خلال أول خمسين يوماً من ولايته الثانية، حكم الرئيس دونالد ترامب وفقاً لوعوده، وتهديداته خلال حملته الانتخابية في 2024. داخلياً، شنّ حملة كبرى لترحيل أكبر عدد ممكن من المهاجرين أو اللاجئين غير الموثقين، وبدأ حملة مماثلة ضد البيروقراطية الفيدرالية، أو ما يسميه “الدولة العميقة” أسفرت عن تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين، دون إنذار مسبق، ودون تنسيق مع الكونغرس. ألغى ترامب وكالة التنمية الدولية، التي أنشأها الكونغرس لتوزيع المساعدات وتقديم الخدمات الإنسانية في العالم، وبدأ الإجراءات لإلغاء وزارة التعليم، وهو قرار يجب أن يتخذه الكونغرس. واتساقاً مع تهديداته خلال الحملة الانتخابية، بدأ ترامب اجراءاته الانتقامية ضد أعدائه السياسيين، بما في ذلك الدعوة إلى محاكمتهم، ومعاقبة مكاتب المحاماة الكبرى، التي تمثل من يعتبرهم ترامب أعدائه، مثل منع هؤلاء المحامين من دخول المباني الحكومية لتمثيل المستهدفين من ترامب. وألمح ترامب ومساعديه البارزين، مثل نائبه جي دي فانس إلى إمكانية تجاهلهم في المستقبل لقرارات القضاء، وهو إجراء لم يتجرأ رئيس أميركي منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من 155 عاما على القيام به.
وبدأ ترامب اجراءاته لترهيب الصحافة الأميركية المستقلة إما بشكل مباشر أو عبر القضاء، وتحجيم واستهداف وسائل إعلام لها تاريخ عريق، مثل وكالة رويترز ووكالة الاسوشييتد برس، ومنعهم من تغطية البيت الأبيض، واستبدالهم بصحفيين يمثلون وسائل الإعلام أو المواقع اليمينية المتطرفة التي تدعمه. ووصلت الضغوط إلى مرحلة إقناع بعض أصحاب وسائل الإعلام الكبرى من رجال الأعمال الأثرياء إلى الطلب من صحفهم أو مواقعهم الإلكترونية ممارسة الرقابة الذاتية.
خارجياً، تسبب ترامب بحرب تجارية دولية، بدأها في فرض التعريفات الجمركية الكبيرة ضد أهم شريكين تجاريين للولايات المتحدة، كندا والمكسيك، إضافة إلى الصين. وخلال أسبوع، اتخذ ترامب قرارات متضاربة ومتناقضة حول التعريفات، ما أدى إلى خلق حالة من الذهول والارتباك في الأسواق المالية الأميركية، والتسبب بخسارتها لمئات المليارات. وأثار ترامب غضب الكنديين حين بدأ بالتشكيك بشرعية كندا، وشرعية الحدود معها، والمطالبة بتعديل هذه الحدود، (وهي مواقف لا تختلف جذرياً عن مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا قبل غزوها مرتين)، أو ضم كندا لتصبح الولاية الواحدة والخمسين في الاتحاد الفيدرالي، وكان يهين رئيس وزرائها عندما يسميه علناً “حاكم” كندا [في إشارة إلي كونه حاكماً لولاية أمريكية]. طالب ترامب أيضا بإعادة فرض السيطرة الأميركية على قناة بنما، لأن الولايات المتحدة شقتها في بداية القرن الماضي، كما طالب بضم جزيرة غرينلاد الضخمة في أوروبا، والتابعة للدانمارك، وهي عضو في حلف الناتو. واستغل المسؤولون في إدارة ترامب المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر ميونيخ الأمني، لإضعاف العلاقات الأميركية-الأوروبية، التي اقتربت من القطيعة حين انحاز الرئيس الأميركي بشكل واضح، وفي تحول تاريخي، إلى جانب العدوان الروسي ضد أوكرانيا، ما أدى إلى مشادة علنية بينه وبين الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي في البيت الأبيض، أدت إلى طرد الرئيس الأوكراني من البيت الأبيض، وتعليق المساعدات العسكرية والاستخباراتية لأوكرانيا مؤقتاً.
خلال ولايته الأولى، ظل تحدي ترامب للأعراف والتقاليد الديموقراطية الأميركية محدوداً نسبياً، لأنه كان يفتقر إلى الخبرة السياسية، ولم يكن حتى مسيطراً على الحزب الجمهوري في 2017، كما إنه اضطر إلى الاعتماد على شخصيات جمهورية تقليدية لشغل المناصب الهامة في حكومته، حيث كان هؤلاء – ومن بينهم وزير الدفاع الاسبق جيمس ماتيس، ووزير الخارجية الأسبق ريكس تيليرسون، ومدير البيت الأبيض جون كيلي، والرئيس السابق لهيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال مارك ميلي – يكبحونه أحياناً، ويخففوا من ميوله المتطرفة. ولكن هذه الضوابط ليست موجودة في ولاية ترامب الثانية.
هذه المرة عاد ترامب إلى الحكم وهو على معرفة أكبر بكيفية صنع القرارات في واشنطن، وجلب معه جيشاً من الموالين له، وخططاً أعدتها مراكز الأبحاث التي تؤيده، لمساعدته في تنفيذ خططه، بعد أن فرض سيطرته شبه المطلقة على الحزب الجمهوري، وجعله يشبه طائفة سياسية. كما جاء فوزه في المجمع الانتخابي وفي التصويت الشعبي، ليساعده على الادعاء أنه جاء هذه المرة بانتداب من الشعب الأميركي لتغيير طبيعة الحكم والعلاقة بين المواطن والدولة، وإعادة صياغة علاقات الولايات المتحدة بالعالم الخارجي. هذه المرة عاد ترامب ليحكم كأوتوقراطي بامتياز. هذه الحقيقة الصارخة يمكن أن تؤدي برأي العديد من المؤرخين والمحللين إلى تفريغ الديموقراطية الأميركية من محتواها، ما يؤدي إلى تهديد الحريات المدنية والانتخابات النزيهة، أي جوهر ما يسمى بالديموقراطية الليبرالية.
كان ترامب خلال ولاية الرئيس السابق جوزيف بايدن يتهمه بتسييس أو تسليح وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) ووزارة الأمن الوطني للادعاء ضد ترامب وأنصاره. ولكن منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض قبل خمسين يوماً، بدأ فعلاً بتسييس هذه الأجهزة، واستخدامها ضد خصومه السياسيين، وضد وسائل الاعلام التي تنتقده. استخفاف ترامب بالأعراف الديموقراطية، وسعيه لإضعاف المؤسسات الديموقراطية، بما فيها الكونغرس – الذي يسيطر الحزب الجمهوري على مجلسيه، وحتى التشكيك بالأحكام القضائية، سوف تؤدي إلى تفكيك النظام الديموقراطي، واستبداله بنظام قمعي تقليدي كما هو الحال في الأنظمة السلطوية التي تسجن الكتاب والصحفيين، وتمارس التعذيب في السجون، وتسيطر على القضاء، وتقوم بانتهاكات سافرة وعلنية لحقوق الانسان.
يستطيع ترامب الأوتوقراطي أن يسيطر على أجهزة الدولة وتسييسها، واستخدامها لصالحه وصالح أنصاره وحلفائه، من خلال ترهيب أو عزل المعارضة، أو تغريمها في المحاكم وتعريضها للإفلاس المالي. وكما رأينا خلال احتفالات تنصيب ترامب هذه المرة، هناك ائتلاف بينه وبين عدد من الاوليغارشيين من أصحاب الثروات شبه الخيالية، وبعضهم كانوا قد عارضوه خلال حملة 2016، وحرموه من استخدام الفيسبوك، كما فعل صاحب هذه الشبكة مارك زاكربيرغ، وكما فعل مؤسسو شبكة تويتر آنذاك، قبل أن يشتريها حليف ترامب ايلون ماسك، ويفرغها من محتواها بعد أن أسماها أكس، وكما فعل صاحب صحيفة الواشنطن بوست جيف بيزوس.
هذه المرة، اصطف هؤلاء الاوليغارشيون في خندق ترامب، وقدموا له التبرعات المالية، كما منع جيف بيزوس صاحب الواشنطن بوست هيئة التحرير من دعم الرئيس بايدن، وغير جذرياً من سياسة صفحة التعليقات، ما أرغم بعض المعلقين والصحفيين على الاستقالة احتجاجاً على تقييد حرياتهم وتأييد ترامب، هو ما نتج عنه قيام مئات الآلاف من القراء بإلغاء اشتراكاتهم في الصحيفة.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، برزت في الدول التي توجد فيها بعض المؤسسات الديموقراطية ظاهرة الزعيم الأوتوقراطي، الذي يصل إلى الحكم خلال انتخابات شرعية، ثم يعمل مع حلفائه على تعزيز سلطته التنفيذية على حساب ما تبقى من المؤسسات الديموقراطية الواهية، ومحاولة تحييد أو تهميش القضاء وترهيب حريات التعبير. هذا ما رأيناه في مسيرة فيكتور أوربان في هنغاريا، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وناريندرا مودي في الهند، وهيوغو شافيز في فنزويلا، وقيس سعيد في تونس. هذه الدول تجري انتخابات تشريعية دورية، يقوم خلالها الحزب الحاكم باستخدام أجهزة الدولة لصالحه، وترهيب المعارضة أو شراء ولاء بعض السياسيين.
في الولايات المتحدة، هذا يعني استغلال وزارات مثل وزارة العدل ووزارة الأمن الوطني ومكتب الإف بي آي أو جهاز مصلحة الضرائب، للضغط على الشخصيات أو الأحزاب المعارضة. في مثل هذه الاجواء يقوم الرئيس الأوتوقراطي بإرهاق وسائل الإعلام المعارضة بالدعاوى القضائية، كما يفعل ترامب دائماً لترهيبها، وارغامها على دفع الغرامات المالية. على سبيل المثال اضطرت شركة ميتا التي تملك منصة فيسبوك على دفع غرامة مالية بقيمة 3 ملايين دولار، لأنها حرمته من استخدام فيسبوك بعد اجتياح انصاره لمبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني 2021، كما قامت الشركة بالتبرع بـ 22 مليون دولار للمكتبة الرئاسية التي يريد أن يؤسسها ترامب بعد تقاعده. كما توصلت شبكة أيه بي سي إلى تسوية قضائية مع ترامب دفعت بموجبها 15 مليون دولار إلى مكتبة ترامب الرئاسية مقابل تنازله عن دعوى رفعها ضد أحد مقدمي البرامج لأنه أساء إلى سمعته.
في ولايته الأولى، كان ترامب يكرر وصف الصحافة بأنها “عدوة الشعب الأميركي” واتهم شبكات الأنباء وكبريات الصحف بنشر “الأخبار الملفقة”. ومنذ عودته إلى البيت الأبيض، يشن ترامب حملة شرسة ضد الصحافة الحرة. في ولايته الثانية، أحاط ترامب نفسه بمسؤولين يشاركونه هذه النظرة العدائية للصحافة، ولا يترددون في ترهيب وتهديد الصحفيين بعزلهم أو مقاضاتهم. وأبرز دليل سافر على هؤلاء المسؤولين هو كاش باتيل، المدير الجديد لمكتب الإف بي آي الذي عينه ترامب، والذي يتبجح بأن لديه ما يسمى “لائحة أعداء” يطلق عليها اسم “أعضاء الجهاز التنفيذي للدولة العميقة”. وكان باتيل قبل تعيينه قد هدد بتعقب ما أسماه “المتآمرون” ضد ترامب ” ليس فقط داخل الحكم، بل في وسائل الإعلام”.
خلال المواجهة بين الرئيس ترامب ونظيره الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض، غابت عن تغطية هذا الحدث التاريخي أهم شبكتي أخبار في العالم رويترز والاسوشييتد برس، لأن ترامب منعهما من تغطية أخبار البيت الأبيض لأكثر من سبب، من بينها رفض تسمية خليج المكسيك، وهو الاسم المتعارف عليه للخليج، باسم خليج أميركا، كما أسماه ترامب.
جميع القادة الأوتوقراطيين الذي نجحوا في التفرد بالسلطة، وهذا ما يسعى إليه الرئيس ترامب، عززوا سلطتهم ليس بوسائل القمع التقليدية، وملء السجون بالشخصيات المعارضة، وممارسة التعذيب ضدهم، بل بالسيطرة التدريجية على القضاء، وتحييد وتحجيم وسائل الإعلام والصحافة المعارضة، وتقييد حريات التعبير والرأي، لمساعدة الحاكم الأوتوقراطي في خلق نظام دعائي وتضليلي يسمح له بتحديد السردية السياسية الضيقة التي يستخدمها لتعزيز قاعدته.