلال أسبوع واحد، وجد الرئيس دونالد ترامب نفسه في مواجهات مع أقطاب في الحزب الجمهوري في الكونغرس، إضافة إلى مجمل قيادات الحزب الديمقراطي، ومع وسائل الإعلام والمعلقين والمؤرخين، الذين رفضوا أو انتقدوا دفاعه – غير المسبوق منذ نهاية الحرب الأهلية في 1865- عن جماعات من النازيين الجدد، وفئات تصف نفسها بالقوميين البيض، وكوكلاكس كلان، وهو أقدم تنظيم عنصري مناهض للسود واليهود والكاثوليك في البلاد. وكان ترامب قد برر في سجال ساخن مع الصحافيين وقبلها في تغريدات استفزازية تصرفات الترهيب والعنف الذي مارسته هذه الجماعات التي غزت مدينة شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا في نهاية الأسبوع الماضي، بحجة منع إزالة تمثال الجنرال روبرت إي لي، قائد القوات الكونفدرالية الجنوبية خلال الحرب الأهلية (1861-1865). ورافق المظاهرات دهس متعمد قام به متظاهر ينتمي إلى جماعة نازية، أدى إلى إصابة العديد من المتظاهرين المناهضين للعنصرية ومقتل هيذر هاير البالغة من العمر 32 سنة. كما قُتل شرطيان في تحطم طائرة مروحية كانت ترصد المظاهرات. وبدلا من أن يعيد النظر بمواقفه التي اعتبرت مهينة لأكثرية الأمريكيين وتحديدا أولئك المنحدرين من أصل أفريقي، واليهود الذين استهدفتهم هتافات المتظاهرين العنصريين، لأنها خارج السياق السياسي العقلاني والمقبول، والتي فسرت على أنها متعاطفة مع الإرث العنصري الجنوبي الذي أدى إلى الحرب الأهلية، واصل الرئيس ترامب إصراره على مواقفه المتطرفة، الأمر الذي جعل من المستحيل على أي جمهوري في الكونغرس أن يدافع عنه علنا.
اسطورة المعادلة الأخلاقية
وأكثر ما أثار غضب واستهجان العديد من الأمريكيين هو قيام ترامب بالمعادلة الأخلاقية بين بعض مؤسسي الجمهورية الأمريكية مثل الرئيس الأول جورج واشنطن، الذي ناضل عسكريا لتحرير البلاد من الاستعمار البريطاني والرئيس الثالث توماس جيفرسون الذي صاغ المسودة الاولى لاعلان الاستقلال، وبين الجنرال روبرت إي لي، وزميله في الجيش الجنوبي الجنرال توماس (ستون وول) جاكسون. وكانت حجة ترامب هي أن الأربعة لم يرفضوا العبودية وكانوا يملكون العبيد، متناسيا أن واشنطن وجيفرسون، على الرغم من آفة العبودية ناضلا لتحقيق الاستقلال، بينما تمرد الجنرالات الجنوبيين ضد الاتحاد الفيدرالي، مهددين البلاد بالتقسيم. ولم يحدث في السابق أن قام رئيس أمريكي وبشكل علني وسافر بتحدي التقاليد السياسية السائدة في البلاد كما فعل ترامب خلال الأيام الماضية بدفاعه عن إرث سياسي عنصري ودموي، وبذلك أدخل البلاد في أزمة أخلاقية وسياسية وثقافية، أظهرت بشكل صارخ عمق الاستقطابات الإيديولوجية والسياسية الموجودة في البلاد، والتي عمقها وزاد من حدتها انتخاب ترامب في نوفمبر- تشرين الثاني الماضي. الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة، بدا وكأنه ينفخ في الجمر المتبقي من نيران الحرب الأهلية قبل قرن ونصف، والتي التهمت ولايات عديدة وأدت – وفقا للدراسات الأكاديمية في السنوات الماضية- إلى مقتل حوالي 750 ألف شخص، أي أكثر بمئة ألف عسكري من مجمل خسائر الولايات المتحدة في جميع حروبها.
وخلال أيام قليلة، ارتفعت أصوات مختلفة ومن أكثر من خلفية سياسية، أما تطالب ترامب بالاستقالة، أو تصفه بصراحة بأنه نازي الميول، أو التشكيك بـ”استقراره” النفسي، و”أهليته” لقيادة البلاد، كما قال السيناتور الجمهوري روبرت كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. ورأى كوركر، المعروف باتزانه واعتداله، أنه إذا لم يدرك ترامب طبيعة المقومات التي جعلت الولايات المتحدة ما هي عليه اليوم “فإن البلاد سوف تدخل مرحلة بالغة الخطورة” وفُسرت هذه العبارات غير المسبوقة على أنها تأنيب على عدم تسامح الرئيس ترامب وإدانة ضمنية لدفاعه عن المتظاهرين المتطرفين. وأدان قادة القوات البرية والجوية والبحرية وقوات المارينز والحرس الوطني بلغة واضحة ومباشرة المواقف العنصرية والمتطرفة للمتظاهرين النازيين والقوميين المتشددين، وذكّروا الأمريكيين بدور القوات المسلحة في الحرب العالمية الثانية في هزيمة النازية، وشددوا على أن لا مكان لهذه المواقف والمشاعر في أوساط القوات المسلحة التي تعكس في تركيبتها جميع مكونات المجتمع الأمريكي الإثنية والدينية. وجاءت مواقف القادة العسكريين متعارضة كليا مع مواقف ترامب الذي ساوى بين المتظاهرين العنصريين ومناوئيهم . هذه المواقف العسكرية كانت لافتة لأن العسكريين الأمريكيين لا يتدخلون على الاطلاق بالسياسة، وفقا للأعراف والتقاليد، وأيضا لأن القانون يمنع ذلك.
دهس إرهابي في إسبانيا وليس في شارلوتسفيل
حتى بعد مرور أسبوع على دهس وقتل هيذر هاير في شارلوتسفيل، لم يقم ترامب بزيارة عائلة الضحية أو المدينة، كما لم يعتبر قتلها عملا إرهابيا، كما فعل وزير العدل جيف سيشنز . (حتى الآن لا يزال ترامب يمتنع عن إدانة هجوم تعرض له مسجد في ولاية مينيسوتا). ويوم الخميس، في أعقاب الدهس الإرهابي في مدينة برشلونة الإسبانية، والذي أدى إلى مقتل 13 شخصا وجرح مئة على الأقل، سارع ترامب إلى إدانة الهجوم، كالعادة في تغريدة أعرب فيها عن استعداد حكومته لتقديم المساعدة لإسبانيا. وعقب ذلك بسرعة تغريدة أخرى، مبنية على أسطورة وادعاء عسكري فنده المؤرخون الأمريكيون لأكثر من مرة، ولكن ترامب روج لهذه الأسطورة خلال حملته، وكررها الخميس قبل نقل جثث الضحايا من شارع الرملة في المدينة الجميلة ومعالجة الجرحى. وأخطر ما في التغريدة هو تحريض إسبانيا على ارتكاب العنف ضد المسلمين وإهانة دينهم. وجاء في التغريدة: ادرسوا ما فعله الجنرال الأمريكي بيرشنغ للإرهابيين بعد القبض عليهم. لم يعد هناك إرهاب إسلامي لخمسة وثلاثين سنة”. ترامب كان يشير إلى الاحتلال الأمريكي للفلبين عقب الحرب الأمريكية-الإسبانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبعد تعيين بيرشنغ حاكما لمقاطعة مورو ذات الغالبية المسلمة بين عامي 1909 و 1913 . ولكن كل ما في هذه التغريدة من ادعاء واستنتاج هو اسطورة.
الحدث الخيالي والمفبرك الذي روج له ترامب في شباط-فبراير 2016 خلال أحد مهرجاناته الانتخابية، يدعي أن الجنرال جون بيرشنغ” كان يواجه مشاكل إرهابية كما نواجه اليوم. وقبض (بيرشنغ) على 50 إرهابيا تسببوا بأضرار هائلة وقتلوا العديد من الناس… ثم أخذ خمسين رصاصة وغمسها في دم الخنازير.. وطلب من جنوده تعبئتها في بنادقهم، ثم وضعهم (الإرهابيين) في صف، وقتلوا 49 منهم، وقال للناجي الوحيد، عد إلى جماعتك وأخبرهم بما حدث. وخلال خمسة وعشرين سنة لم تحدث أي مشكلة..” رواية تخويف المسلمين بدم الخنازير موجودة في الأفلام والإشاعات ولا يمكن استبعاد حدوثها في حالات محدودة. ولكن الكتب التي نشرت عن سيرة بيرشنغ، وتاريخ الاحتلال الأمريكي للفلبين لا تشمل مثل هذه الرواية، كما لا تنسجم مع كيفية إدارة بيرشنغ لمقاطعة مورو، حيث كان يركز على استخدام الوسائل السياسية واللجوء إلى الخيارات العسكرية كأخر الحلول. وبعد ادعاءات ترامب، قامت وسائل إعلامية وأكاديمية بمراجعة السجلات الرسمية والتدقيق مع المؤرخين، الذين التقوا على القول إنه لا توجد هناك حقائق أو أدلة تثبت وقوع الحادث الأسطوري كما رواه ترامب، أو شيوع مثل هذه الممارسات. مقاومة الاحتلال الأمريكي كانت مقاومة وطنية وليست دينية. ومع ذلك بقي ترامب مصرا على نشر هذه الأسطورة.
أخطر ما في تغريدة ترامب، هو أنها تشير بشكل سطحي وعام إلى رواية فندها المؤرخون، وجاءت في أعقاب هجوم إرهابي مروّع شنه، وفقا للمعلومات الأولية إرهابيون مسلمون. وعندما يحض ترامب المسؤولين الإسبان على دراسة أسلوب بيرشنغ هذا، فإنه عمليا يحض الإسبان على استخدام عنف جماعي وعشوائي وغير قانوني، لأنه لو كانت رواية ترامب صحيحة، لكان بيرشنغ قد مارس بالفعل القتل الجماعي وخالف قوانين الحرب.
حرب أهلية جديدة؟
المؤتمر الصحفي للرئيس ترامب بعد ظهر الثلاثاء الماضي، كان فريدا من نوعه لأنه كان تراشقا كلاميا، أكثر مما كان مؤتمرا صحفيا بالمعنى التقليدي. حدة السجال عكست عمق الهوة بين ترامب ومعظم الإعلاميين، كما عكست عمق الهوة بين الأمريكيين حول أسباب الحرب الأهلية، (هل هي حرب بسبب الخلاف حول مستقبل العبودية التي كان يرفضها الشمال ويصر عليها الجنوب، كما يرى معظم الأمريكيين والمؤرخين، أم أنها “حرب بين الولايات” وطبيعة علاقاتها مع السلطات الفيدرالية، كما يدعي البعض في الجنوب، أو كما يدعي الغلاة الجنوبيين بأنها “حرب العدوان الشمالي”)، وتركة هذه الحرب، وآثارها التي لا يزال يشعر بها ويختبرها الأمريكيون في حياتهم السياسية والثقافية اليوم. أصداء الحرب الأهلية لا تزال تتردد خلال أي نقاش حول صلاحيات الولايات وعلاقاتها المعقدة مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن، وكيفية معاملة السكان الجنوبيين بعد هزيمتهم في الحرب للمواطنين السود الذين عتقتهم الحرب، والقوانين التمييزية ضدهم والتي حرمت معظمهم من التصويت إلى أن وقع الرئيس ليندون جونسون في منتصف ستينات القرن الماضي على قانونين تاريخيين لضمان حقوق السود بالتصويت وضمان حقوقهم المدنية. في 2015 وهي السنة التي أحيا فيها الأمريكيون الذكرى المئة والخمسين لانتهاء الحرب الأهلية، تجدد النقاش الأكاديمي والسياسي والعاطفي لمستقبل التماثيل والنصب الموجودة في مئات الساحات والحدائق وأمام المباني الرسمية في الولايات الجنوبية، إضافة إلى رفع علم الكونفيدرالية الجنوبية، وهي رموز يرى العديد من الأمريكيين أنها تكرّم الكونفيدرالية المهزومة وما تمثله من تمييز وإهانة، وتسببت بحرب هائلة لا تزال أصداؤها تتردد في المجتمع الأمريكي. ولا تزال هناك مشاعر قوية، وخاصة في جنوب البلاد، لدى شريحة من المواطنين الذين يصرون على بقاء هذه التماثيل والنصب و العلم الكونفيدرالي “لأنها جزء من تاريخنا وتراثنا”، وأنه لا يمكن محو أو غسل هذا التاريخ من الذاكرة الجماعية الأمريكية. اللافت أن معظم هذه التماثيل نصبت في أكثر من فترة، الاولى في العقود التي تلت الحرب، كرد فعل جنوبي ضد الشمال المنتصر، وبعدها في أول عقدين في القرن العشرين، وهي الفترة التي وصل فيها تنظيم كوكلاكس كلان إلى أوج قوته وضم حوالي 5 ملايين عضو، والتي تزامنت مع ولاية الرئيس وودرو ويلسون ( 1913-1921) الذي تميزت مواقفه بالعنصرية والتمييز المقيت ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، وغيرهم من الأقليات. أما الفترة الأخيرة التي شهدت إقامة حوالي مئة تمثال ونصب فكانت خلال عقد الستينات، وتزامنت مع حركة الحقوق المدنية للأمريكيين السود، وجاءت كرد فعل أخير من الجنوب المحافظ الذي كانت معظم ولاياته آنذاك ديمقراطية تمارس سياسات تمييزية وعنيفة ضد السود. في السنوات الماضية، بدأت بعض المدن والولايات الجنوبية تقوم بإزالة هذه التماثيل (معظمها لجنرالات جنوبيين، وشخصيات هامة في ولاياتها) أو نقلها إلى المتاحف، وانزال العلم الكونفيدرالي من أمام الأبنية الرسمية. العنصريون الذين تدفقوا على شارلوتسفيل، جاءوا احتجاجا على قرار للسلطات المحلية بإزالة تمثال الجنرال روبرت إي لي، الذي يرقى في مخيلة البعض في الجنوب إلى مستوى الأسطورة البطولية. النقاش حول مستقبل هذه التماثيل ورموز الكونفيدرالية سوف يستمر لسنوات، ويُعتقد أن أفضل طريقة للتعامل مع هذه التماثيل هو ترك تقرير مصيرها للسلطات المحلية، وعدم تحويلها إلى أماكن يستخدمها العنصريون والنازيون الجدد في معاركهم السياسية الراهنة. النمط التاريخي يبين أن هذه التماثيل والنصب سوف تختفي تدريجيا.
هل يمكن أن تتجدد الحرب الأهلية، باشكال جديدة؟ هذا السؤال طرحته الكاتبة والصحفية روبن رايت في مقال نشرته مجلة نيويوركر الأسبوع الماضي. تحدثت رايت مع خمسة مؤرخين، قارنوا بين الأجواء المتوترة التي سبقت الحرب الأهلية والتوترات الحالية في البلاد، ولم يستبعد بعضهم حدوث أعمال عنف متفرقة، ولكنهم ركزوا على الفروقات التي تمنع نشوب حرب جديدة. الاستقطابات السياسية والثقافية سوف تستمر في البلاد على خلفية اتساع الهوة الاقتصادية بين طبقات المجتمع، وازدياد الغربة الثقافية والسياسية بين الريف والمدينة، والشعور المتزايد في أوساط البيض في الريف الذين تدنت مستويات دخلهم بعد اقفال المناجم والمصانع واعتماد الشركات على الأتمتة، ورحيل وظائف أخرى إلى الخارج، بأنهم يفقدون السيطرة على حياتهم، وأن بلادهم تفلت من أيديهم بعد وصول المزيد من المهاجرين من خلفيات اثنية ودينية غير بيضاء وغير مسيحية. ومن هنا الرفض المتزايد للمهاجرين السمر والمسلمين بمن فيهم اللاجئين الهاربين من الحروب والنزاعات. اليمين المحافظ، إضافة إلى التنظيمات والجماعات العنصرية والنازية الجديدة، تبالغ بأثر المهاجرين، وتلعب على مخاوف الأمريكيين وتقول لهم إن أمريكا سوف تصبح أقل مسيحية ًوأن اكثريتها، خلال عقدين أو أكثر، سوف تكون بنيةّ اللون وليست بيضاء. ما رأيناه في شارلوتسفيل، قد يتكرر في أماكن أخرى، والخطاب السياسي المتشدد والصارخ للرئيس ترامب، وتعاطفه النافر مع بعض طروحات ومواقف الجماعات المتشددة والعنصرية، يساهم في تأجيج التوتر، وسوف يفرض على الأمريكيين كشعب، وعلى مؤسساتهم الديمقراطية وتقاليدهم الاجتماعية، امتحانات صعبة قد لا يكون بالإمكان تخطيها دون مآسي وآلام جديدة.