يواجه الرئيس ترامب تحديات صعبة في الشرق الأوسط في السنة الجديدة، أبرزها صعوبة، إن لم يكن استحالة، التوفيق بين إصراره على إعادة النظر بالاتفاق النووي مع إيران، ورفض الأخيرة القوي لهذا الطلب، وكيفية التعامل مع النفوذ الروسي في سوريا والنفوذ الإيراني في العراق في أعقاب هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” كقوة عسكرية منظمة.
وبينما كان ترامب يتحدث عن “صفقة القرن” الطموحة لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي في 2017، تبين مختلف المؤشرات أن السنة الجديدة ستشهد توترا أكثر في العلاقات بين واشنطن والسلطة الفلسطينية، بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل “وسحبها من طاولة المفاوضات” على حد قول الرئيس الأمريكي، ورفض القيادة الفلسطينية للخطة الأمريكية للسلام، والتي أكد الرئيس محمود عباس أنها تشترط عليهم التخلي عن القدس كعاصمة لهم والقبول ببلدة أبو ديس القريبة منها كبديل. واعتبر عباس أن صفقة القرن تحولت إلى “صفعة القرن” للفلسطينيين. ومن المتوقع في أي يوم، أن تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ تهديدها بتخفيض دعمها المالي السنوي لوكالة اغاثة اللاجئين الفلسطينيين بنسبة تصل إلى النصف. إذا لم تقبل السلطة الفلسطينية بشروط واشنطن ومقترحاتها بشأن المفاوضات مع إسرائيل، ليس من المستبعد أن تعلق واشنطن مساعداتها بشكل كامل.
المواجهة الآتية مع إيران
قرار الرئيس ترامب تجديد العمل بالاتفاق النووي مع إيران الذي ورثه من سلفه باراك أوباما أجلّ لاشهر قليلة المواجهة المتوقعة – والبعض يقول الحتمية- مع إيران، ومع الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق، الأمر الذي قلص من قلق ومخاوف فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى الصين وروسيا. الأطراف الأخرى المعنية بالاتفاق تشير إلى أن ترامب لم يقدم بعد سنة كاملة أية أدلة حسية تؤكد ادعاءاته بانتهاك إيران لبنود الاتفاق. تقييم أجهزة الاستخبارات الأمريكية كان ولا يزال يشير إلى إلتزام طهران إيران تقنيا ببنود الاتفاق. وجاء قرار ترامب بعد توصية من مختلف الأجهزة والمؤسسات المعنية بإيران، من أجهزة الاستخبارات إلى المسؤولين في مجلس الأمن القومي ووزارتي الدفاع والخارجية بأن مصلحة الأمن القومي الأمريكي تقضي باستمرار العمل بالاتفاق. وهناك رأي سائد في هذه الأجهزة، وفقا لما قالته مصادر شاركت في هذه المداولات في الأشهر الأخيرة، هو أن مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط تتطلب اهتماما خاصا بكيفية مواجهة النفوذ الإيراني السلبي وسياساتها التخريبية في المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان، وامتدادا إلى اليمن. يذكر أن هذا الموقف الأمريكي الذي كان متبلورا قبل حدوث التظاهرات الاحتجاجية في الأسابيع الماضية، حظي بصدقية جديدة، لأنه كان منسجما مع بعض مطالب المتظاهرين الإيرانيين الذين نددوا بالتدخل الإيراني العسكري المكلف ماليا وبشريا في حروب الوكالة في المنطقة، حيث انفقت إيران في السنوات الماضية مليارات الدولارات لتمويل عملياتها العسكرية وعمليات حزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية في سوريا لدعم نظام بشار الأسد، إضافة إلى دعم حركات إسلامية أخرى من حركة حماس في غزة إلى الحوثيين في اليمن.
وكان ترامب خلال حملته الانتخابية قد تعهد بالغاء الاتفاق والانسحاب منه، ولكنه اضطر لتجديده لثلاث مرات ولكن بتردد كبير. ويطالب الرئيس ترامب بإعادة النظر بالاتفاق لجهة توسيع عمليات التفتيش التي تقوم بها فرق الأمم المتحدة لتشمل منشآت عسكرية لا يشملها الاتفاق للتأكد من أن إيران لا تقوم فيها بتطوير قدراتها النووية، كما يريد فرض قيود على البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي ليس جزءا من الاتفاق النووي. ويعتبر ابقاء البرنامج الصاروخي خارج الاتفاق من بين التنازلات التي قبلت بها إدارة الرئيس السابق أوباما. ويؤكد المسؤولون الإيرانيون أنهم لن يقبلوا بإعادة التفاوض حول الاتفاق وأنهم لن يقبلوا بفتح قواعدهم العسكرية أو قبول أي قيود على برنامجهم الصاروخي. تجديد ترامب للاتفاق رافقه إعطاء الكونغرس والدول الأوروبية مهلة 120 يوما ليقوموا خلالها بتعديل الاتفاق. وأوضح المسؤولون الأمريكيون أنه اذا لم يتم تعديل الاتفاق فان ترامب سينسحب منه، ما يعني انهياره. ولكن في الوقت ذاته تقول مصادر رسمية أخرى في ايجازات خلفية أن وزيري الدفاع والخارجية، جيمس ماتيس وريكس تيلرسون، وكذلك مستشار الأمن القومي إتش آر ماكماستر، يعارضون انسحاب واشنطن من الاتفاق وتحمل مسؤولية انهياره بشكل أحادي الجانب.
قرار الرئيس ترامب فرض عقوبات جديدة ضد إيران خارج البرنامج النووي ربما وفر له فرصة لانقاذ ماء الوجه، ولكن هذه العقوبات المحدودة ليست كافية لاقناع ترامب بالتخلي عن طلبه الأساسي، أي تعديل الاتفاق. واستهدفت العقوبات الجديدة عددا من المؤسسات والشخصيات الإيرانية، ومن بينهم رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني، وهو مسؤول بارز تتهمه واشنطن بالوقوف وراء عمليات القمع التي استهدفت التظاهرات الاحتجاجية التي عمت المدن والبلدات الإيرانية في الأسابيع الأخيرة.
قبل أسبوعين نشرت مجموعة اليورو آسيا Eurasia Group وهي من أبرز المؤسسات الاستشارية المعنية بدراسة النزاعات والأخطار المتوقعة، تقريرا ذكرت فيه التحديات السياسية الدولية بالغة الخطورة، ورأت أن سنة 2018 هي سنة “الأزمة الضخمة غير المتوقعة”. وأضافت أنها قد تشهد أزمة بمستوى خطورة وبنفس نوع تلك التي هزت القطاع المالي الأمريكي والعالمي في 2008. ويضع التقرير الصين في طليعة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، خاصة وأن الصين تملأ الفراغ الذي خلقته إدارة الرئيس ترامب في شرق آسيا وانسحابها من اتفاقية الشراكة الاقتصادية لدول حوض المحيط الباسيفيكي. كما تواجه واشنطن احتمال حدوث خطأ في الحسابات يؤدي إلى نزاع مع كوريا الشمالية.
ويشير التقرير إلى أن الرئيس ترامب مصمم على مواجهة إيران، حيث من المتوقع أن يكون للتظاهرات التي شهدتها مضاعفات تتخطى حدود إيران. ويشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة ستزيد من دعمها للسعودية في مواجهتها الاقليمية مع إيران. ويقول إيان بريمر رئيس مجموعة اليورو آسيا “الخطر الأكبر بالنسبة لإيران هو أن التظاهرات الاحتجاجية جاءت في مناخ يتمتع به السعوديون بدعم قوي جدا من الولايات المتحدة التي تهدد بالتخلص من الاتفاق النووي، وهذا سيدفع بالمتشددين (الإيرانيين) لتعزيز سيطرتهم، وتكثيف القمع”. ويتوقع التقرير أن يواصل ترامب فرض العقوبات الجديدة ضد إيران وخاصة إذا استمرت في تجاربها الصاروخية ودعمها للتنظيمات الإرهابية في المنطقة وقمعها للتظاهرات. ولكن إيران كما يقول التقرير سوف ترد على الولايات المتحدة من خلال التحرش بسفنها الحربية في الخليج، مع ما يحمله ذلك من مجازفات وتصعيد عسكري، يشمل دول الخليج. وفي حال انهيار الاتفاق النووي، فان إيران قد تستأنف برنامجها النووي، الأمر الذي يعني أن “خطر قيام الولايات المتحدة، مع أو دون إسرائيل، بقصف إيران سوف يخيم من جديد على المنطقة ما سيؤدي إلى زيادة أسعار النفط”.
توترات على مختلف الجبهات
الهجوم الذي شنته جهة مجهولة حتى الآن ضد قاعدة حميميم الجوية التي تسيطر عليها روسيا في شمال سوريا، والذي أدى إلى تعطيل وتدمير عددا من الطائرات العسكرية وأحرج موسكو، لا يلغي حقيقة أن روسيا بعد أقل من ثلاث سنوات على تدخلها العسكري الجوي في سوريا قد أصبحت الطرف العسكري الخارجي المهيمن في سوريا. ولكن التطور العسكري الأخير واللافت، هو قرار الولايات المتحدة التسابق مع روسيا لتعزيز وجودها العسكري في شمال وشرق سوريا وتوسيع القواعد العسكرية التي تسيطر عليها واستخدامها لتدريب حلفائها المحليين في قوات سوريا الديمقراطية ومعظمهم من قوات الحماية الشعبية الكردية، والتي يقّدر عددها بثلاثين ألف مقاتل. وتستخدم القوات الأمريكية الخاصة قاعدة جوية في منطقة الطبقة قرب مدينة الرقة، إضافة إلى بناء قاعدة جديدة في التنف قرب الحدود السورية-العراقية-الأردنية لمنع إيران من إقامة جسر بري يصلها بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا.
هذا الوجود العسكري الأمريكي يواجه معارضة ليس فقط من نظام الأسد، وروسيا وإيران، بل أيضا من تركيا الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، حيث يهدد الرئيس التركي طيب رجب اردوغان “بخنق” هذه القوات “قبل أن تولد”. ويتهم أردوغان الولايات المتحدة بتنظيم وتسليح وتدريب جيشا إرهابيا لاستهداف تركيا. وتأمل الولايات المتحدة بأن تقوم هذه القوات المتحالفة معها بحراسة الحدود التركية –العراقية والأراضي الواقعة على ضفاف نهر الفرات والتي تفصل المنطقة التي يسيطر عليها جيش النظام السوري والأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
هذه التطورات العسكرية في سوريا في الأشهر الأخيرة وفي أعقاب طرد قوات تنظيم الدولة الإسلامية، قد تتلاحق بسرعة وتسير في طريق غير متوقع ويمكن أن يؤدي إلى “تحالف انتهازي” بين تركيا وإيران وروسيا والنظام السوري ضد الولايات المتحدة وحلفائها على الأرض. وإذا نفذ اردوغان تهديده بإرسال قواته لضرب العناصر التي تدربها الولايات المتحدة، عندها ستزداد احتمالات حدوث مواجهات غير مقصودة بين القوات الأمريكية والتركية في سوريا.
بدأت إدارة الرئيس ترامب السنة الجديدة في الشرق الأوسط دون أن يكون لديها تصورا واضحا لكيفية مواجهة إيران على مختلف الجبهات: الاتفاق النووي، وكيفية احتواء نفوذ طهران في العراق وخاصة في حال تعاون رئيس الوزراء حيدر العبادي مع الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في الانتخابات المقبلة. وليس من الواضح ما تريده الولايات المتحدة في المدى البعيد من وجودها العسكري في سوريا. ما يمكن قوله في مطلع السنة هو أنها مرشحة لأن تشهد توترات جديدة وربما أكثر بين الولايات المتحدة وإيران، وتوتر إضافي مع موسكو بشأن مستقبل سوريا، واضطرابات أكثر في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، وهذا من بين النتائج غير المقصودة وغير المتوقعة للحرب في سوريا. أما في ما يتعلق بما يسمى عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، ليس من المرجح أن تشهد السنة الجديدة، أي عملية أو أي سلام .