ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
أقل ما يمكن قوله في المشهد السياسي الراهن في أمريكا هو غرابته وسرياليته، إن لم نقل عبثيته. فها هو الرئيس المنتخب دونالد ترامب، وقبل ساعات قليلة من اجتماعه المفصلي صباح الجمعة مع قادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية ليتلقى منهم تقريرهم حول أعمال القرصنة الالكترونية الروسية بما فيها التدخل السافر في انتخابات الرئاسة، يخرج علينا من برجه العالي في نيويورك بتغريداته الصباحية ليؤكد لنا من جديد استحالة تخليه عن نرجسيته. الرئيس المنتخب لم يتحدث عن توقعاته من اللقاء، أو الجدل الحاد والخطير الناجم عن الحرب التي يشنها على أجهزة الاستخبارات، بل سخر من أرنولد شوارزنيغر الممثل وحاكم ولاية كاليفورنيا السابق الذي خلفه كمدير لبرنامجه السابق “سليبرتي أبرينتس” في تلفزيون الواقع لأن نسبة المشاهدين تدنت بعد رحيل ترامب. وكعادته،استخدم ترامب تويتر واحتفل بنفسه وهو يهين صديقه القديم: “لقد وصلت التصنيفات، وأرنولد شوارزنيغر أما غرق أو دُمر بالمقارنة مع ماكينة التصنيفات: دونالد جون ترامب”. الرئيس المنتخب يصف نفسه بماكينة التصنيفات، وهو يقصد ربما ملك التصنيفات التلفزيونية. ترامب يؤكد لنا مرة أخرى أن أسوأ أنواع النرجسية هو التلذذ بمعاناة أو متاعب الآخرين. اللافت هو أن شوارزنيغر اختار أن يرد بالحكمة والموعظة في شريط فيديو ذكرّه فيه بفقرة نبيلة وبليغة من خطاب قسم اليمين للرئيس ابراهام لينكولن حول الوفاق والاخوة والمحبة، وأنهى كلامه بالقول:” لا تنسى أن الحملة قد انتهت، والانتخابات انتهت، ونحن لسنا أعداء”.
تغريد صباحي منفرد
كانت هذه تغريدة من سلسلة متلاحقة من التغريدات التي أطلقها ترامب صباح الجمعة حول قضايا مختلفة وإن كانت بمعظمها تتمحور حول شخصه: اتهم ترامب “الإعلام الكاذب” لأنه لا يقول إن الأموال التي ستنفق على بناء الجدار الكبير على الحدود مع المكسيك بسرعة، سوف تأتي في نهاية المطاف من المكسيك. وكان ترامب يدعي خلال حملته أن المكسيك، وليس أمريكا من ستمول بناء الجدار، إلاّ أنه يقول الآن إن أمريكا سوف تدفع أولا ثم ترغم المكسيك على الدفع لاحقا. وطبعا كالعادة يتهم الإعلام بتضليل الأمريكيين. بعد ذلك أطلق ترامب تغريدة أخرى قارن فيها بسخرية فتور أنصار منافسته هيلاري كلينتون، مع حماس أنصاره. لماذا هذه التغريدة في هذا الوقت؟ لا أحد يعرف. في التغريدة التالية توقع ترامب أن يكون احتفال تنصيبه رئيسا “احتفالا ضخما”. هذه حصيلة تغريدات الرئيس المنتخب ترامب صباح أحد أهم الأيام التي تلت انتخابه. وأهم ما فيه هو ما غاب عنه، أي الإيجاز الاستخباراتي الذي كان سيتلقاه من أبرز قادة أجهزة الاستخبارات. أغلب الظن هو أن هذا الوابل التغريدي من ترامب كان محاولة مقصودة لإبعاد الاهتمام الإعلامي عن الاجتماع وتغيير الموضوع كليا، وارغام وسائل الإعلام كما يفعل دائما وبنجاح كبير على أن تهتم وتغطي “القضايا” والمواضيع التي يريدها هو أن تغطيها. ولكن هذا الموضوع الملح، عاد ليفرض نفسه على ترامب في اتصال هاتفي مقتضب أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز، بعد تغريداته وأكد فيه أن تركيز أجهزة الاستخبارات والديمقراطيين وغيرهم على القرصنة الالكترونية الروسية وتدخل موسكو في الانتخابات هو مجرد “حملة تشويه سياسية” ضده.
ضحايا ترامب
ومنذ انتخابه، يقوم ترامب بحملة منظمة ضد أجهزة الاستخبارات، بسبب اتهاماتها لروسيا بالتدخل في الانتخابات ويسعى من خلالها، ليس فقط للتشكيك بجدوى وصحة تقييماتها الاستخباراتية، ولكن الأخطر من ذلك التشكيك بصدقيتها ونزاهتها. والهدف الثاني الذي يتعرض لتغريدات ترامب اللاذعة هو الاعلام الأمريكي التقليدي –كبريات الصحف، وشبكات التلفزيون الهامة- والذي يتهمه ترامب بالتلفيق وتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام، ولكن دون أن يقدم أي دليل على ذلك، حيث نجح إلى حد كبير في وضع هذا الاعلام في موقع دفاعي، وإلى تعميق شكوك العديد من الأمريكيين في وسائل الاعلام التي تملكها شركات كبيرة، كما تبين استطلاعات الرأي. ويبرر ترامب ومساعدوه مواقفهم العدائية تجاه اجهزة الاستخبارات ووسائل الاعلام بالقول إن الرئيس المنتخب يتعرض لانتقادات غير مشروعة نابعة من دوافع سياسية محضة، وتهدف فقط إلى نزع غطاء الشرعية عن انتخابه. حملة ترامب ضد الاعلام الأمريكي أرغمت بعض الصحافيين والمحررين على تفادي اتهام الرئيس المنتخب بممارسة الكذب، حتى في الحالات التي يفعل فيها ذلك بكل وضوح. وهناك جدل بين الإعلاميين حول كيفية التعامل مع ترامب خلال السنوات الأربعة المقبلة التي ستكون حافلة “بالإهانات الموجهة من المكتب البيضاوي، وهجمات التويتر، والاستخفاف بالحقائق” وفقا لما كتبه الصحافي الأمريكي جون آفلون قبل أيام. وهذه هي المرة الأولى التي يجد فيها رئيس أمريكي نفسه في مواجهة مفتوحة وشرسة مع الاعلام الأمريكي منذ عهد الرئيس ريتشارد نيكسون الذي كانت لديه “قائمة أعداء” من الصحافيين الذين كانوا ينتقدونه. ولكن نيكسون حتى في أحلك أيامه خلال فضيحة ووترغيت لم يشنّ حملات قاسية ومهينة ضد وسائل الاعلام كما يفعل ترامب الآن.
وقبل أن يدخل ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ بتأزيم علاقاته مع بعض أقطاب الكونغرس من الحزبين. ومن المتوقع أن تؤدي جلسات الاستماع التي تنظمها لجنة القوات المسلحة التي يرأسها السيناتور جون ماكين بالقرصنة الالكترونية الروسية إلى تأزيم العلاقات بينه وبين ترامب الذي لا يزال يبريء روسيا من هذه التهم. كما أن ترامب بدأ في هذا الوقت المبكر بتوجيه الإهانات الشخصية لزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور تشارلز شومر، الذي وصفه ترامب “بالقائد المهرج”.
يعزو البعض رفض ترامب الاتهامات الموجهة إلى روسيا إلى انعدام خبرته السياسية، بينما يعزوه آخرون إلى إعجابه المفرط بالقادة الأقوياء مثل الرئيس بوتين. ولكن هناك من يرى أن هناك دوافع خفية مرتبطة بطبيعة الصفقات الاقتصادية لترامب والتي بنى عليها إمبراطوريته المالية. ومؤخرا تساءلت افتتاحية لصحيفة واشنطن بوست عن هذه الدوافع حين أشارت إلى احتمال حصول ترامب على قروض أو التورط في صفقات مع أثرياء ورجال أعمال روس، لا يريد ترامب الإفصاح عنها، وهذا ما يفسر رفضه الكشف عن سجلاته الضرائبية. كما تساءلت الصحيفة عما إذا كانت هناك اتصالات سرية بين ترامب وبوتين وممثلين عن الرئيس الروسي. وخلصت الصحيفة إلى القول “نريد تبديد هذه الشكوك. ولكن سلوك ترامب الغريب في وجه التهديد الواضح الذي تمثله روسيا، والذي يوازيه الحماس الواضح للرئيس بوتين تجاه الرئيس المنتخب، لا يمكن تفسيره بسهولة”.
ويرى مراقبون أن الحرب التي يشنها ترامب ضد أجهزة الاستخبارات ووسائل الاعلام الأمريكية، تهدف من جملة ما تهدف إليه، إلى إلحاق الضرر مسبقا بصدقية هذه المؤسسات الأمر الذي يعني أنه في حال تم الكشف عن ضلوع ترامب أو أي فرد في عائلته في صفقات مالية مشبوهة أو غير شرعية مع أثرياء روس مقربين من بوتين، فإن مثل هذه المعلومات ستواجه بشكوك قوية من مؤيدي ترامب الذين يعتقدون أصلا أن وسائل الاعلام وأجهزة الاستخبارات معادية لترامب لأسباب أخرى.
الرومانس الروسي
هذا الصباح السريالي للرئيس المنتخب جاء بعد أول جلسة استماع في مجلس الشيوخ تحدث فيها يعض قادة أجهزة الاستخبارات من بينهم جيمس كلابر رئيس جهاز الاستخبارات القومية، الذي ينسق أعمال 16 جهازا استخباراتيا، وأكدوا فيها علنا للمرة الأولى قيام روسيا، وبتوجيه من الرئيس فلاديمير بوتين بحملة تجسس وتضليل وقرصنة لا مثيل لها داخل الولايات المتحدة لتحقيق أهداف مختلفة من بينها التأثير على مجرى الانتخابات الرئاسية. وقال كلابر إن هناك فرق بين أن ينظر الرئيس المنتخب لتقارير أجهزة الاستخبارات بنوع من التشكيك، وبين أن يوجه لها القدح والذم. وشدد كلابر على أن التقييم الجماعي لأجهزة الاستخبارات بضلوع روسيا بأعمال القرصنة للتأثير على الانتخابات هو الآن أقوى من أي وقت مضى. وكانت الاستخبارات الأمريكية بمجموعها قد وصلت إلى استنتاج موحد في تشرين الأول/أكتوبر الماضي حول دور روسيا في الانتخابات الرئاسية. وفي لقاء له مع السيناتور ريتشارد بلومينثال قال كلابر إن مواقف ترامب من أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد صدمت حلفاء الولايات المتحدة. وقال كلابر “أعتقد أن الثقة العامة بالاستخبارات الأمريكية هي أمر هام. لقد تلقيت مواقف قلقة من نظرائي الأجانب حول التجريح الذي تتعرض له أجهزة الاستخبارات”. وكان ترامب قد صدم العديد من الأمريكيين حين استشهد بتصريحات جوليان أسانج مؤسس منظمة ويكيليكس الذي نفى ضلوع الاستخبارات الروسية بالحصول على الرسائل الالكترونية التي قامت منظمته بتسريبها بهدف إلحاق الضرر بمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، على الرغم من أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك. وقال ترامب في تغريدة له إن أسانج نفى أن تكون روسيا هي مصدر الوثائق التي استلمتها ويكيليكس، وأن أي مراهق عمره 14 سنة كان يمكن أن يخترق البريد الالكتروني لجون بوديستا رئيس حملة هيلاري كلينتون. وهكذا وضع ترامب نفسه في خندق واحد مع جوليان اسانج في مواجهة جميع أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
وكان الرئيس أوباما قد طلب من أجهزة الاستخبارات تقديم تقرير مفصل له عن جميع أعمال التجسس والقرصنة الالكترونية الروسية في الولايات المتحدة. ويشمل التقرير وفقا لما تم تسريبه للصحف معلومات تفيد بأن المسؤولين البارزين في روسيا قد “احتفلوا” بفوز ترامب بالانتخابات واعتبروه انتصارا جيوسياسيا لموسكو. رد الفعل الروسي هذا على فوز ترامب ساهم في تعزيز تقييم الاستخبارات الأمريكية بأن أحد أهداف موسكو من قرصنتها الالكترونية كان مساعدة ترامب في الانتخابات، من خلال تسريب الرسائل الالكترونية للحزب الديمقراطي، وبث الأخبار الملفقة في الاعلام وغيرها من الأساليب.
وبعد ظهر الجمعة، التقى ترامب بقادة أجهزة الاستخبارات الذين ناقشوا معه تقريرهم الذي قدموه قبل يوم إلى الرئيس أوباما. ووصف ترامب الاجتماع بأنه كان “بناءً”، ولكنه لم يقل أي شيء يوحي بأنه قد اقتنع بمضمون التقرير الذي يؤكد القرصنة الروسية، أو أنه سيتراجع عن تشكيكه بصدقية الاستخبارات الأمريكية وهو أمر كان قد أكد لصحيفة نيويورك تايمز قبل ساعات قليلة من اجتماعه بقادة هذه الأجهزة. ولكن ترامب قال في بيان له بأن أي أعمال قرصنة قد تكون حدثت “فإنه لا يوجد هناك على الإطلاق أي تأثير لها على نتيجة الانتخابات”. وأوحى بيان ترامب بأن قادة الأجهزة الاستخباراتية الذين اجتمعوا معه بمن فيهم جيمس كلابر، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) جون برينان، يوافقون على هذا التقييم حول نتائج الانتخابات. ولكن كلابر كان قد رفض تأكيد ذلك خلال مثوله أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ يوم الخميس.
كل ما يفعله ترامب هو خارج عن المألوف والأعراف. ولأنه انتخب رئيسا للبلاد جزئيا بسبب خروجه عن المألوف، من الصعب اقناعه بتعديل مواقفه وسلوكياته، لأن رده ببساطة هو: لأنني استخدمت هذه الأساليب وصلت إلى ما أخفق غيري في الوصول إليه. وتبين تطورات الأسابيع والأيام الماضية أن ترامب لن يغير من مواقفه الرومانسية تجاه روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، أو مواقفه التشكيكية وحتى العدائية تجاه أجهزة الاستخبارات الأمريكية، أو تجاه وسائل الاعلام، وأنه لن يقدم غصن الزيتون إلى الديمقراطيين في الكونغرس. هذا ما نعرفه بكثير من اليقين قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض في 20 من الشهر الجاري. الأمريكيون (والعالم أيضا) موعودون بحقبة حافلة بالنزاعات وانعدام اليقين والغرابة واللامعقول وممارسة الحكم بالتغريد. ولكن لا يوجد هناك ضمانات بأن هذه الحقبة ستنتهي بعد أربع سنوات وفقا للدستور، أم قبل ذلك في حال وجدت المؤسسة السياسية في واشنطن بحزبيها، أنها وضعت مصير البلاد في أيدي رئيس أقل ما يمكن وصفه به هو أنه متهور.