ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
بعد تهديدات استمرت لأشهر بتصعيد موقفه ضد الاتفاق النووي مع إيران، حانت الفرصة يوم الجمعة للرئيس دونالد ترامب لإطلاق الرصاصة الأولى ضد الاتفاق، حين اتهم طهران بلهجة لاذعة وصارخة بانتهاك “روح” الاتفاق الذي وقعته مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا في 2015. رفض ترامب المصادقة على التزام إيران بالاتفاق (وفقا لقانون أقره الكونغرس ويقضي بأن يعود الرئيس للكونغرس مرة كل تسعين يوما ليؤكد أو ينفي التزام إيران بالاتفاق) يشكل تنفيذا جزئيا لوعد قطعه المرشح ترامب لمؤيديه خلال معركته الانتخابية الطويلة. آنذاك كان ترامب (وما يزال) يقول إن الاتفاق هو أسوأ اتفاق وقعت عليه الولايات المتحدة في تاريخها، وتعهد مرارا بالانسحاب منه أو حتى تمزيقه. وكان هذا الوعد، مثل وعده الآخر حول بناء جدار عازل على الحدود المكسيكية، يحظى بتصفيق وهتافات حماسية من مؤيديه في مهرجاناته الانتخابية الصاخبة.
منتقدو الرئيس ترامب يقولون إنه محق في قلقه من استمرار إيران في تطوير برامجها البالستية، وكذلك مخاوفه بشأن مضاعفات التدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية للعراق وسوريا ولبنان واليمن، ولكنهم يشيرون إلى أن الإجراءات الأمريكية الأحادية الجانب لا يمكن أن تنجح في ارغام إيران على تعديل سياساتها. ويذّكر هؤلاء بأن إيران اضطرت للتفاوض مع مجموعة الخمسة زائد واحد لأنها تعرضت لعقوبات دولية أدت إلى تخفيض عملتها وتقليص صادراتها النفطية إلى النصف. ويرى هؤلاء أن مواجهة برنامج إيران الصاروخي يتطلب تعاون دولي داخل وخارج الأمم المتحدة، كما يتطلب التصدي للنشاطات الإيرانية التخريبية في المنطقة تطوير التعاون بين الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة والدول الأوروبية وتحديدا فرنسا التي يهمها منع دول عربية مثل العراق وسوريا من الدخول في عمق الفلك الإيراني.
وفي المناسبتين اللتين اضطر فيهما ترامب للتصديق على التزام إيران بتطبيق الاتفاق، أبدى الرئيس استيائه الشديد لأن كبار مساعديه دفعوه بقوة على مثل هذا التصديق، بسبب عدم امتلاك أجهزة الاستخبارات جميعها أية أدلة تثبت انتهاك إيران –تقنيا على الأقل- لبنود الاتفاق. ولكن ترامب، بعد تصديقه للمرة الثانية، قال لمساعديه إنه لن يصدّق بعد الآن على التزام إيران بالاتفاق، وطلب منهم البحث عن صيغة تسمح له برفض التصديق، ولكن بطريقة لا توحي بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وتبعده عن تحمل مسؤولية مثل هذا القرار. ومرة أخرى وضع ترامب عبء الخطوة التالية على عاتق الكونغرس الذي يفترض به، وفقا للقانون، أن يتخذ موقفا من قرار الرئيس خلال ستين يوما. ولا يوجد هناك حماس لدى معظم قيادات مجلس الشيوخ من الحزبين لفرض عقوبات جديدة، خاصة وأن هناك قناعة بأن الدول الأوروبية لن تحذو حذو الكونغرس، وسوف تواصل علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران، طالما بقيت إيران ملتزمة بالاتفاق. أما الخيار الثاني، وهو غير مرجح، فهو ألا يقوم الكونغرس بأي شيء، ما يعني أن الاتفاق سوف يبقى ساري المفعول. ويعمل السيناتور الجمهوري بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهو وأحد أبرز منتقدي الرئيس ترامب، على وضع مشروع قانون جديد لمراقبة تنفيذ الاتفاق، يقضي بفرض عقوبات تلقائية ضد إيران إذا تخطت بعض القيود والشروط من بينها تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى، أو تطوير صواريخ باليستية جديدة. وأي مشروع قانون جديد ضد إيران يتطلب موافقة 60 عضوا في مجلس الشيوخ، أي أن الجمهوريين يحتاجون إلى تأييد ثمانية أعضاء ديمقراطيين، ما يزيد من صعوبة أو حتى استحالة إقرار أي تشريع ملزم.
ترامب يسبح عكس التيار
الخطاب الناري الذي ألقاه ترامب يوم الجمعة، شمل قائمة طويلة من النشاطات الإرهابية الإيرانية بدءا من خطف الدبلوماسيين من السفارة الأمريكية في طهران عقب الثورة الإسلامية الإيرانية في 1979، وانتهاء بدعم مجازر بشار الأسد ضد شعبه بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية، يمثل نكسة للاتفاق، ولكنه لا يعني بالضرورة أن الاتفاق سينهار. ولكن خطوة الرئيس ترامب سوف تضعف الاتفاق وتعمق التوتر بين واشنطن وطهران، وكذلك علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين الذين شاركوا في توقيع الاتفاق وهم فرنسا وبريطانيا وألمانيا والتي أكد قادتها بالإجماع أن إيران ملتزمة بالفعل بتطبيق بالاتفاق. وجاء قرار الرئيس ترامب متناقضا مع توصيات وزير الدفاع جيمس ماتيس (الذي أكد أن صيانة الاتفاق يخدم مصلحة الأمن القومي الأمريكي خلال جلسة استماع علنية في الكونغرس)، فضلا عن توصيات وزير الخارجية ريكس تيلرسون ورئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال جوزف دانفورد بضرورة إبقاء الاتفاق، الذي أكدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة أن طهران لم تنتهك بنوده. وهناك قلق في أوساط العسكريين الأمريكيين، والمحللين الاستراتيجيين، من أن الرئيس ترامب بتصعيده المواجهة مع إيران، يجازف بتوريط الولايات المتحدة في نزاعين مع نظامين شرسين لا يمكن التنبؤ بسلوكهما، الأول نظام نووي معزول كليا في كوريا الشمالية، والثاني نظام متشدد لديه بنية تحتية نووية وخبرة بشرية في إيران، وأن هذين النظامين موجودين في منطقتين حساستين لأمريكا ومصالحها ومصالح اصدقائها.
دروس الحرب الباردة
الرئيس ترامب يرفض التفريق بين الاتفاق النووي بمتطلباته التقنية، والسلوك السياسي والعسكري المقلق لإيران، على الرغم من أن هناك تاريخ طويل اعتمدته الولايات المتحدة خلال نزاعها المعقد مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، حيث كانت واشنطن تقبل، لا بل تدعو إلى التفريق بين الاتفاقيات النووية التقنية، وبين احتفاظها بحقها وبحريتها في التصدي للنشاطات التخريبية والسلبية للاتحاد السوفياتي ومواجهته في معظم الحالات من خلال الحروب بالوكالة كما رأينا في نزاعات أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وتحديدا في أفغانستان. خلال الحرب الباردة وقع خمسة رؤساء أميركيين ديمقراطيين وجمهوريين على سلسلة اتفاقيات استراتيجية للحد من انتشار الأسلحة النووية، وحدث ذلك في لقاءات قمة في موسكو وواشنطن كان يقوم خلالها الرئيس الأمريكي بمعانقة رئيس الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وتبادل النخب والحديث عن مجالات التعاون الثنائي. ولكن هذه الاتفاقيات واجوائها الاحتفالية وتبادل النخب والتمنيات المستقبلية، لم تخف حقيقة أن التنافس الحاد وحتى الخطير لم يتوقف للحظة بين واشنطن وموسكو. ولم تتوقف الولايات المتحدة ولو ليوم واحد عن تذكير الاتحاد السوفياتي بانتهاكاته النافرة لحقوق الانسان وكيف كانت تطالبه بالإفراج عن سجناء الضمير والامتناع عن تعذيبهم. كما أن التعاون النووي لم يوقف ابدا نشاطات واشنطن وحلفائها في التصدي للأنظمة الراديكالية والحركات الثورية التي كان يدعمها الاتحاد السوفياتي.
التخوف الشرعي لبعض دول الخليج العربية، وأخرى مثل مصر والأردن، من تنامي نفوذ وقوة إيران السلبية في الدول المحيطة بها مثل اليمن والعراق وسوريا، إضافة إلى إسرائيل (التي يكثر فيها الحديث عن اقترابها وحزب الله وإيران بشكل غير مباشر من حرب اخرى اكثر دمارا ودموية من مواجهة 2006 التي استمرت لأكثر من 33 يوما) يفسر اسراع هذه الدول بالترحيب باستراتيجية ترامب الجديدة والمتشددة ضد إيران. ولكن السؤال الأساسي والمناسب الآن، هو هل أن إدارة الرئيس ترامب مؤهلة لاعتماد استراتيجية أمريكية-أوروبية-عربية لردع التسونامي الإيراني الذي يكتسح المنطقة؟ ويتساءل المراقبون: أين الولايات المتحدة من التطورات في سوريا حيث تبدو روسيا وإيران وكأنهما قد حسمتا النزاع لصالح نظام الأسد من خلال ترهيب المدنيين وقصف وتدمير مدنهم وبلداتهم. أين أمريكا من الأزمة بين قطر وجيرانها في الخليج ومصر؟ أو أين واشنطن من التوسط بين الحكومة العراقية في بغداد وقيادة اقليم كردستان بعد أن أكدت الأكثرية الساحقة من أكراد العراق رغبتهم بالاستقلال بعد الاستفتاء الأخير؟ أو كيف يمكن الاعتماد على الدبلوماسية الأمريكية حين تكون عشرات المناصب البارزة في وزارة الخارجية شاغرة في الشهر العاشر بعد تشكيل الرئيس ترامب لحكومته؟ اللافت والمقلق، هو أن ترامب قال إنه هو وليس وزير خارجيته تيلرسون، كما اعتقد العديدون، مسؤول عن عدم شغل هذه المناصب الحساسة (لا يوجد مساعد للوزير تيلرسون لشؤون الشرق الأقصى، ولا يوجد هناك مساعد دائم لتيلرسون لشؤون الشرق الأوسط (السفير ديفيد ساترفيلد يقوم بهذه الوظيفة بشكل مؤقت، لأنه يعتزم التقاعد من السلك الديبلوماسي).
مبدأ ترامب للانسحاب من العالم
وكشف الرئيس ترامب في خطابه عن اعتماد استراتيجية جديدة متشددة ضد النظام الإيراني، تشمل العمل مع الحلفاء لمواجهة النشاطات التخريبية للنظام الإيراني الذي وصفه بالمارق ودعمه للإرهاب في الشرق الأوسط وتمويله تنظيمات مسلحة مثل حزب الله وحركة حماس. كما ركز ترامب على ضرورة مواجهة برنامج إيران الصاروخي، وكرر أكثر من مرة تصميمه القوي على إغلاق جميع الطرق التي تؤدي إلى حصول إيران على الأسلحة النووية.
وكشفت مصادر رسمية في تسريبات للصحفيين أن ترامب كان يميل عشية الخطاب إلى تصنيف الحرس الثوري الإيراني، القوة الإيرانية الضاربة التي تحمي النظام الإسلامي والمسؤولة عن تعبئة الميليشيات الشيعية في المنطقة لصالح طهران، تنظيما إرهابيا عالميا، كما حصل قبل سنوات مع حزب الله، وفقا لقوانين وزارة الخارجية، إلا أن مساعدي ترامب، كما قال تيلرسون، نصحوه في أن يمتنع عن هذه الخطوة لأسباب عسكرية-ميدانية حيث تنشط عناصر القوات الأمريكية الخاصة التي توفر المشورة للقوات المحلية التي تقاوم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا”. وبدلا من ذلك سارعت وزارة الخزينة الأمريكية، وليست الخارجية، إلى تصنيف الحرس الثوري تنظيما إرهابيا وفقا للقرار التنفيذي 13224 الذي وقعه الرئيس جورج بوش في ايلول 2001 لحرمانه من تمويل فيلق القدس (والمصنف كتنظيم إرهابي عالمي) ولدوره في تأييد تنظيمات إرهابية مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.
الموقف السلبي للرئيس ترامب من الاتفاق الدولي مع إيران، ينسجم مع تحفظاته ومعارضته للاتفاقيات الدولية التي وقعها اسلافه خلال ربع القرن الماضي، مثل اتفاقية (النافتا) للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، التي يهدد بالانسحاب منها الآن، واتفاقية باريس لحماية البيئة التي انسحب منها ترامب، وكذلك اتفاقية التجارة الحرة في المحيط الهاديء التي انضم إليها الرئيس السابق باراك أوباما، وخرج منها ترامب. وفي مؤشر على أهمية هذا النمط في التعامل مع الاتفاقات الدولية الذي وصفه ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز أبحاث هام، بـ “مبدأ الانسحابات” The Withdrawal Doctrine، قررت إدارة الرئيس ترامب قبل أيام الانسحاب من منظمة اليونيسكو. وكان الرئيس السابق أوباما قد تعرض للانتقادات أنه يستعجل التخلص من بعض التزامات الولايات المتحدة الأمنية في العالم، وهذه الانتقادات برزت في سياق تردد أوباما في التصدي لإيران في المنطقة، أو تردده في معاقبة موسكو بعد عدوانها ضد أوكرانيا في 2014. ولكن مواقف الرئيس ترامب من الاتفاقيات والالتزامات الدولية هي مصدر قلق حقيقي لأصدقاء وحلفاء أمريكا التقليديين في مناطق عديدة في العالم.
اللافت أن الرئيس ترامب وخلال 24 ساعة وجه ضربتين قويتين لأهم إنجازين لسلفه باراك أوباما، الضربة الأولى كانت لقانون الرعاية الصحية المعروف باسم أوباما كير، حين حرم ملايين المواطنين من التغطية التي كان يوفرها لهم قانون سلفه، والثانية ضد الاتفاق النووي مع إيران. وليس سرا أن ترامب يسعى بمختلف الوسائل إلى تقويض التركة السياسية والتشريعية للرئيس أوباما. ولم يتردد ترامب بالتهديد بإلغاء الاتفاق حتى بشكل أحادي الجانب قائلا “إذا لم نتوصل إلى حل مع الكونغرس والحلفاء، عندها سوف يتم انهاء الاتفاق.” وتابع أن “الاتفاق هو قيد المراجعة المستمرة، ويمكنني إلغاء مشاركتنا به بصفتي رئيسا في أي وقت”.