ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
لم يحدث منذ بداية العصر النووي قبل 72 سنة، أن هدد رئيس أمريكي، دولة نووية، برد “ناري وغاضب لم ير العالم مثله من قبل” إذا واصلت هذه الدولة تهديداتها للولايات المتحدة، كما فعل الرئيس دونالد ترامب بلغة متشددة ضد رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ-أون يوم الثلاثاء، ثم ضاعف تهديده بعد يومين. تزامنت تهديدات ترامب مع الذكرى الثانية والسبعين لاستخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي للمرة الأولى ضد مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، الأمر الذي أنهى الحرب وأرغم اليابان على الاستسلام. وكان من اللافت أن اللغة التي استخدمها ترامب كانت تشبه اللغة القوية التي استخدمها الرئيس الأمريكي هاري ترومان بعد قصف هيروشيما وقبل قصف ناغازاكي، حين قال إنه إذا لم تقبل اليابان شروط الحلفاء للاستسلام فعليها أن تتوقع “مطر الخراب من الجو بشكل غير معهود على الأرض”. بعد مرور ستة أشهر على وجوده في البيت الأبيض، وفي الوقت الذي انحدرت فيه شعبيته إلى أقل من 35 بالمئة، ومع استمرار التحقيقات القضائية، فضلا عن تحقيقات الكونغرس، في قضية احتمال تواطؤ مسؤولين في حملته الانتخابية في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وفي ظل غياب أي إنجازات تشريعية هامة، ارتأى الرئيس ترامب أن يصعد التوتر مع دولة معزولة يحكمها دكتاتور متهور، فرض مجلس الامن الدولي على نظامه قبل أيام سلة عقوبات جديدة هي الثامنة منذ أول تفجير نووي أجرتها كوريا الشمالية في عام 2006.
عندما أمر الرئيس الأسبق ترومان بإلقاء أول قنبلة نووية ضد مدينة هيروشيما – وهو قرار لا يزال محور جدل أخلاقي واستراتيجي مستمر – كان حجم الاقتصاد الأمريكي 45 بالمئة من اقتصاد العالم، وكانت أمريكا تحتكر السلاح النووي، فضلا عن أن قصف هيروشيما جاء في الأيام الأخيرة لحرب شاملة بدأتها الإمبراطورية اليابانية عندما هاجمت القاعدة البحرية الأمريكية في بيرل هاربر بولاية هاواي. صحيح، أن كوريا الشمالية تطور صواريخ عابرة للقارات وزودتها برؤوس نووية قد تهدد نظريا الولايات المتحدة، إلا أن كوريا الشمالية لا تمثل خطرا وجوديا على أمريكا، كما أن المخططين العسكريين الأمريكيين يقولون إن أي حرب مع كوريا الشمالية سوف تكون “كارثية” وخاصة على الكوريتين وربما اليابان، ولا مثيل لها بالنسبة للخسائر البشرية منذ الحرب العالمية الثانية. وأي حرب جديدة في شبه الجزيرة الكورية، سوف تمس مباشرة بالأمن القومي لثاني وثالث أكبر اقتصادين في العالم أي الصين واليابان، وسوف تفرض على الصين الجارة الكبيرة لكوريا الشمالية خيارات استراتيجية ضخمة تبدأ باحتمال تعرضها لأي إشعاعات نووية، في حال استخدم السلاح النووي، وتنتهي ربما بأزمة لاجئين كوريين. وإذا تعرضت اليابان، وتحديدا عاصمتها طوكيو لقصف صاروخي من كوريا الشمالية، حتى ولو لم يكن نوويا، فإن مضاعفاته السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والنفسية ستكون فادحة للغاية. أما الخاسر الأكبر في أي حرب جديدة – أن كانت تقليدية أم نووية – فهو كوريا الجنوبية التي تمثل الاقتصاد الرابع في آسيا والحادي عشر في العالم، لأن عاصمتها سيول تقع على بعد 35 ميلا من الحدود مع كوريا الشمالية، وهي في مدى أكثر من 10 آلاف قطعة مدفعية ثقيلة قادرة على رمي آلاف القذائف على سيول ومحيطها حيث يعيش 25 مليون نسمة، بينهم أكثر من 100 ألف مدني أمريكي، وأكثر من 28 ألف عسكري أمريكي.
وعلى الرغم من صعوبة التفاوض مع كوريا الشمالية، كما يشهد على ذلك الرؤساء الأمريكيون الثلاثة بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما الذين حاولوا وقف تطوير البرامج الصاروخية والنووية لكوريا الشمالية، إلا أنه ليس صحيحا أن جميع الخيارات الدبلوماسية قد استنزفت، بما فيها خيار التفاوض مع كوريا الشمالية، مقابل ضمانات بأن واشنطن لن تسعى إلى تغيير النظام في بيونغ يانغ.
الحصان خارج الإسطبل
هناك حقائق ينكرها العديد من الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس ترامب، وأبرزها أنه لا يوجد هناك حل عسكري مقبول التكلفة للترسانة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، حتى مع توفر الإمكانيات العسكرية الأمريكية القادرة على إلحاق أضرار كارثية بهذا البلد الصغير. وتؤكد تقارير صحفية مبنية على معلومات استخباراتية مسربة، أن كوريا الشمالية قد طورت رؤوسا نووية صغيرة يمكن أن تحملها صواريخها الجديدة العابرة للقارات، وأن لديها مخزونا من حوالي 60 رأسا نوويا. هذه الصواريخ ليست بالضرورة ثابتة، بل تحملها عربات مخزونة في أنفاق تحت جبال عالية لا يمكن قصفها بالقنابل التقليدية. وهذا يعني أن أي حرب استباقية تشنها الولايات المتحدة لن تؤدي في أي وقت قصير إلى تدمير معظم مرابض الصواريخ أو تعطيل المنشآت النووية، وهذا يعني أنه سوف يبقى لدى كوريا الشمالية خيار إطلاق صواريخها ضد طوكيو أو ربما ولايات هاواي وألاسكا أو كاليفورنيا. كل هذه الحقائق النووية، تعني أن النافذة التي كانت مفتوحة ربما قبل سنوات لتجميد البرنامج النووي والصاروخي في كوريا الشمالية قد اغلقت. الرئيس جورج بوش الابن، لم يستطع منع – أو معاقبة- كوريا الشمالية عندما أجرت أول تجربة نووية في 2006، لأنه كان متورطا في أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة : أفغانستان والعراق اللتين أمر بوش بغزوهما في 2001 و2003، واللتين لا تزال القوات الأمريكية متورطة فيهما حتى الآن. الرئيس أوباما، الذي كان يميل إلى تفادي النزاعات الدولية ربما بأي ثمن، مارس سياسة النكران في التعامل مع كوريا الشمالية، ولكنه أطلق عليها اسما ظريفا هو “الصبر الاستراتيجي” . هذا الصبر، تحول إلى صبر أيوب بالنسبة لأوباما، الذي لم يقم بأي خطوة جدية لوقف التجارب النووية الأربعة التي أجرتها كوريا الشمالية خلال ولايتيه.
الرئيس ترامب في تعامله مع كوريا الشمالية يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويلوح بأن الغضب الساطع آت، ولكن تهديداته لن تغير من حقيقة أن الترسانة النووية الكورية الشمالية هي واقع استراتيجي لم يعد بالإمكان نكرانه. وهناك قول أمريكي ظريف يعبر عن مثل هذه الحقائق هو : الحصان خارج الإسطبل. أي لقد فات الأوان على معالجة المشكلة. كما أنه ليس بمقدور واشنطن أن تتخذ خيار الحرب ضد كوريا الشمالية بمفردها لأنه سيؤدي إلى خسائر بشرية ضخمة في كوريا الجنوبية واليابان حليفتيها الكبيرتين في آسيا.
وبعد أسبوع حفل بالتهديدات الطنانة والمبالغات الاستراتيجية والتي عكست الجهل الصارخ للرئيس ترامب ليس فقط بطبيعة الترسانة النووية لكوريا الشمالية، ولكن أيضا بطبيعة الترسانة النووية الأمريكية، بدأ وزير الدفاع جيمس ماتيس محاولاته لاحتواء التراشق اللفظي بين ترامب وكيم جونغ-أون، وعاد لتذكير الأمريكيين والعالم بأن الحرب الاستباقية ضد كوريا الشمالية ستكون “كارثية” . وأضاف ماتيس الجنرال المتقاعد “أن الدبلوماسية هي التي تقود الجهود الأمريكية، وبدأنا بتحقيق النتائج، وأنا أريد البقاء في هذا المجال”، وتابع ماتيس “مأساة الحرب معروفة جدا ولا تحتاج إلى أكثر من القول بأنها ستكون كارثية”. ويرى بعض المحللين أن هناك خيارات نظرية عسكرية متوفرة للولايات المتحدة، ولكن ليس بينها أي خيار مضمون أو دون ثمن فادح: خيار الحرب التقليدية المحدودة وارد، ولكن من يضمن أن كيم جونغ-أون لن يحوله إلى حرب شاملة؟ خيار الحرب الشاملة وارد نظريا أيضا، ولكن من سيتحمل كامل مضاعفاته الاستراتيجية والبشرية والاقتصادية؟ ومن هو مستعد لوراثة دولة مدمرة في كوريا الشمالية؟ خيار “قطع رأس ” النظام متوفر نظريا، ولكنه غير مضمون وغير عملي لأن المعلومات الاستخباراتية الموثوقة والآنية حول تحركات ومكان تواجد قادة البلاد صعبة للغاية في مجتمع مغلق مثل كوريا الشمالية، وهو خيار لم يكن متوفرا عمليا لأمريكا خلال قصفها المكثف ولأكثر من مرة للعراق، حيث اخفقت في التخلص من شخص صدام حسين، حتى خلال الفترة الأولية التي أعقبت غزو العراق واحتلاله.
القادة العسكريون الأمريكيون يقولون إن أي هجوم صاروخي يأمر به كيم جونغ-أون سيؤدي إلى تدمير بلاده. ولكنهم يدركون أكثر من ترامب ومساعديه المتشددين، أن أي حرب أمريكية استباقية ستكون محفوفة بالمخاطر للجميع، وسوف يكون فيها “الانتصار” بالمعنى التقليدي للكلمة بعيد المنال. هذه الحقيقة، تجعل من الخيارات الدبلوماسية والاقتصادية، على الرغم من أنها قد لا تؤدي إلى التخلص من الترسانة النووية لكوريا الشمالية، الخيارات الوحيدة التي يمكن أن تؤدي مع مرور الزمن إلى الحد من هذه الترسانة. دعاة هذا التوجه يقولون إن الهدف الرئيسي لنظام كيم جونغ-أون هو صيانة حكم سلالة كيم المستمر منذ ثلاثة أجيال، وأن ضمانات أمريكية-يابانية-كورية جنوبية بمباركة صينية-روسية، قد تقنع كيم جونغ-أون، الملقب بالقائد العزيز، بتعديل سياسته. ولكن من سيقنع الرئيس ترامب بعدم سحب سيفه النووي؟ أحدى أبرز المفارقات التي تتميز بها ولاية ترامب، هي أن الجنرالات الأربعة الذين يعتمد عليهم: اثنان في الخدمة العسكرية، مستشار الأمن القومي إتش آر ماكماستر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد، واثنان متقاعدان، وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومدير البيت الأبيض جون كيلي يمكن أن يمنعوا ترامب من زج البلاد في تراشق نووي مع كوريا الشمالية، وأن يصونوا، هم العسكريون، الديمقراطية الأمريكية. والمعروف أن للجنرالات الأربعة مفهوم متشابه للمشاكل التي تواجهها البلاد وأنهم يتحدثون وينسقون مع بعضهم البعض دوريا. وكانت وكالة الأسوشيتد برس قد ذكرت في تقرير لها أنه عندما كان الجنرال كيلي وزيرا للأمن الوطني، توصل إلى تفاهم مع الوزير ماتيس يقضي بوجود أحدهما في البلاد عندما يكون الآخر مسافرا لضمان عدم صدور أوامر مقلقة أو خطيرة من البيت الأبيض.
المخاوف الأمريكية من الترسانة النووية الكورية الشمالية، مماثلة بعض الشيء للمخاوف التي برزت قبل تحول الاتحاد السوفياتي والصين إلى دول نووية تملك ترسانات من الصواريخ العابرة للقارات. ويلتقي العديد من المحللين العسكريين داخل وخارج الحكومة الأمريكية على القول بأن الحكومة الأمريكية يجب أن تحضر نفسها وشعبها وحلفائها للتعايش الحذر، ومن خلال إجراءات الحماية العسكرية ووجود قوة ردعية ضاربة، مع دولة نووية في كوريا الشمالية. يبدو أن الحصان لم يخرج فقط من الاسطبل، لكنه ابتعد كثيرا قبل أن يختفي في الأفق.