ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
حتى بالمقاييس الغريبة والنافرة وأحيانا السريالية التي تميزت بها ولاية الرئيس دونالد ترامب حتى الآن، فإن الأسبوع المنصرم بدا نافرا ومقلقا بامتياز. وبما أن كل شيء يبدأ باللغة، فقد صعّد ترامب من لغته ضد خصومه – وهو في الواقع يعاملهم كأعداء وليس كخصوم سياسيين- قبل أقل من أسبوعين من الانتخابات النصفية في السادس من تشرين الثاني المقبل، لتعبئة قاعدته الشعبية في معركته الضارية للحفاظ على سيطرة حزبه على مجلسي الكونغرس، ودون أن يبالي بالأعراف والتقاليد السياسية المقبولة.
وفي خطبه الانتخابية الأخيرة، تخلى ترامب كليا تقريبا عن الحديث عن القضايا التي تطرح عادة في الانتخابات والتي تهم المواطنين: الاقتصاد، العمالة والبطالة، الضمانات الصحية والاجتماعية، نفقات التعليم، وأوضاع البنية التحتية وغيرها، واستبدل ذلك بالتركيز على القضايا الثقافية والاجتماعية وغيرها من المسائل الخلافية أو التي هي في صلب الاستقطابات الإيديولوجية، وتعكس مخاوف وحتى احقاد بعض الناخبين. وحوّل ترامب خصومه الديمقراطيين إلى “رعاع” يريدون تحويل أمريكا إلى أرض سائبة.
الكشف عن إرسال أكثر من عشرة عبوات ناسفة إلى مسؤولين ديمقراطيين بارزين سابقين وحاليين من بينهم الرئيس السابق باراك أوباما ووزير الخارجية والمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون ومدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق (سي آي ايه) جون برينن، ووزير العدل السابق إريك هولدر، والنائبة ماكسين واترز، ومكاتب شبكة سي أن أن في مدينة نيويورك، أحدث هزة في الجسم السياسي في البلاد، وأدى إلى تفاقم حدة السجال الانتخابي، واختباء “الرعاع” الديمقراطيين الفوضيين، و”القوميين” الجمهوريين المتشددين وراء متاريس عالية لمواصلة المناوشات حتى ساعة الحسم. جميع الذين تلقوا هذه الرسائل الملغومة، معروفون بانتقاداتهم لترامب، حيث يرد عليها بما هو أقوى وأشرس.
انتخابات نصفية استثنائية
تقليديا يكون الإقبال على الانتخابات النصفية ضئيلا مقارنة بالانتخابات الرئاسية، ومنذ الحرب العالمية الثانية يخسر الحزب الحاكم المقاعد في مجلسي الكونغرس أو يخسر أكثريته في أحدهما أو حتى المجلسين، باستثناء دورتين انتخابيتين. ولكن الانتخابات الحالية تحظى بأهمية خاصة، نظرا لوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض وبسبب سياساته التي قسمّت البلاد وخلقت استقطابات غير معهودة منذ الحرب العالمية الثانية. ونظرا للتحقيق القضائي الذي يقوم به المحقق الخاص روبرت مولر بالتدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأخيرة واحتمال ضلوع مسؤولين في حملة ترامب بهذا التدخل، ونظرا لوجود احتمال – نظري على الأقل – بمحاكمة ترامب في حال سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب (والتي تشمل صلاحياته محاكمة الرئيس)، وهو ما ترجحه استطلاعات الرأي، فقد حوّل ترامب هذه الانتخابات إلى معركة حياة أو موت بالنسبة لمستقبله السياسي. هذه الأهمية انعكست على قرار الحزبين إنفاق 150 مليون دولار على الدعايات والنشاطات الانتخابية خلال آخر أسبوعين قبل موعد الانتخابات. وكما هي العادة في الانتخابات النصفية، سوف يصوت الناخبون على جميع أعضاء مجلس النواب وعددهم 435 نائبا، وعلى ثلث أعضاء مجلس الشيوخ، أي 33 من أصل مئة، وعلى 33 حاكما. استطلاعات الرأي لا تزال ترجح فوز الديمقراطيين بأكثرية بسيطة في مجلس النواب، ولكن الصورة معقدة أكثر ومبهمة بشأن مستقبل مجلس الشيوخ، حيث يواجه عدد محدود من مرشحي الحزبين معارك صعبة ومتقاربة، ما يعني أن سيطرة أي حزب على هذا المجلس ستبقى محدودة للغاية. (الأكثرية الجمهورية الراهنة، هي أكثرية من صوت واحد فقط).
سيطرة الحزب الديمقراطي على مجلس النواب على سبيل المثال، تعني رئاسة الحزب للجان المختصة في المجلس: لجان الاعتمادات المالية، الدفاع، الخارجية، الاستخبارات، والقضاء والتي يفرض الحزب من خلالها برنامجه وأولوياته. ويحق لرؤساء اللجان استدعاء أي مسؤول أمريكي (باستثناء الرئيس ونائبه) للمثول أمامهم في جلسات استماع. الرئيس ترامب الذي يميل إلى السرية كما يتبين من التخلي عن تقليد الإيجاز الصحفي اليومي في البيت الأبيض، أو رفض ترامب الإفصاح عن ما دار بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة هيلسينكي، والذي لا يزال يرفض الكشف عن سجلاته الضرائبية، سوف يجد نفسه في مواجهة شاملة وعلى مختلف الجبهات مع الأكثرية الديمقراطية. وهذا ما يفسر شراسته وعدم تردده في اعتماد سياسة “الأرض المحروقة” في المعركة الانتخابية.
رعاع ومجرمون وشرق أوسطيين
منذ أن بدأ دونالد ترامب حملته الانتخابية أدخل على القاموس السياسي الأمريكي كلمات وعبارات جديدة ونابية بمعظمها. خصومه السياسيين “أشرار”، والصحفيون الذين ينتقدونه هم “أعداء الشعب”. ومنذ التظاهرات التي عمت واشنطن خلال معركة التصديق على القاضي بريت كافانو لعضوية المحكمة العليا والتي أثارت عاصفة من الجدل النابي والعدائي، بين الحزبين وأنصارهما، بدأ ترامب – ولحقه الجمهوريون – بوصف الحزب الديمقراطي وممثليه في الكونغرس “بالرعاع”. وصعّد ترامب من لغته النابية في الأيام الماضية، مع اقتراب “قافلة” من بضعة آلاف لاجيء من غواتيمالا عبروا حدود المكسيك في طريقهم لطلب اللجوء في الولايات المتحدة. وركز ترامب في مهرجاناته الانتخابية على اللاجئين الذي يعتزمون “الهجوم” على أمريكا، وقال إن اللاجئين ومعظمهم من العائلات، تشمل عناصر “مجرمة” وعناصر “غير معروفة من الشرق الأوسط،” في تلميح ممجوج إلى وجود عناصر إسلامية إرهابية في طريقها إلى الولايات المتحدة. وطبعا لم يقدم ترامب أي دليل على هذا الخطر الخيالي، كما لم يؤكده أي مسؤول أمريكي، لا بل أن ترامب لاحقا اعترف للصحفيين أنه لا يملك أي دليل على ذلك. ولاحقا تبين أن “مصدر” كلامه هو معلق أثار هذه المخاوف خلال برنامج بثته شبكة فوكس نيوز. محاولة ترامب تخويف أنصاره، ذّكرت المراقبين بأن إحدى أكبر أكاذيب ترامب قبل انتخابه، كانت تلك التي ادعى فيها أنه في أعقاب هجمات أيلول- سبتمبر الإرهابية احتفل الآف العرب-الأمريكيين، في ولاية نيوجيرسي المحاذية لولاية نيويورك بالهجمات، وهي كذبة كبيرة فندتها كبريات الصحف الأمريكية آنذاك. وخلال حديثه عن الانتخابات والمدن الأمريكية التي توفر الملجأ والحماية للاجئين، يدعي ترامب أن هناك أعمال شغب في ولاية كاليفورنيا احتجاجا على ذلك. المشكلة أنه لم يتم تسجيل أي أعمال شغب في الولاية. كما اطلق تصريحا فاجأ به قيادات حزبه في الكونغرس حين قال في مهرجان انتخابي إن الكونغرس سيصوت بسرعة على قراره تخفيض ضرائب الطبقة الوسطى بعشرة بالمئة. ولكن هناك عقبات هامة أمام ذلك، من بينها أن الكونغرس في إجازة، كما أن أي مشروع قرار بتخفيض الضرائب يتطلب مشاورات طويلة وجلسات استماع ونصوص تعدل أكثر من مرة، وكل ذلك غير متوفر. وحينما احتاج إلى تبرير هذه الادعاءات قام بتكرارها أو تغيير الموضوع. ونظرا لأن رجل الأعمال الليبرالي جورج سوروس هو مادة دسمة لنظريات المؤامرة التي يعشقها أنصار ترامب من المتشددين اليمينيين، المح ترامب إلى أن سوروس هو من ممولي قافلة اللاجئين، وطبعا دون تقديم أي دليل. هذه اللغة الملغومة والعبارات السامة التي أدخلها ترامب على الحياة السياسية في البلاد، يعتمدها الآن عدد متزايد من المرشحين الجمهوريين الذين لا يبالون بالحقائق، مادام يساهم تضليلهم هذا في تعبئة قاعدتهم الانتخابية. وساهم ترامب في تعميق الاستقطابات في البلاد حين اكتشف في الأيام الماضية أنه “قومي”، وهي كلمة لا يستخدمها عادة السياسيون الأمريكيون نظرا لأنها مثقلة بمعان شوفينية وحتى عنصرية، ولذلك فإنهم يستخدمون عادة كلمة “الوطنية” أي حب المواطن لبلاده بغض النظر عن خلفيته الإثنية. وهناك نقاش واسع بين قيادات الحزب الديمقراطي حول كيفية التعامل مع هجمات، وأيضا أكاذيب الرئيس ترامب، بين من يدعو إلى تجنب الرد عليها وعدم الانحدار إلى هذا المستوى، وبين من يدعو إلى الرد بالمثل.
جاء الكشف عن العبوات الناسفة – وحتى الآن التحقيقات مستمرة للتأكد نهائيا من نوعيتها، وهوية الفاعل او الفاعلين- في هذا الجو المتوتر أصلا. وللمرة الأولى منذ انتخابه، اضطر ترامب إلى تعديل لهجته في أول رد فعل له على العبوات الناسفة، التي وصفها “بالأعمال التي تثير الاشمئزاز”، ودعا في كلمة في البيت الأبيض إلى الوحدة وبعث “رسالة واضحة وقوية ولا لبس فيها أن مثل هذه الأعمال أو التهديدات بممارسة العنف السياسي من أي نوع يجب ألا يكون لها وجود في الولايات المتحدة”. المفارقة هي أن ترامب كان قبل أسبوع وخلال مهرجان انتخابي أثنى على عضو في مجلس النواب كان قد قام خلال معركته الانتخابية بالاعتداء ضربا على صحفي كان يغطي حملته (وأدانه القضاء). ولكن ذلك لم يردع ترامب من القول إنه معجب به لأنه ضرب صحفيا. وكان ترامب في السابق وفي أكثر من مناسبة يحرض أنصاره على ترهيب وحتى ضرب الصحفيين.
الاعتدال البسيط الذي اعتمده ترامب فور الكشف عن العبوات الناسفة، انتهى خلال أقل من 24 ساعة، حيث استأنف صباح الخميس هجماته المعهودة ضد وسائل الاعلام وحمّلها في تغريدة صباحية المسؤولية عن حالة “الغضب” التي تعم البلاد، وادعى أن الأخبار الملفقة أصبحت “سيئة وحاقدة لدرجة يصعب وصفها”، متناسيا أن إحدى العبوات قد أرسلت إلى صحفيي شبكة سي أن أن.
وبغض النظر عما يمكن أن تؤدي إليه نتائج التحقيق في قضية العبوات، وهي تحقيقات تشمل عددا من الولايات، مع التركيز على ولاية فلوريدا، إلا أن ما هو مؤكد أن حدة وشراسة المعركة سوف تستمر وتستعر ولكن ليس وفق معايير ومقاييس مقبولة من الطرفين. الأجواء المسمومة مرشحة للاستمرار بغض النظر عن نتائج الانتخابات.