ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
رسم دونالد ترامب، الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة، صورة قاتمة لحاضر البلاد ولحال العديد من المواطنين، وتعهد لهم بقلب المقاييس والأعراف التي تحكمت بالسياسة البالية التي تمارسها الطبقة السياسية التقليدية في واشنطن، واضعا نفسه نقيضا لها والمنقذ منها. ولم يستغرق خطاب حفل تنصيبه رئيسا أكثر من 17 دقيقة، عاد فيه ترامب إلى نمطه المعهود كمرشح عن الحزب الجمهوري، وليس كرئيس لكل الأمريكيين، بضمنهم معارضيه، يعكف على خدمتهم وفقا للدستور. وما أن قرأ الرئيس ترامب السطور الأولى في خطابه، حتى أدرك مستمعوه أن رئيسهم سيأخذهم ومعهم العالم إلى مرحلة انعدام اليقين. خطاب تنصيب ترامب أكد مرة أخرى وبشكل قاطع أن الرئيس الجديد سيحكم كما وعد خلال حملته الانتخابية، وكما قال بعد انتخابه: رئيسا غير تقليدي ولا يتصرف وفقا للأعراف والتقاليد المعمول بها، منذ الحرب العالمية الثانية. وكعادته، بالغ ترامب في تشخيصه للمشاكل، وغالى في قدرته على حلها، ولم يكن منصفا لسجل سلفه الديمقراطي أوباما ولا لأسلافه الجمهوريين، وكلهم جلسوا قربه وهو يلقي خطابه الذي أدان فيه عمليا وبتعميم صارخ الطبقة السياسية في واشنطن بأكملها وكل ما حققته منذ الحرب العالمية الثانية. وكان من اللافت أن خطاب ترامب خلا من أية إشارة توافقية إلى منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون التي جلست على بعد أمتار منه، كما لم يحاول طمأنة أكثرية الأمريكيين الذين لم يصوتوا له، بل صوتوا لكلينتون بحوالي ثلاثة ملايين صوت أكثر منه.
مشهد سريالي
كان المشهد أمام مبنى الكونغرس سرياليا، يصعب تصديقه. رئيس أمريكي عمره 70 سنة، لم ينتخب في حياته لأي منصب آخر، وتفادى الخدمة العسكرية خلال حرب فيتنام، يلقي خطاب تنصيب لا ينسجم مع خطب التنصيب السابقة، لا بالشكل ولا بالمضمون، واعتبره البعض بمثابة عملية انقلابية ضد الطبقة الحاكمة في واشنطن. وبينما كان هذا الطقس السياسي الأمريكي الفريد من نوعه في العالم يتطور أمام الملايين في أمريكا والعالم، شهدت واشنطن والكثير من الولايات تظاهرات احتجاجية مناهضة للرئيس الجديد، منددة بمواقفه النافرة من المرأة والمهاجرين والمسلمين، حيث قام العشرات من الملثمين الفوضويين الذين ارتدوا ملابس سوداء إلى الانتقام من ترامب عبر تدمير وتكسير واجهات المصارف والمحلات التجارية. الرئيس الأمريكي الجديد له محبوه، ولكن له أعداؤه أيضا، ومن النادر أن تجد من يقف موقف الحياد تجاه هذه الظاهرة السياسية الفريدة.
الرئيس الثري تحدث كقائد شعبوي له توجهات تقدمية، مناهضا للعوملة من دون أن ينطق بها لسانه، وخاصة خلال وصفه للوضع الاقتصادي الداكن لشريحة هامة من الناخبين الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض. وعد الأمريكيين بنقل السلطة من واشنطن إلى الشعب الأمريكي، وكأن أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الذين حضروا حفل التنصيب في يوم بارد وغائم وممطر احيانا لم ينتخبوا في انتخابات نزيهة وشفافة. وقارن ترامب بين أقلية سياسية أوليغارشية من الحزبين غرست أقدامها في واشنطن وجنت ثروات البلاد في الوقت الذي كان فيه الشعب الأمريكي يدفع الثمن: السياسيون ازدهروا، بينما كانت الوظائف تهجر البلاد وفقا لترامب. وكما هي عادته كان ترامب سخيا بوعوده :الوظائف التي هجرت البلاد ستعود، والوظائف التي سرقتها الدول التي استغلت كرم الولايات المتحدة سترجع. ولكنه كعادته أيضا لم يطرح أي تصور عملي أو خطة قابلة للتطبيق لحل مشاكل البطالة، أو الهجرة غير الشرعية، أو تحقيق الانتصار في الحرب ضد الإرهاب، وتحديدا الخطر الذي يمثله تنظيم “الدول الإسلامية في العراق والشام” (داعش).
الولايات المتحدة كما وصفها ترامب في خطابه بدت أرضا يبابا كانت تنتظره منذ عقود كي يعيد اليها الحياة والماء والشجر الأخضر. تحدث ترامب عن الأمريكيين المحاصرين في فقر مدقع في المدن الأمريكية، وشبّه المصانع الصدئة والمغلقة في جميع أنحاء البلاد بشواهد القبور، وتحدث عن نظام تعليمي يحرم شباب أمريكا من تحصيل المعرفة، وتحدث عن وباء الجريمة والمخدرات الذي دمر وسلب حياة الكثير من الشباب، وصدم ترامب جمهوره حين قال “هذه المذبحة الأمريكية سوف تتوقف هنا، وسوف تتوقف الآن” وكأن آفة اجتماعية-ثقافية-اقتصادية بهذه الخطورة والتعقيد استغرق نموها عقود عديدة، يمكن أن ينهيها رئيس أمريكي بجرة قلم. وخلال وصفه لمعدلات الجريمة في البلاد، تجاهل ترامب الإحصائيات التي تبين أن معدلات الجريمة انحسرت بشكل ملحوظ في العقدين الماضيين، مقارنة بثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
أميركيون منسيون وثراء مفرط
واتهم ترامب النخب السياسية الأمريكية في العقود الماضية بتسليم ثروات البلاد إلى الدول الأخرى “التي اغنينا صناعاتها على حساب الصناعات الأمريكية، حين قمنا بتمويل بناء جيوش الدول الأخرى وسمحنا بهذا الانهيار المؤسف لقدراتنا العسكرية”. خلال حملته الانتخابية الطويلة جعل ترامب اتفاقيات التجارة الدولية مصدرا رئيسيا للعجز التجاري، متناسيا أن الولايات المتحدة وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفي ظل رؤساء جمهوريين وديمقراطيين، كانت تبشر وتدعو لاتفاقيات التجارة الحرة لأنها تخدم المستهلك الأمريكي والشركات الأمريكية وبالتالي مجمل الاقتصاد. أما حديث ترامب عن تعزيز القدرات العسكرية للجيوش الأخرى على حساب القوات العسكرية الأمريكية، فهذا موقف مبالغ فيه، لأن ما تنفقه واشنطن على قواعدها العسكرية في كوريا واليابان وألمانيا هو لردع كوريا الشمالية وصيانة قدرة حلف الناتو في أوروبا وهذه دول لها علاقات تجارية جيدة مع الولايات المتحدة. وإشارة ترامب إلى المساعدات العسكرية الأمريكية السخية هي في معظمها إلى دولتين في الشرق الأوسط، هما إسرائيل ومصر (وإلى حد أقل بكثير الأردن ولبنان). ولكن معظم الأموال المخصصة لهذه المساعدات تنفق على تصنيع الأسلحة في الولايات المتحدة أي توفير فرص العمالة للأمريكيين. أما ادعاءات ترامب عن ضعف القدرات العسكرية الأمريكية فهذا أمر مبالغ فيه جدا لأن الميزانية العسكرية الأمريكية تفوق جميع الميزانيات العسكرية للدول الثمانية ذات القدرات العسكرية التي تلي الولايات المتحدة. وبالغ ترامب بهجرة الوظائف الأمريكية إلى الأسواق الأخرى بسبب اتفاقيات التجارة الحرة، ولكن معظم الخبراء الاقتصاديين يقولون إن السبب الرئيسي لانحسار الوظائف في المصانع الأمريكية يعود إلى الأتمتة أي الاستخدام المتزايد للتشغيل الآلي ليقوم بعمليات التجميع والتصنيع التي كان يقوم بها العمال.
المفارقات في خطاب ترامب عديدة، فهو يتحدث عن حقوق العمال والمحرومين، أو “الأمريكيون المنسيون” ولكن بعض الوزراء الذين عينهم يملكون ثروات طائلة تصل في حالة بعضهم إلى بضعة مليارات دولار، وآخرون يملكون ثروات تقدر بمئات الملايين. ترامب يريد أن يكون شعبويا وبطلا للمحرومين، وعندما يحيط نفسه بالأثرياء، وبعضهم مثله كانوا يتفادون دفع الضرائب فإنه يفقد أي صدقية عندما يقول إنه آت من خارج المؤسسة التقليدية النخبوية اقتصاديا وماليا، لأنه في الواقع إبن هذه المؤسسة المدلل. ودعا ترامب إلى نبذ التعصب العرقي في أمريكا، وشجع على ضرورة تحدث الأمريكيين بعقول مفتوحة ودون خوف. ولكن سجل ترامب قبل وخلال الحملة الانتخابية وحتى بعد انتخابه تشير إلى العكس. كما بدا ذلك جليا في حملته الشرسة والمستمرة ضد الصحفيين ووسائل الاعلام، وهجماته الشخصية والعلنية ضد بعض الإعلاميين، وهي من بين ممارساته الممجوجة، ما أدت إلى تعميق مشاعر العداء للصحافة وحريات التعبير السائدة أصلا في صفوف بعض مؤيديه.
ترامب جاء لينقض لا ليكمل
لم يتطرق ترامب بالعمق في خطابه للقضايا الخارجية ولكنه قال إنه سيسعى لإقامة علاقات صداقة وحسن نية مع دول العالم، مضيفا “ولكننا سنفعل ذلك انطلاقا من حق جميع الدول بأن تضع مصالحها الخاصة في المرتبة الأولى. وفي إشارة ضمنية إلى أن ترامب لن يتدخل في شؤون الدول الأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية كما فعل أسلافه وإن بدرجات متفاوتة قال “اننا لا نسعى لفرض نمط حياتنا على أحد، ولكننا نريد أن نكون مثالا مشعا يتبعه الآخرون”. وأضاف الرئيس الجديد “سوف نعزز التحالفات القديمة، ونعمل على إقامة أخرى جديدة، وسوف نوحد العالم المتحضر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف، والذي سنمحيه كليا عن وجه الأرض”. وبما أن ترامب كان قد اتخذ مواقف سلبية من المسلمين خلال حملته الانتخابية، بما في ذلك حرمان المسلمين من دخول الولايات المتحدة، لن يكون من المستغرب أن يفسر موقفه من مكافحة “الإرهاب الإسلامي المتطرف” على أنه يعني أن “العالم المتحضر” قد لا يشمل دولا ذات أكثرية مسلمة. كما يمكن تفسير إشارة ترامب إلى إقامة تحالفات جديدة على أنها تعكس رغبته بإقامة علاقات خاصة مع روسيا.
إذا طبق ترامب وعوده والتزاماته العلنية التي أطلقها خلال حملته والتي انعكست في خطاب تنصيبه، فإن نتيجة سياسته ستكون بمثابة نقض شبه كامل لتركة أسلافه منذ الحرب العالمية الثانية. وإذا واصل ترامب تشجيع دول الاتحاد الأوروبي على الانسحاب منه كما فعلت بريطانيا من خلال وعده بتوقيع اتفاقيات تجارية معها، واذا واصل التشكيك بجدوى حلف الناتو، وإذا استثمر بصداقات جديدة مع الحكام الاوتوقراطيين والمتسلطين في الشرق الأوسط وخارجه معتمدا على فلاديمير بوتين كنموذج ومثال، وإذا قوّض مفاهيم التجارة الدولية الحرة التي آمن بها جميع أسلافه من ديمقراطيين وجمهوريين فإنه يكون عمليا قد قام بعمل انقلابي شامل ضد المسلمات والأعراف التي اعتمدتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية. هذه المخاوف حقيقية وخاصة في العواصم الأوروبية. وصول ترامب إلى البيت الأبيض هو مؤشر بأن أمريكا قد دخلت (وأدخلت العالم معها) في مرحلة انعدام اليقين، سوف تنقلب فيها الأعراف والمقاييس، ويمكن أن يتحول فيها الحلفاء التقليديين إلى منافسين، والخصوم التقليديين إلى أصدقاء. ويؤكد هذه الحقيقة الأمريكية الجديدة الجو الاحتفالي الواضح في موسكو بانتخاب ترامب ورحيل أوباما، والجو شبه الجنائزي في عواصم الاتحاد الأوروبي.