في خطابه السنوي عن “حالة الاتحاد” أمام الكونغرس جدد الرئيس ترامب موقفه المعروف بضرورة إنهاء ما يسميه “بالحروب التي لا نهاية لها”، وهي إشارة إلى حربي أفغانستان والعراق، وهما أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة. وفي الأسابيع الأخيرة كان ترامب يضع سوريا في هذه الخانة، وخاصة بعد أن أعلن – دون استشارة كبار مستشاريه المدنيين والعسكريين، ودون استشارة الحلفاء- عزمه سحب القوات الأمريكية المرابطة في سوريا خلال أسابيع.
وفي إشارة إلى أن القوات الأمريكية تحارب في أفغانستان منذ 2001 قال ترامب “جنودنا الشجعان يحاربون في الشرق الأوسط لحوالي 19 سنة. وخسر حوالي 7 الآف بطل أمريكي أرواحهم في أفغانستان والعراق، وأصيب أكثر من 25 ألف أمريكي بجراح بالغة، وأنفقنا أكثر من 7 تريليون دولار في الشرق الأوسط”. (الخبراء الاقتصاديون يشككون بصحة هذا الرقم ويقولون إن حجم الخسائر المالية الأمريكية ربما وصل إلى نصف هذا الرقم الذي يكرره ترامب دائما). وتقدر الكلفة المالية السنوية للقوات الأمريكية في أفغانستان بخمسين مليار دولار.
وإذا بقي هناك أي شكوك حول موقف ترامب من هذه الحروب، فقد حاول ترامب إنهاء هذه الشكوك بالقول” الأمم العظمى لا تتورط في حروب لا نهاية لها”. وكان ترامب يعارض زيارة الجنود الأمريكيين في مناطق النزاع الحارة مثل أفغانستان والعراق، لأسباب كثيرة تتراوح بين انزعاجه من الرحلات الجوية الطويلة، وتنتهي برغبته في ألاّ يتم تفسير زياراته لتلك القوات على أنها تعكس تأييده لاستمرار مهامها.
أفغانستان: أطول الحروب
وفي إشارة إلى مهمة المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد، قال ترامب إنه “عجّل” بالمفاوضات في أفغانستان للتوصل إلى تسوية سياسية، وتحدث ترامب عن مباحثات “بناءة” مع قوى أفغانية من بينها حركة طالبان، وأضاف إنه إذا حققت المفاوضات التقدم، فإن حكومته ستبدأ بتخفيض عديد قواتها في تلك البلاد. وكان ترامب قد تحدث خلال الأسابيع الماضية عن رغبته بسحب نصف عديد القوات المنتشرة في أفغانستان، أي حوالي 7 آلاف عسكري. وأضاف ترامب “لا نعرف ما إذا كنا سنتوصل إلى اتفاق. ولكننا نعلم أنه بعد عقدين من الحرب، فقد حانت ساعة تجريب السلام على الأقل”. وبعد خطاب ترامب بثلاثة أيام، قال المبعوث خليل زاد إن واشنطن لا تسعى إلى اتفاق لسحب قواتها بل “لاتفاقية سلام” تشمل الأطراف الأفغانية المتنازعة. وعكس خليل زاد رغبة ترامب بالانسحاب من أفغانستان حين قال “نأمل بالتوصل إلى اتفاق سلام قبل يوليو- تموز لتسهيل تنظيم انتخابات سلمية، ولكن حتى ولو لم يتم تحقيق التقدم على مسار السلام، فإن الانتخابات سوف تجري”. وأضاف خليل زاد الذي كان يتحدث في معهد السلام الأمريكي، أن واشنطن لن تقبل بأي تعهدات لفظية حول الأمن القومي الأمريكي من القوى الأفغانية، ولذلك “يجب أن تكون هناك آليات لتطبيق الاتفاق يتم التفاهم بشأنها، في أي اتفاقية يتم التوصل إليها”.
المفاوضات مع طالبان تعكس حقيقة كان يدركها الرئيسان السابقان جورج بوش وباراك أوباما، وهي أنه لن يكون هناك أي اتفاق سياسي في أفغانستان دون مشاركة طالبان، لأنها القوة الرئيسية التي تحارب الحكومة في كابول. وفي السنوات الماضية كانت تقدم مقترحات معظمها يتمحور حول التالي :انسحاب أمريكي كامل، ولكن مع إبقاء قدرات جوية ( في آسيا الوسطى) وبحرية ( في المحيط الهندي) قريبة من المسرح الأفغاني وافهام طالبان بأن أي تهديد لأمن الولايات المتحدة يأتي من أفغانستان، وبغض النظر عن أي تنظيم مسؤول عنه، فإن الرد الأمريكي سيكون مدمرا للغاية. ولكن هذا الطرح كان يواجه معارضة من دوائر أمنية وعسكرية. ولكن معظم المراقبين يقولون إنه حتى ولو انسحبت القوات الأمريكية من خلال اتفاق يشمل مختلف القوى الأفغانية، فإن وصول طالبان إلى السلطة في كابول هو مسألة وقت فقط.
سوريا: الشتاء الأخير
منذ أن أعلن ترامب عن عزمه سحب القوات من سوريا في ديسمبر – كانون الأول الماضي، وهو يعلن عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، بمستويات مختلفة من الحزم. في خطاب حالة الاتحاد قال ترامب “الآن نعمل مع حلفائنا على تدمير بقايا تنظيم الدولة الإسلامية، ولقد حان الوقت لإعطاء محاربينا الشجعان في سوريا، ترحيبا حارا في الوطن”. وفي كلمة القاها أمام مؤتمر الائتلاف الدولي لمحاربة الإرهاب والذي يضم أكثر من سبعين دولة، قال ترامب إنه يتوقع أن يتم الإعلان في الأسبوع الثاني من فبراير – شباط أنه تم تحرير جميع الأراضي التي كانت تحتلها عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا.
وقال مسؤولون في وزارة الدفاع إن الإجراءات اللوجستية لانسحاب القوات من سوريا قد بدأت عمليا، وإن معظم القوات وعديدها يزيد عن ألفي عنصر سوف تنسحب من سوريا مع حلول نهاية شهر أبريل –نيسان، وإن بعض هذه القوات سوف تنتقل إلى قاعدة الأسد الجوية في العراق، على أنه ليس من الواضح ما إذا كان سيتم نقل قسم محدود من هذه القوات إلى قاعدة التنف في سوريا لمراقبة شمال شرق البلاد. وليس واضحا حتى الآن ما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في حال بدأ الرئيس التركي طيب رجب أردوغان بتنفيذ تهديده بإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا.
ما هو مؤكد أن الانسحاب العسكري الأمريكي سوف يتم، وسوف يصاحبه “انسحاب سياسي” كما قال مسؤول سابق، بمعنى أن الرئيس ترامب سوف يترك سوريا عمليا لروسيا وإيران، وهو الذي قال قبل أسابيع أنه يمكن لإيران أن تفعل ما تشاؤه في سوريا. وأي مراقب لمواقف الرئيس ترامب بشأن نزاعات المنطقة، ومستقبل دول مثل العراق وسوريا والعلاقات المتوترة بين دول الخليج العربية وإيران، يخرج بانطباع واضح، وهو أن إدارة الرئيس ترامب، في الوقت الذي تدعو فيه إلى إقامة “تحالف استراتيجي شرق أوسطي”، كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو في خطابه في القاهرة في العاشر من الشهر الماضي، ضد ما يعتبره خطر إيران وخطر الإرهاب، فإن واشنطن لا تعتزم قيادة مثل هذا التحالف، وقطعا لا تعتزم تحمل جزءا هاما من كلفته المالية. ولوحظ أن بومبيو شدد في خطابه في القاهرة على أن الولايات المتحدة سوف “تساعد (ولم يقل سوف تقود) حلفاءها في جهودهم لحراسة حدودهم، ومحاكمة الإرهابيين، ومراقبة المسافرين، و مساعدة اللاجئين، وغيرها” من التحديات. وكان لافتا أن بومبيو طالب حلفاء واشنطن تحمل مسؤوليات جديدة لهزيمة قوى التطرف الإسلامي.
ومن هذا المنظور يمكن فهم قرار ترامب سحب القوات من سوريا، دون استشارة حلفاء واشنطن المنضوين تحت لواء “قوات سوريا الديمقراطية” التي يشكل أكراد سوريا عمودها الفقري، ودون توفير حماية حقيقية لهم، إن كان ضد انتقام قوات نظام الأسد، أو انتقام الرئيس التركي أردوغان الذي يرى هذه القوات على أنها تمثل خطرا إرهابيا لتركيا. وهذا يعني عمليا أن إدارة ترامب – بعد أن استفادت تكتيكيا – من هذه القوات في حربها البرية ضد “الدولة الإسلامية”، سوف تودع هذه القوات المحلية في الربيع، بعد أن قضت القوات الأمريكية شتائها الأخير في سوريا. أسلوب ترامب “التعاقدي” الذي يبحث عن “المصلحة الآنية” لأمريكا ولا يبالي بالتحالفات السياسية البعيدة المدى والمبنية على قيم أو مصالح مشتركة، كما يتبين من مواقفه المشككة بجدوى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو التحالف مع اليابان وكوريا الشمالية، يفسر موقفه غير المبالي إلى حد كبير بمستقبل حلفاء الأمس (من أكراد وعرب) في سوريا.
العراق: المستقبل الغامض
كان من اللافت أن خطاب ترامب حول حالة الإتحاد، ذكر العراق بشكل عابر، على الرغم من وجود أكثر من 5 آلاف عسكري أمريكي في العراق، كان الرئيس ترامب قد زارهم للمرة الأولى في ديسمبر كانون الأول الماضي في قاعدة الأسد الجوية الكبيرة الواقعة في محافظة الأنبار. في 2011 سحب الرئيس السابق أوباما القوات الأمريكية من العراق بعد إخفاق البلدين في التوصل إلى اتفاق حول القوانين التي ستطبق على القوات الأمريكية في حال بقائها في العراق. ولكن التحدي الذي فرضته “الدولة الإسلامية” في 2014 واحتلالها للموصل وأراض واسعة في العراق، دفع بالرئيس أوباما لإعادة إرسال القوات الأمريكية لتقوم بتنفيذ مهمة رئيسية واحدة: مكافحة إرهاب “الدولة الإسلامية”.
ومن المتوقع أن يتم نشر بعض العناصر العسكرية التي ستنسحب من سوريا في قاعدة الأسد. وخلال وجوده في القاعدة قال الرئيس ترامب إن القوات الأمريكية يمكن أن تستخدم القاعدة للقيام بعمليات عسكرية في سوريا، كما يمكن أن “تراقب”إيران منها. ولكن تصريحات ترامب حول مهام القوات الأمريكية في قاعدة الأسد، وضعت مستقبل القوات الأمريكية في العراق موضع شك. وكان ترامب قد قال في الأسبوع الماضي خلال مقابلة تلفزيونية إن الولايات المتحدة يجب أن تحافظ على القاعدة الكبيرة التي أنفقت عليها الكثير، وتابع “واحد الأسباب التي أريد أن أحافظ عليها هو إبقاء الأنظار على إيران، لأن إيران هي مشكلة حقيقية”. وكما كان متوقعا، جاء رد الفعل العراقي الرسمي سريعا وغاضبا. الرئيس العراقي برهم صالح، وهو من أكثر السياسيين العراقيين معرفة بالولايات المتحدة ونظامها السياسي حيث أمضى في واشنطن سنوات طويلة كممثل عن الإتحاد الوطني الكردستاني، قال بشكل قاطع “نحن لن نسمح بذلك. والعراق لا يريد أن يكون طرفا أو محورا لأي نزاع بين دول أخرى”. ولحقه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي محتجا “حين يقال إن مهمة هذه القوات (الأمريكية) هي محاربة دولة جارة مثل إيران، علينا أن نرفض هذا الطرح.” وحتى آية الله علي السيستاني، وهو أعلى سلطة شيعية في البلاد، نُقل عنه القول إنه لن يتم استخدام العراق لإلحاق الضرر بالدول الأخرى.
من جهته، حاول الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية التي تشرف على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط ضبط مضاعفات تصريحات ترامب حين ذّكر في شهادة في الكونغرس إن “مهمتنا العسكرية على الأرض لا تزال مركزة بشكل أساسي على السبب الذي دفع بالحكومة العراقية لطلب مساعدتنا”، أي مكافحة إرهاب “الدولة الإسلامية”. وتزامنت تصريحات ترامب التي اغضبت السياسيين العراقيين مع محاولات بعض القوى العراقية المناهضة للوجود العسكري الأمريكي في البلاد الضغط على البرلمان العراقي للتصويت على إجراءات لتقييد حرية القوات الأمريكية في البلاد أو سحبها بكاملها. وكان الرئيس ترامب قد أثار استياء السياسيين العراقيين خلال زيارته لقاعدة الأسد، حين تفادى الاجتماع برئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعكس الرئيسين السابقين جورج بوش وباراك أوباما اللذين كانا يجتمعان بالمسؤولين العراقيين خلال زياراتهما للقوات الأمريكية. هذه التطورات تشير الى أن مستقبل القوات الأمريكية غير مضمون. وإذا طلب العراق سحب هذه القوات، لن يكون باستطاعة ترامب رفض الطلب، وربما عاد إلى موقفه القديم الذي كان يعارض نشر قوات أمريكية في العراق.
الانسحاب الأمريكي العسكري، والسياسي من المنطقة في ظل رئاسة ترامب مستمر ببطء ولكن بشكل مؤكد. وحتى عداء ترامب الواضح لإيران، ليس من المتوقع أن يترجم عسكريا، لأن ترامب يريد الضغط اقتصاديا وسياسيا على النظام الإيراني وتشجيع الإيرانيين على الانتفاضة ضده، ولكنه يدرك أن التدخل العسكري ضد إيران، مكلف وغير مجد. ومع بدء النصف الثاني من ولايته، لم يطرح ترامب حتى الآن خطته لتحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. الإعلان عن الخطة قد تم تأجيله – مرة أخرى – إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في أبريل المقبل. وسوف يشارك المسؤول عن خطة السلام، جاريد كوشنر مستشار وصهر الرئيس في مؤتمر وارسو في بولندا، المسمى “مؤتمر السلام والأمن في الشرق الأوسط”، حيث سيطلع المؤتمرين على خطة السلام وما تعتزم واشنطن القيام به في المستقبل المنظور.
وسوف يقوم كوشنر ومساعدوه بزيارة موسعة للشرق الأوسط في نهاية الشهر الجاري تشمل إسرائيل والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وغيرها، وهي الدول العربية التي تريدها واشنطن أن تساهم في اقناع الفلسطينيين على العودة إلى طاولة المفاوضات، وتقديم الدعم المالي لانعاش الاقتصاد الفلسطيني في المستقبل. وقال مسؤول أمريكي سابق شارك في مفاوضات السلام، إن تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة بعد الانتخابات المقبلة قد يستغرق بضعة أشهر، ما يعني أن أي مفاوضات – في حال افترضنا أن الفلسطينيين سيعودون للتفاوض في ظل ظروف صعبة ومعادية لهم – سوف تبدأ مع بداية موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وتبين التجارب الماضية أن تحقيق التقدم في الوقت الذي تعيش فيه الولايات المتحدة في حمّى الانتخابات، هو أمر صعب للغاية. وإذا لم يتم تحقيق التقدم في أي مفاوضات جديدة، فإن ذلك لن يؤثر سلبا على الرئيس ترامب الذي سيقبل الأمر الواقع، وأن يكتفي بالقول، كما يفعل في كل مناسبة، من أنه أعطى إسرائيل أهم ما تريده، أي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة عاصمة لها، وعدم الاحتجاج على استمرار أعمال الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.