كانت الولايات المتحدة منقسمة سياسياً وقيمياً قبل جائحة كورونا. منذ أكثر من ثلاثة عقود ساهمت الاستقطابات السياسية والايديولوجية في اعطاء الانتماءات السياسية طابعا قبلياً متشدداً، ينبذ التسويات السياسية والحلول الوسط والتعاون بين الحزبين. ازدادت الهوة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في اعقاب الخلاف حول نتائج انتخابات الرئاسة في عام 2000، حين فاز جورج بوش الابن بأصوات المجمع الانتخابي، بينما حصل منافسه الديموقراطي آل جور على أكثرية شعبية بسيطة. ازدادت الاستقطابات عمقاً وحدّة خلال ولايتي جورج بوش الابن، بعد تورط الولايات المتحدة في أطول حربين في تاريخها عقب غزو افغانستان والعراق. خرج بوش من البيت الأبيض في بداية عام 2009، بعد أن جلب أكبر أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير في 1927.
أبرز انتخاب باراك اوباما أفضل مزايا الولايات المتحدة، حين صوتت أكثرية من الأميركيين لانتخاب أول رئيس من أصل افريقي. ولكنها كشفت أيضاً بعضاً من أبشع صفاتها، كما عكست ظاهرة حزب الشاي، التي تزامنت مع التظاهرات المسلحة والعنصرية ضد الرئيس الجديد. أبرزت معركة إعادة انتخاب أوباما في 2012 من جديد هذا الجانب المتعصب للولايات المتحدة، والذي رآه الأميركيون في وجه سارة بيلين، المرشحة لمنصب نائب الرئيس للمرشح لمنصب الرئاسة جون ماكين آنذاك. وصلت الاستقطابات إلى مستوى عالٍ وصاخب وقبيح خلال المعركة الرئاسية في 2016، والتي جسدّها المرشح دونالد ترامب خلال الانتخابات الحزبية الأولية، حين خالف جميع الأعراف والتقاليد الانتخابية، ولاحقاً خلال أبشع معركة رئاسية منذ الحرب العالمية الثانية، ضد منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون.
لا أحد يجب أن يتوقع معركة أقل شراسة هذه السنة بين ترامب ومنافسه الديموقراطي المفترض جوزيف بايدن. يتوقع الديموقراطيون ومعهم الكثير من المحللين أن يلجأ ترامب وحملته إلى سياسة الأرض المحروقة في محاولتهم لتشويه سمعة المرشح بايدن، ووضعه في موقع دفاعي، واستخدام مختلف الوسائل والتكتيكات، بما فيها سبل إدارية تقترب من تقويض القوانين لحرمان الناخبين الديموقراطيين من التصويت.
قبل جائحة كورونا، كان ترامب في موقع أفضل مما هو عليه الآن، خاصة بعد أن اقترب عدد ضحايا الجائحة من 80 ألفاً. تفوق ميزانية ترامب المالية ميزانية بايدن بـ 187 مليون دولار، كما أن لترامب حضور انتخابي وميداني في جميع الولايات، وربما ما هو أهم من ذلك، يعتبر ترامب متقدماً للغاية على بايدن، وله حضور ضخم على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، كما لحملته خبرة تفوق خبرة حملة بايدن بأميال في العالم الافتراضي والالكتروني.
خلال سنواته في البيت الأبيض، تعامل ترامب النرجسي مع كل قضية أو سياسة أو قرار أو تحد واجهه على أنه مسألة شخصانية. كل شيء يتمحور حول شخصه، وفق مقولة ما يصب في مصلحة ترامب، هو من مصلحة أمريكا. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يتعامل ترامب مع جائحة كورونا، وهي عدو لم يواجه مثله من قبل من منظور شخصاني. ومنذ نكرانه الأولي لخطر الجائحة، والتقليل من أهميتها، إلى موقفه الراهن بتحميل الصين المسؤولية الكاملة عن الجائحة، والأضرار الهائلة التي تسببت بها في الولايات المتحدة والعالم، كان ترامب ينطلق من مفهوم: هل يساعدني هذا الموقف على الفوز في الانتخابات؟
خلال هذه الفترة كان ترامب يرفض رفضاً قاطعا تحمل أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية عن الجائحة وتوجيه التهم إلى قائمة من المشتبه بهم، بدءاً من إدارة الرئيس أوباما، التي ادعى أنها لم تترك له البنية التحتية لمواجهة مثل هذا الوباء، إلى السياسيين الديموقراطيين، ولاحقا حكام الولايات، الذين انتقدوا ادائه الكارثي، وأخيراً القيادة الصينية. ومع ازدياد خطر الجائحة، وتفاقم تخبط واخفاق ترامب في معالجتها واحتوائها، أصبح من المستحيل تقريباً التعامل طبياً وعلمياً مع الجائحة من خلال فصلها عن السياسة، وتحديداً الاعتبارات الانتخابية لترامب بالدرجة الأولى.
جائحة كورونا وكيفية تخطيها عمّقت الاستقطابات بين الحزبين. أكد استطلاع رأي في نهاية الشهر الماضي أن 44% من الجمهوريين مستعدون لاستئناف النشاطات العادية، مقابل 4% فقط من الديموقراطيين. موقف قاعدة ترامب الجمهورية هذا شجعه على الاستعجال باستئناف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وتركيز الاهتمام على مسألة إنعاش الاقتصاد بدلاً من التركيز المكثف على مواجهة الجائحة، كما كان الحال خلال الأسابيع الستة الماضية.
عندما بدأ ترامب بالمشاركة في الايجاز اليومي لفريق العمل الطبي، الذي عينه ووضع نائبه مايك بينس رئيساً له، ولاحقا الاستيلاء عليه، تحسنت شعبيته، ولكن هامشياً، حين حاول تسويق نفسه “كرئيس في حالة حرب” ومستعد لاتخاذ القرارات الصعبة لاحتواء الخطر. ولكن ترامب سرعان ما سيطر كلياً على الايجاز اليومي، وبدأ بتحويله الى فرصة انتخابية يومية، حيث كان يهاجم خصومه السياسيين، واستأنف مناوشاته مع الصحفيين، والتي كانت قي بعض الاحيان صاخبة، وكأن ترامب عاد إلى أسلوب حملاته الانتخابية حين كان يلعب على مشاعر أنصاره، وكأنه يشرف على حلبة مصارعة مثيرة.
ولكن احتكار ترامب للإيجاز اليومي على حساب المرجعيات الطبية والعلمية في فريقه -والأسوأ من ذلك، ادعائه بأنه يعرف ما هو مطلوب علمياً وطبياً لمكافحة الوباء بما في ذلك تسويق بعض الأدوية غير الصحية والخطيرة – أثار قلق ومخاوف بعض المسؤولين في البيت الأبيض وبعض القيادات الجمهورية الذين حضوه، ولكن دون جدوى، على إلغاء هذه “المسرحيات العبثية” كما وصفها أحدهم. ولكن ترامب كبى كبوة كبيرة في 23 أبريل/نيسان حين حض الأميركيين المصابين بأعراض الوباء على شرب المطهرات، وهي بمعظمها سامة. وبلحظة واحدة تحول الرئيس الأميركي إلى مادة دسمة للفكاهيين في الولايات المتحدة والعالم. وفجأة انتهت حياة الايجاز اليومي الذي كان من المفترض أن يخصص لمكافحة جائحة كورونا.
خلال هذه الفترة، وبعد أن وصل عدد العاطلين عن العمل إلى أكثر من ثلاثين مليون أميركي، كان جوزيف بايدن يعزز من موقعه كمرشح للحزب الديموقراطي، وخاصة بعد أن أيده منافسه الأبرز، السيناتور بيرني ساندرز، وبعد أن أظهرت مختلف استطلاعات الرأي أن بايدن متفوق على ترامب في ست ولايات محورية، تعتبر “ساحات معارك” ستحسم النتائج، وهي أريزونا وفلوريدا وميتشجان وونورث كارولينا وبنسلفانيا وويسكونسن. قبل الجائحة كان ترامب مقتنعاً أن بقائه في البيت الأبيض لولاية ثانية هو الاقتصاد القوي، ولكنه يواجه اليوم كارثة مزدوجة، جائحة طبية وجائحة اقتصادية.
أبرز قضية خلافية تواجهها البلاد الآن هي بين تيارين، ترامب وقاعدته الجمهورية الذين يدعون إلى استئناف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وبين القيادات الديموقراطية، ومعها أكثرية الخبراء في مكافحة الأوبئة، الذين يدعون إلى فتح تدريجي للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وبعد تحسين سبل فحص المواطنين. ويحذر هؤلاء من أن الاستعجال في التخلص من الاجراءات الوقائية سوف يؤدي وبسرعة إلى ازدياد عدد المصابين بالوباء. ويبدو أن الرئيس ترامب، الذي لم يعد يتردد بالتسليم بأن عدد ضحايا الوباء لن ينخفض بسرعة، يرى أن احياء الاقتصاد الأميركي هو بطاقته الوحيدة، التي ستبقيه في البيت الأبيض.
وفي هذا السياق، سوف يضع ترامب مسؤولية عودة الوباء، إذا تأكدت توقعات الخبراء، على حكام الولايات، الذين يطالبهم بإجراء الفحوصات على مواطنيهم، دون دعم كاف تقني ومالي من الحكومة الفدرالية. كما سيواصل ترامب تركيز الاهتمام، وكذلك تركيز الانتقادات، على الصين وتحميلها مسؤولية “خلق” الجائحة وانتشارها في الولايات المتحدة والعالم، حيث يلجأ إلى التلويح بأن العلماء الصينيين قد طوروا الوباء في أحد مختبراتهم، على الرغم من أن أجهزة الاستخبارات الأميركية لم تتوصل إلى مثل هذا الاستنتاج.
يرى بعض المراقبين أن ترسانة ترامب تشمل استخدام، أو استغلال، الأساليب والتكتيكات القضائية للفوز في الانتخابات. ويشير هؤلاء إلى أن القضاء الأميركي –المحكمة العليا – هي التي حسمت انتخابات عام 2000 لصالح جورج بوش الابن. تقليدياً، يلجأ الجمهوريون، وخاصة في الولايات الجنوبية، إلى اعتماد مختلف الأساليب الإدارية، مثل مطالبة الناخبين بوثائق، قد لا تكو ن متوفرة لديهم، للسماح لهم بالتصويت مثل بطاقة قيادة السيارة، التي قد لا تتوفر لناخب متقدم في السن ويعاني من صعوبة الرؤية، وغيرها من الأساليب التعجيزية الهادفة إلى تقليص عدد الناخبين، وخاصة من الأقليات الذين يميلون تقليدياً للتصويت للمرشحين الديموقراطيين. ونظراً لوجود وزير للعدل موالٍ كلياً لترامب، ونظراً لأن ترامب خلال السنوات الماضية عين 158 قاضيا فيدرالياً، بمن فيهم قاضيان في المحكمة العليا من أصل تسعة، يرى المراقبون أن بروز أي طعون انتخابية في بعض الولايات، التي يكون الفارق فيها بين المرشحين ضئيلاً للغاية، فإن وجود قضاة عينهم ترامب في مناصبهم عاملاً هاماً في حسم أي مواجهات قانونية بعد الانتخابات.
وفي هذا السياق يحذر الكاتب والمحلل موزيس نعيم Moisés Naím، رئيس التحرير السابق لمجلة فورين بولسي، من قيام حملة ترامب “بشن هجوم قضائي مكثف ضد النظام الانتخابي” يضمن عدم تصويت أولئك الذين لا يعتزمون التصويت لترامب. وهذا يتم من خلال جعل العملية الانتخابية بطيئة للغاية، وآلات تصويت غير صالحة، وغيرها من الحيل. ويتخوف البعض من أنه إذا فاز بايدن بأكثرية محدودة، أن يطعن ترامب بالانتخابات، وأن يرفض مغادرة البيت الأبيض، وزجّ البلاد في متاهات قانونية وسياسية خطيرة.