منذ بروزه على المسرح السياسي قبل عقد من الزمن، وترامب يطرح نفسه “كمُعطّل” للمفاهيم السياسية بمعناها التقليدي أو المتعارف عليه، ويتصرف خارج وداخل الحكم “كانقلابي” لا يبالي بالتقاليد والأعراف المعمول بها، والتي تشكل جزءاً لا يتجزأ من النظام الديموقراطي. عندما انتخب ترامب للمرة الأولى في 2016، كان والفريق الصغير الذي وصل معه إلى الحكم يفتقرون إلى الخبرة السياسية، ولم يكن لمعظمهم أي خبرة إدارية أو حكومية، ومن هنا كانت قراراته الأولية، مثل القرار التنفيذي الذي منع بموجبه رعايا بعض الدول ذات الأكثرية المسلمة من دخول الولايات المتحدة، يفتقر إلى الحجة القانونية الصائبة، ومن هنا دخلت عليه التعديلات فور الإعلان عنه. وحتى في السنوات التالية، ظل ترامب يشكو من نفوذ ما يسميه “الدولة العميقة”، في إشارة إلى البيروقراطية التقليدية التي تدير البلاد وفق قوانين وأعراف وتقاليد، إما لم يفهمها ترامب أو لم يبالِ بها، وأراد التخلص منها، ووجد نفسه في مواجهة جدار بيروقراطي من الصعب، إن لم يكن من المستحيل تخطيه.
إعادة انتخاب ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي جاء بعد أربع سنوات في الحكم، وأربع سنوات في البرية السياسية، واجه فيها طوفان من الدعاوى والتحديات القانونية على الصعيد الفيدرالي وفي ولايات، مثل فلوريدا ونيويورك وجورجيا، تعهد خلالها بالانتقام من خصومه في حال عودته إلى السلطة. وحتى قبل إعادة انتخاب ترامب، قام أنصاره في مراكز الأبحاث وبعض مستشاريه بوضع المعالم القانونية والسياسية التي ستتميز بها ولايته الثانية. ترامب تحدث بوضوح وصراحة أنه سيعمل كمُعطّل لما هو معروف ومقبول، وأنه سيتحدى أسس الحوكمة في الولايات المتحدة، وأنه سيعاقب خصومه الحقيقيين والمتخيلين، وسيكافئ أنصاره والمقربين منه، مؤكداً مراراً وتكراراً إن الصفة التي يريدها في أنصاره والمحيطين به هي الولاء المطلق له.
بدأ ترامب بتوقيع قراراته التنفيذية خلال احتفالات تنصيبه، بعد ساعات من أدائه قسم اليمين وقبل وصوله إلى البيت الأبيض في خطوة مسرحية أمام أنصاره، حيث كان يعرض عليهم هذه القرارات بعد توقيعه عليها. في اليوم الأول لانتخابه، وقع ترامب على عشرات القرارات، كان أكثرها بشاعة واستهتاراً بالنظام القضائي، هي العفو العام عن أكثر من 1500 مذنب بتهم اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، والسيطرة عليه بعد الاعتداء على أكثر من 140 شرطي، وجرح عدد كبير منهم (توفي شرطي في اليوم التالي متأثراً بجراحه)، وانتحر عدد منهم لاحقاً. شمل العفو العام جميع أنصاره، بمن فيه أولئك الذين استخدموا العنف ضد رجال الشرطة، وكسروا أبواب المبنى لدخوله بالقوة. معظم الذين طالهم العفو اعترفوا بجرائهم وانتهاكاتهم في المحاكم، بمن فيهم بعض قادتهم من الذين صدرت بحقهم عقوبات بالسجن تزيد عن عشرين عاماً. قال ترامب قبل توقيع قرار العفو إنه سيعفو عن الكثيرين، ولكن البعض اعتقد انه لن يتمادى في تحديه للقوانين والأعراف، ويصل إلى حد العفو عن الذين ارتكبوا العنف ضد رجال الشرطة، خاصة وأن نائبه جي دي فانس كان قد قال علناً في مقابلة تلفزيونية إن الذين ارتكبوا العنف يجب ألا يطالهم العفو. موجة الاستياء والادانة الديموقراطية، والشكاوى الصادرة عن المنظمات التي تمثل الشرطة، وتذكير الديموقراطيين وغيرهم للرئيس ترامب والجمهوريين إنهم يمثلون الحزب الذي يدعي تقليديا إنه يؤيد دائما ” الزي الازرق”، في إشارة إلى البذات الزرقاء التي يرتديها رجال الشرطة، لم تؤثر على ترامب والمقربين منه. وحتى الجمهوريون القلائل، الذين كانوا قد قالوا إن العفو يجب ألا يشمل من مارس العنف خلال ذلك اليوم المشؤوم، تراجعوا عن مواقفهم الأولية واصطفوا وراء ترامب.
جاء الانتقام من خصوم وأعداء ونقاد ترامب سريعاً وحاسماً. فقد أمر الرئيس بإلغاء الحراسة التي كان يتمتع بها بعض المسؤولين السابقين، من الذين عملوا في ولايته الأولى، لحمايتهم من التهديدات الإيرانية بعد قرار ترامب اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في العراق، مثل وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، وهذه الحراسة كان يجددها الرئيس السابق جوزيف بايدن لأن تقويم أجهز الاستخبارات كان يشير إلى أن الخطر لا يزال يهدد هؤلاء. ألغى ترامب أيضا الحراسة التي كانت تحيط بالمسؤول الصحي البارز خلال ولايته أنتوني فاوتشي، البالغ من العمر 84 عاما، الذي تعرض لتهديدات كثيرة من اليمين الأميركي بسبب انتقاداته لكيفية تعامل ترامب مع جائحة كورونا. وأصدر ترامب أوامره بالتخلص من الصورة الرسمية لرئيس هيئة الأركان المشتركة السابق الجنرال مارك ميلي من وزارة الدفاع، ولاحقاً ألغى الحراسة التي كان يتمتع بها. ثم بعد ذلك، أصدر وزير دفاعه الجديد بيتر هيغسيت أوامره بالبدء بتحقيقات إدارية في وزارة الدفاع للتحقيق بسلوك الجنرال ميلي (الذي طاله عفو عام كان قد أصدره الرئيس بايدن كخطوة استباقية ضد انتقام ترامب)، بعد أن ألغى الحراسة الخاصة به، وسحب منه البطاقة التي تسمح له بالدخول إلى مبنى وزارة الدفاع.
يمكن تلخيص القرارات التنفيذية، التي وقعها ترامب في أسبوعه الأول في البيت الأبيض، بأنها بمثابة إعلان حرب شاملة ضد ما يعتبره “الدولة العميقة” أو البيروقراطية الحاكمة، والمؤلفة من أفراد مهنيين بعضهم جمهوري، وبعضهم ديموقراطي، وربما أكثريتهم من المستقلين، بحجة إن البيروقراطية الحاكمة مترهلة وفاسدة، وتنفذ سياسات تستفيد منها الأقليات و المثليين والمتحولين جنسياً، ومبنية على برامج أقرها الديموقراطيون، وأبرزها البرنامج المعروف باسم “التنوع والإنصاف والشمول”، الذي يضمن التوظيف العادل لجميع الأميركيين المؤهلين بغض النظر عن خلفياتهم الاثنية والدينية أو ميولهم الجنسية. وكان هذا البرنامج من أوائل ضحايا قرارات ترامب التنفيذية. وكان ترامب وأنصاره قبل وفور انتخابه يوجهون نيران انتقاداتهم لهذا البرنامج بحجة إنه يضمن توظيف الأفراد من الأقليات أو الفئات الخاصة دون أن يتمتعوا بالمؤهلات المهنية. ألغت قرارات ترامب هذا البرنامج في جميع الوزارات.
ولضمان بقاء وزاراته خارج نطاق المراقبة المهنية والمستقلة، قام ترامب بطرد 18 مفتشاً عاماً، وظيفة كل منهم مراقبة عمل وزارة معينة، وهؤلاء يتمتعون بصلاحيات مستقلة تضمن نزاهتهم. اللافت في هذا القرار أن الرئيس، وفقاً للقانون عليه إعلام الكونغرس بقراره قبل تنفيذه بثلاثين يوماً، وأن يصاحب قراره بتفسيره لأسباب الطرد، وهو أمر لم يبال به ترامب، وأدى فقط إلى بعض التساؤلات الخجولة من قبل بعض المشرعين الجمهوريين.
وشملت قرارات ترامب الأولية تنفيذ سياسته بشّن أكبر حملة طرد للمهاجرين غير الموثقين، قال إنها ستبدأ بأولئك الذين خالفوا القوانين الأميركية، ولكن تبين لاحقاً إن العناصر التابعة لمراقبة الهجرة ولوزارة الأمن الوطني تقوم بترحيل أي شخص يقبضون عليه ودخل البلاد دون وثائق رسمية خلال الغارات التي يقومون بها (بدأوا الغارات هذه في المدن الأميركية التي يديرها رؤساء بلدية ينتمون إلى الحزب الديموقراطي) حيث يتم القبض على مئات المهاجرين غير الموثقين في اليوم، ويتم ترحيل المئات منهم في طائرات مدنية أو عسكرية. ونشبت أزمة بين الولايات المتحدة وكولومبيا، عندما رفضت كولومبيا السماح لطائرات عسكرية أميركية الهبوط في أراضيها، الأمر الذي دفع بترامب إلى التهديد بفرض تعريفات عالية ضد البضائع الكولومبية، الأمر الذي أرغم كولومبيا على التراجع عن موقفها الأولي، وقبول رعاياها المرحلين من الولايات المتحدة. وتحسباً لرفض بعض الدول قبول مهاجرين غير موثقين، أمر ترامب بفتح معسكر غوانتانامو الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة في كوبا لإيواء حوالي 30 ألف مهاجر غير موثق.
وفي قرار اعتباطي، ربما كان الأكثر تعطيلاً لعمل الحكومة الأميركية وأجهزتها العديدة، طلب ترامب من مكتب الإدارة والموازنة، إصدار مذكرة تطالب جميع الإدارات والوكالات الفيدرالية بتجميد معظم برامج المساعدات الفيدرالية، التي يستفيد منها عشرات الملايين من الأميركيين حتى يتم إجراء مراجعة شاملة لها. جاء القرار الجذري مفاجئاً للأميركيين، وبررته إدارة ترامب بالادعاء إنه يهدف إلى ضمان توافق برامج المساعدات مع الأولويات “الحكومية وترشيد الانفاق العام”. وسارع الديموقراطيون الذين صدمهم القرار إلى معارضته بقوة، واللجوء إلى القضاء لوقفه بحجة إنه ينتهك القانون، ويشكل تهديداً للمصلحة العامة. ويطالب القرار جميع الأجهزة والوكالات الفيدرالية بتجميد صرف المساعدات المالية، التي خصصها الكونغرس بشكل مؤقت في خطوة تؤثر سلباً على برامج فيدرالية، تصل قيمتها إلى 3 ترليون دولار سنوياً. وهذه البرامج تغطي طيفاً واسعاً من الخدمات، تشمل المنح الدراسية والقروض المخصصة للشركات الصغيرة، والمساعدات الطارئة في حال الكوارث الطبيعية. كما يشمل التجميد التمويل الذي تحصل عليه المنظمات غير الحكومية والمؤسسات البحثية والجامعات وبرامج المساعدات المحلية للولايات. وقامت قاضية فيدرالية بإصدار قرار مؤقت بوقف العمل بالقرار.
ولكن الضجة الكبيرة التي أثارها تجميد هذه المساعدات، وحالة الرعب التي شعر بها الملايين من الأميركيين، وخاصة ذوي الدخل المحدود، والذين يعتمدون على المساعدات الحكومية، إلى قيام البيت الأبيض بعد يوم من إصدار أوامر تجميد المساعدات، بالتراجع عن القرار، لحين دراسته بشكل معمق أكثر.
جاء إعلان البيت الأبيض عن تجميد برامج المساعدات الداخلية، بعد أيام من خطوة مماثلة لتجميد المساعدات الأميركية الخارجية، باستثناء المساعدات العسكرية لكل من إسرائيل ومصر إلى أن تخضع لمراجعة كاملة للتحقق من مدى انسجامها مع “الأجندة الخارجية”، التي يعتزم ترامب اتباعها. وتصل قيمة المساعدات الخارجية، والتي تشمل برامج مكافحة الأمراض والتعليم، إضافة إلى المساعدات الاقتصادية والعسكرية، حوالي 60 مليار دولار سنوياً.
التعطيل الخارجي الكبير لترامب في أسبوعه الأول، كان في اقتراحه الخطير للعاهل الاردني الملك عبد الله الثاني في مكالمة هاتفية قبول نقل مليون ونصف فلسطيني من قطاع غزة إلى الأردن، قائلاً إن ذلك سوف يؤدي “إلى تنظيف المنطقة بكاملها”، وأضاف في حوار مع الصحفيين في طائرته، إنه قال للعاهل الأردني “أنا أحب أن آراك تأخذ المزيد لأنني أنظر إلى كامل قطاع غزة الآن، وهو في حالة فوضى”. وقال ترامب للصحفيين إن عملية نقل الفلسطينيين يمكن أن تكون بشكل “مؤقت أو طويل الأجل”. وأضاف، إنه سيطلب الشيء ذاته من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قائلا، “أتمنى أن يأخذ البعض” منهم، مضيفاً “ساعدناهم كثيراً، وأنا متأكد من أنه سيساعدنا”.
وسارع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى رفض طلب ترامب، وقال “رفضنا للتهجير ثابت لا يتغير، وضرورة لتحقيق الاستقرار والسلام الذي نريده جميعاً،” وأضاف “إن حل القضية الفلسطينية في فلسطين، والأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين”. طلب ترامب الغريب والخطير يعكس جهله للحقائق الديموغرافية والتاريخية للقضية الفلسطينية، وما يعنيه تهجير الفلسطينيين أو مجرد الحديث عن إبعاد الفلسطينيين عن أرضهم التاريخية وما يعنيه للذاكرة الجماعية للفلسطينيين بشكل خاص، والعرب في المشرق بشكل عام. أصدرت وزارة الخارجية المصرية موقفاً مماثلاً للأردن، ورأت أن اقتراح ترامب “يهدد بتوسيع النزاع في المنطقة”. وكان صهر ترامب جاريد كوشنر قد قال خلال الحرب بين إسرائيل وغزة، إن موقع ومناخ القطاع مناسباً للاستثمار الاقتصادي العقاري.
وعقب طلب ترامب اتصالات ديبلوماسية سريعة بين الأردن ومصر والسعودية، التي رفضت في هذه الاتصالات اقتراح ترامب. وتم التفاهم في هذه الاتصالات العربية، إن ترامب يهدد بتقويض أبرز طموحاته السياسية في المنطقة، إذا عاد وكرر طلبه هذا أو هدد بربط تنفيذ الاقتراح بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية لكل من الأردن ومصر، أي رغبته بتوسيع “اتفاقات إبراهام” لتشمل تطبيع العلاقات ومعاهدة سلام بين السعودية وإسرائيل، لأن السعودية لن تقبل بتهجير الفلسطينيين من غزة، وتقوم في الوقت نفسه بتطبيع العلاقات مع الطرف المسؤول بالدرجة الأولى عن تدمير غزة، وجعل مثل هذا الطلب الخطير من ترامب في حيز الإمكان. هذه بداية غير واعدة لعلاقات ترامب في ولايته الثانية مع بعض الدول العربية.