الرئيس ترامب محاصر في البيت الأبيض عملياً ورمزياً. الرئيس الذي يحب الجدران والأسوار والحواجز بين الدول والناس، يستطيع أن يراقب من نوافذ البيت الأبيض العمال وهم يبنون سوراً جديداً حول رمز الديموقراطية الأميركية، لحماية ساكنه من غضب المتظاهرين ضد تهديداته باستخدام القوات المسلحة، لقمع التظاهرات السلمية بمعظمها، والتي عمت البلاد في أعقاب جريمة قتل عنصرية أخرى، شاهدها الملايين حول العالم. الجماهير التي احاطت بالبيت الأبيض يوم الجمعة الماضي، وتخطت بعض حواجز الحماية، دفعت بالشرطة السرية إلى أخذ الرئيس الى الملجأ المحصن تحت المبنى كأجراء احترازي.
ولكن الحصار الأهم الذي يعاني منه ترامب قبل أشهر قليلة من انتخابات الرئاسة هو الحصار السياسي المفروض عليه منذ جريمة قتل جورج فلويد، الأميركي من أصل افريقي في مدينة منيابوليس بولاية مينيسوتا. بعد ظهر 25 مايو/أيار شاهد الملايين في الولايات المتحدة والعالم شرطياً أبيض، واضعاً ركبته اليسرى، ومعها ثقل جسده على عنق فلويد المكبل اليدين، والممد على الطريق، وساعده في ذلك ثلاثة من زملائه، بينما كان المارة يصورون الاغتيال البطيء، الذي استمر لأكثر من ثمانية دقائق، على خلفية مناشدات وصراخ الشهود العيان، لوقف خنق رجل لم يجد من يساعده أو يواسيه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، إلا أن ينادي أمه التي سبقته إلى المنية ليخبرها أنه يموت.
وللمرة الأولى يجد الرئيس ترامب نفسه محاصر من قبل أسلافه في البيت الابيض، ومن مرجعيات دينية في واشنطن وخارجها، ومن أبرز المسؤولين السابقين، الذي خدموا معه في السنوات الماضية من مدنيين وعسكريين، ومن المجتمع المدني بشكل عام، وحتى من بعض المشرعين الجمهوريين. في الأيام الماضية امتنع العديد من المشرعين الجمهوريين في الكونجرس عن الدفاع عن سلوك ومواقف ترامب منذ مقتل فلويد، والتي نضحت بالعنصرية، عكست ميوله الأوتوقراطية.
ما رآه ترامب في الحركة الاحتجاجية، التي شهدتها المدن الأميركية، هو أعمال الشغب والنهب، التي قامت بها عناصر إجرامية، وفئات يمينية متشددة، تسعى إلى تأجيج الاحقاد العنصرية، وعناصر فوضوية ويسارية متطرفة تستغل هذه الظواهر للتخريب والانتقام من النظام الرأسمالي. معظم التقارير الصحفية الميدانية وتقويم الخبراء تركزت على نشاط عناصر المتطرفين والعنصريين البيض، بعكس الرئيس ترامب ومساعديه الذين اتهموا جماعة معادية للفاشية بأنها مسؤولة عن أعمال الشغب، لاستغلال ذلك في المعركة الانتخابية.
ترامب لم ير في جريمة قتل جورج فلويد، آخر تعبير عن عنصرية النظام الجنائي في الولايات المتحدة، والقسوة التي تمارسها مراكز الشرطة في البلاد ضد الشباب السود، كما لم ير في الحركة الاحتجاجية تعبيراً واسعاً عن وجود شريحة واسعة من الشباب السود وغيرهم من الذين ينتمون إلى الأقليات الأخرى من العاطلين عن العمل، أو الذين يضطرون للعمل في وظائف هي أقل بكثير من مهاراتهم ونسبة تحصيلهم العلمي.
ساهمت تصريحات وتغريدات ترامب على تويتر في تأجيج الأحقاد العنصرية، حين استخدم صيغة عنصرية تعود إلى ستينات القرن الماضي لتهديد المتظاهرين: “عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار”. وفي حوار هاتفي مع عدد من حكام الولايات، وصف ترامب المتظاهرين “بالإرهابيين” وأنّب الرئيس بعض حكام الولايات من الديموقراطيين لأنهم لم يستخدموا القوة بشكل كاف لقمع التظاهرات، واتهمهم “بالضعف” و”الغباء”، لأنهم لم ينجحوا في ترهيب المتظاهرين، وأخفقوا في فرض “الهيمنة” على مدنهم. وفي تطور لافت ومقلق، هدد ترامب بنشر “القوات المسلحة” في شوارع المدن الأميركية لوقف التظاهرات، إذا استمر الحكام في اخفاقهم بإحلال الأمن والنظام.
تهديد ترامب جاء في حضور وزير الدفاع مارك إسبر، ورئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة مارك ميلي. هناك قوانين واضحة تمنع الرئيس من نشر القوات الاميركية المسلحة داخل البلاد لحفظ الأمن، إلا في حال طلب حاكم الولاية مثل هذه المساعدة، أو في حال أقرها الكونجرس. يوم الاثنين الماضي، وقبل قيام الشرطة وعناصر من الحرس الوطني باستخدام القوة لتفريق تظاهرة سلمية حول البيت الابيض، وصف ترامب نفسه بأنه “رئيس القانون والأمن”. هذه التهديدات والادعاءات عرضّت ترامب للاتهامات بأنه يتصرف بطريقة تعسفية وغير دستورية، وصفها البعض بالفاشية. من المعروف أن ترامب يميل في تصريحاته العلنية إلى المبالغة والمغالاة والتباهي، واستخدام تعابير من خارج القاموس السياسي التقليدي، وهذا ما يفسر تهديدات من نوع “تدمير” كوريا الشمالية، أو استخدام “عنف غير مألوف”. هذا جعل بعض المحللين يشككون بقدرته أو رغبته في تطبيق مثل هذه التهديدات.
ولكن ترامب الذي يفتقد إلى الخبرة السياسية، والذي تعكس تصرفاته نرجسية مفرطة، وشخصية غير واثقة من نفسها، يحاول التعويض عن ذلك بالإيحاء بأنه قائد قوي وحاسم. وتبين تصرفاته خلال الأسبوع الماضي أنه قد يجد نفسه مضطراً لاتخاذ اجراءات متشددة ومتطرفة لصيانة صورته المزيفة كرئيس قوي، خاصة وأن استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت انحساراً ملحوظاً في شعبيته في هذه المرحلة الحساسة في المعركة الانتخابية. وكان ترامب قد تعرض إلى سخرية واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن كشفت تقارير صحفية أن رجال الشرطة السرية اصطحبوه الى الملجأ المحصن، ما أدى الى شيوع هاشتاج “#BunkerBoy” “صبي الملجأ”.
ولكن ما فعله ترامب يوم الاثنين الماضي، لتخطي مضاعفات “صبي الملجأ” على سمعته، ربما كان التحول المفصلي في الأزمة السياسية-الاجتماعية، التي فجرتها جريمة قتل جورج فلويد. بعد خطابه المدّوي في حديقة الزهور، وتهديده بنشر القوات المسلحة في المدن، قرر ترامب أن يخرج من البيت الأبيض، ويمشي مسافة قصيرة محاذية لحديقة لافاييت، قبالة البيت الأبيض، باتجاه كنيسة القديس يوحنا الأسقفية، التي يصلي فيها عادة الرؤساء الأميركيين. لم يكن هدف ترامب دخول الكنيسة للصلاة، بل فقط التقاط صورة تذكارية، لأهداف سياسية وانتخابية. ولكن مثل هذه “المسيرة” القصيرة من البيت الابيض للكنيسة لم تكن ممكنة بوجود المتظاهرين المسالمين، ولذلك اقتضى فك التظاهرة بسرعة وبقسوة. وهذا ما حدث. وهذا ما شاهده ملايين الأميركيين خلال البث المباشر لوقائع إطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية وغازات أخرى، قال صحفيون وشهود عيان أنها تختلف عن الغاز المسيل للدموع.
وبعد تلاشي غيوم الغازات، مشى ترامب المنتصر متقدما بعض أعضاء حكومته مثل وزيري الدفاع مارك إسبر، ووليام بار وزير العدل، ومستشاره لشؤون الأمن القومي روبرت أوبرايان، ورئيس هيئة الأركان الجنرال ميلي الذي كان يرتدي زيه العسكري الميداني، ونجلة الرئيس ايفانكا وزوجها جاريد كوشنر، وغيرهم من المساعدين. وبدا ترامب في الشريط – الذي استخدمته لاحقاً حملته الانتخابية – وهو متقدم على مساعديه ببضعة أمتار وكأنه زعيم سلطوي يحكم دولة غير ديموقراطية.
بعد وصوله إلى الكنيسة أخرجت ايفانكا ترامب من حقيبة يد زرقاء – الذي قدرت الصحف بأن ثمنها يبلغ 1500 دولار- نسخة من الانجيل، حملها ترامب، ورفعها – رأسا على عقب – بينما كان المصورون يلتقطون صوره. وحين سأله صحفي عما إذا كان الانجيل هو نسخته الخاصة، أجاب ترامب “أنه انجيل”. ولكي يضمن ترامب أنه ليس الممثل الوحيد في هذه المسرحية السافرة، طلب من بعض مساعديه الوقوف إلى جانبه لالتقاط صورة جماعية. وبعد ذلك، عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعد أن غنم وسلم.
مساء ذلك اليوم شاهد الأميركيون طائرة مروحية، تحلق على علو منخفض وخطير، بين شارعين في المدينة لترهيب المتظاهرين. وللمرة الأولى، قامت السلطات الفدرالية بنشر عناصر أمنية مقنعة في أماكن عديدة في واشنطن، من بينها أمام النصب التذكاري للرئيس ابراهام لينكولن، دون أن يضعوا على بذاتها أي اشارت حول هويتها، ما عزز الشكوك بأنها عناصر تابعة للشرطة السرية للبيت الأبيض. وهذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها مثل هذه العناصر الأمنية، الأمر الذي دفع ببعض المعلقين لوصفها بأنها جهاز استخباراتي سري، مماثل لأجهزة الاستخبارات السرية في الدول غير الديموقراطية.
هذه المشاهد أدت إلى تسونامي من التنديدات والانتقادات، التي زادت من تضييق الحصار حول ترامب، وزجت المؤسسة العسكرية في أزمة. الوزير مارك إسبر اضطر إلى اتخاذ موقف متعارض مع ترامب، حين أعلن عن معارضته لنشر القوات المسلحة لقمع التظاهرات، وهو موقف عرّضه لتأنيب من الرئيس. الجنرال ميلي أصدر تعميماً لأفراد القوات المسلحة، ليذكرهم فيه أن ولائهم هو للدستور فقط. ولكن هذه المواقف لم تمنع وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية جيمس ميلر من تقديم استقالته، والتي تضمنت نقداً قاسياً للوزير إسبر، لأنه لم يعترض على استخدام ترامب للقوة ضد المتظاهرين، ولأنه دعم هذا الاجراء.
وسارع اساقفة الكنيستين الاسقفية والكاثوليكية في واشنطن لانتقاد ترامب، لسلوكه المشين واستغلاله للكنيسة والدين لمكاسب شخصية، واستخدموا عبارات قوية أظهرت عمق استيائهم من طريقة تعامله مع المتظاهرين. وكان من اللافت أن القس بات روبرتسون، وهو شخصية مسيحية متشددة، ويؤيد عادة سياسات ترامب، وجّه انتقادات لاذعة للرئيس، وقال إن مواقف ترامب من المتظاهرين غير منصفة، وحضه على وقف ممارساته.
ولكن أهم وأقسى الانتقادات جاءت من بعض المسؤولين السابقين الذين خدموا في إدارة ترامب، ومن العسكريين الأميركيين المتقاعدين. يوم الأربعاء، أنهى وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس صمته الطويل، منذ استقالته من الحكومة في 2018، ووجه نقداً لاذعاً للرئيس جاء فيه “دونالد ترامب هو أول رئيس خلال حياتي لا يعمل على توحيد الشعب الاميركي، وهو حتى لا يحاول أن يظهر كذلك. لا بل على العكس، هو يحاول أن يقسمنا. ما نراه هو نتائج ثلاثة سنوات من هذه الجهود المقصودة. ما نراه هو نتائج قيادة غير ناضجة”.
رئيس هيئة الأركان العسكرية السابق الأميرال مايك مالن، نشر مقالا بعنوان “لا أستطيع أن أبقى صامتا”، جاء فيه أنه شعر بالقرف عندما شاهد كيفية قمع التظاهرات، التي مهدت لزيارة ترامب للكنيسة، والتي وصفها بالمسرحية. وقال مالن أن ما فعله ترامب “يظهر احتقاره لحقوق المتظاهرين المسالمين في هذه البلاد”، وحّذر من تسييس المؤسسة العسكرية، ومن خطر استخدام القوات المسلحة لحفظ الأمن.
ووجه الجنرال المتقاعد جون ألن، القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان والذي نسق الحرب الدولية ضد تنظيم داعش، انتقادات لاذعة لترامب، بسبب تهديده باستخدام القوات المسلحة لقمع التظاهرات ولصوره أمام الكنيسة، ونبّه الأميركيين أن هذه الممارسات ” قد تكون مؤشراً لبداية النهاية للتجربة الأميركية” الديموقراطية. وأضاف ” دونالد ترامب ليس متديناً، ولا يحتاج للدين، وهو لا يهتم بالمؤمنين إلا إذا خدموا أهدافه السياسية “، وقال إن ترامب أخفق في إظهار أي من المزايا القيادية التي تحتاجها البلاد في هذه المرحلة الحرجة.
الرئيس الأسبق جورج بوش أصدر بياناً حض فيه على ضرورة وقف الأساليب المتشددة التي تستخدمها الشرطة ضد الشباب السود، وحض على ضرورة احترام حق المواطنين بالتظاهر، وتابع في نقد ضمني لترامب “أولئك الذين يحاولون اخراس هذه الاصوات لا يفهمون معنى أميركا، أو كيف يمكن أن تصبح مكانا أفضل”. وخلال الأسبوع الماضي امتنع العديد من الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ عن الدفاع عن الرئيس ترامب، وخاصة تهديداته باستخدام المزيد من القوة لقمع التظاهرات، ومسرحيته أمام الكنيسة يوم الاثنين.
الرئيس ترامب هو من أكبر المساهمين في الحصار المفروض عليه في البيت الأبيض. مواقفه وتهديداته وقراراته الغريبة، تؤكد مخاوف العديد من المحللين، من أن الفترة الفاصلة بيننا وبين الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل من المرجح أن تكون حافلة بإجراءات خطيرة، وربما مخالفة للدستور، لأن ترامب أكد عمليا منذ جريمة قتل جورج فلويد أنه مستعد لأن يفعل أي شيء ممكن تقريباً للبقاء في البيت الأبيض، على الأقل لأربعة سنوات إضافية. الجنرال جون آلن لم يبالغ حين حذّر من أن ما نراه الآن قد يكون مؤشرا لبداية النهاية للتجربة الأميركية الديموقراطية.