خلال أقلّ من اسبوع، وبدءا من خطاب تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة وعبر قرارات تنفيذية بعضها ربما غير قابل للتنفيذ، وتغريدات غريبة ونرجسية بامتياز، نجح دونالد ترامب في إشعال موجة غضب متصاعدة، أمريكية ودولية. وعمّق ترامب من مشاعر القلق السائدة في أوساط حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين بعد أن انسحب رسميا من اتفاقية الشراكة التجارية لدول المحيط الهادئ، وخلق تململا في البلاد وما يمكن اعتباره بداية حركة معارضة شعبية، واعتبر رسميا أنه في حالة “حرب مستمرة” مع وسائل الإعلام الأمريكية المحترفة والتي اعتبرها مستشاره ستيفن بانون “الحزب المعارض”. وأوصل ترامب العلاقات الأمريكية-المكسيكية إلى أدنى مستوياتها منذ عقود عديدة، واقترب من إعلان حرب تجارية مع الجارة الجنوبية، وهي ثالث شريك تجاري للولايات المتحدة. وكرر ادعائه الباطل، الذي يرفضه الخبراء وقادة الحزبين، بأن الانتخابات شهدت أعمال تزوير حرمته من الحصول على أكثرية الأصوات الشعبية، وطالب بإجراء تحقيق بهذا الشأن. كل هذا خلال أيام معدودة، ولا يبدو أنه ينوي الإستراحة في عطلة نهاية الأسبوع.
وإذا كان هدف ترامب زعزعة الأنماط التقليدية في أوساط الطبقة السياسية، وابقاء النار حامية تحت اقدام قادتها، وارهاق معارضيه وتعبئة قاعدته الشعبية المتدنية – وصلت إلى 36 بالمئة في آخر استطلاع للرأي- فإنه نجح إلى حد كبير في ذلك. وفي أسبوعه الأول في البيت الأبيض مارس ترامب الحكم من خلال التوقيع على سلسلة من القرارات التنفيذية (الرئاسية) التي صيغت بسرعة ودون استشارة حلفائه الجمهوريين، وبعيدا عن تمحيص الخبراء القانونيين، ما يعني أنها ستتعرض إلى تحديات قانونية لاحقا. وفعل ترامب ذلك تحت أضواء إعلامية براقة، عكست تعطشه للاهتمام الإعلامي . وكان ترامب يتصرف بعد كل توقيع، وكأن هذا الفعل بحد ذاته، قد أنجز المهمة.
وفي خطوة رمزية ولكن لافتة ومهمة، قررت الوحدة الاستخباراتية التابعة لمجلة الإيكونوميست البريطانية التي تقيّم الدول وفقا لممارساتها الديمقراطية، قررت تخفيض مكانة الولايات المتحدة من خانة الدول الديمقراطية الكاملة، إلى خانة الدول “الديمقراطية الناقصة”، بسبب انخفاض ثقة الأمريكيين بمؤسساتها الحكومية.
القومية الانعزالية
مواقف وأطروحات ترامب خلال الحملة الانتخابية لم تكن تتطابق كثيرا مع مسلمات ومبادئ الحزب الجمهوري وخاصة لجهة عدائه لاتفاقيات التجارة الدولية الحرة، كما أن مواقفه السلبية من الأقليات المتحدرة من أصول غير أوروبية، وانسجامه مع المواقف المتشددة لليمين المسيحي المتعصب، كلها أظهرته وكأنه من دعاة الحفاظ على قومية أمريكية ضيقة –بيضاء ومسيحية- تنظر بريبة وقلق إلى عالم غير ودّي، لا بل عدائي. “العالم في حالة فوضى” هذه الجملة كررها ترامب لأكثر من مرة في أول مقابلة تلفزيونية أجراها مع شبكة التلفزيون أي بي سي التي بثتها مساء الأربعاء. هذه النظرة السلبية للعالم تتناقض كليا مع الاقتصاد المعولم المبني على أسس التجارة الحرة، ومع قيم الديمقراطية الليبرالية، وهي قيم أما يرفضها ترامب أو يخافها أو لا يبالي بها. وشعار ترامب : “أميركا أولا” (وهو شعار انعزالي تعود جذوره إلى حقبة ثلاثينيات القرن الماضي)، وعدم مبالاته بمستقبل الاتحاد الأوروبي، ودعمه الفاتر جدا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) يلخص مواقف ترامب الانعزالية. وما انسحابه من اتفاقية الشراكة التجارية لدول المحيط الهادئ، وقراره البدء ببناء الجدار مع المكسيك، إلا مقدمات لهذه الانعزالية الممجوجة.
ولكن اصرار ترامب على توقيع قرار تنفيذي في أسبوعه الأول بإقامة الجدار ومطالبة المكسيك تحمل نفقاته التي تتراوح بين 8 و14 مليار دولار، وضع الرئيس انريكي بينيا نييتو في موقف محرج للغاية، وهو الذي كرر تعهده بعدم دفع نفقات الجدار، ودفعه لإلغاء زيارته لواشنطن التي كانت مقررة في 31 يناير احتجاجا على مواقف ترامب. وفي مؤشر مقلق حول الطبيعة الاعتباطية لصنع القرار في جمهورية ترامب، هدد الرئيس الأمريكي الذي يرى في أي اعتراض أو معارضة يواجهها، أمرا يتطلب ردا مضاعفا، هدد بفرض ضريبة على البضائع المكسيكية التي تدخل الأسواق الأمريكية بنسبة 20 بالمئة. هذا القرار المفاجئ، الذي وضع أمريكا على عتبة شن حرب تجارية ضد المكسيك، أثار مخاوف قيادات الكونغرس من الحزبين، ودفع البيت الأبيض للتوضيح لاحقا أن هذه الضريبة هي اقتراح من بين اقتراحات أخرى.
ردود الفعل الفاترة من قبل قيادات الحزب الجمهوري تبين مدى نجاح ترامب بأسلوبه الصدامي في لجم، أن لم نقل ترهيب هؤلاء القادة الذين عبرّوا عن ترددهم في انتقاد رئيسهم الجديد عندما يقترح بناء جدار يرى بعضهم أنه لا فائدة منه، أو الانسحاب من اتفاقية تجارة حرة في المنطقة المرجحة لأن تكون الأهم اقتصاديا في المستقبل القريب. معارضة ترامب من داخل الحزب الجمهوري بعد انتخابه انحسرت جدا، ولذلك كان لافتا أن السيناتور جون ماكين، وصف القرار بأنه غير حكيم لأنه سيخلق فراغا تجاريا سوف تملأه الصين التي تمثل اليوم الاقتصاد الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي والتي تريد أن تصبح الدولة المهيمنة اقتصاديا واستراتيجيا في شرق آسيا. ومن المتوقع أن تبرز في الأشهر المقبلة بعض القضايا الخلافية بين الجمهوريين في الكونغرس والرئيس ترامب، وخاصة عندما يقترح الأخير مشاريع قرارات تتطلب اعتمادات مالية كبيرة، مثل إعادة بناء البنية التحتية في البلاد وهي عملية كان قادة الحزب الجمهوري يعارضونها تلقائيا.
جدار آخر لعزل المسلمين
لم يوقع الرئيس ترامب على قرارات تنفيذية تتعلق باللاجئين السوريين وتقليص عددهم، وفرض إجراءات متشددة أكثر على دخول رعايا 7 دول مسلمة ستة منها عربية، ولكن نصوص هذه القرارات سربت وهي تؤكد المخاوف المعروفة بشأن القيود المتوقعة. وجاء في قرار تنفيذي مسرب من ثمانية صفحات أن ترامب يريد منع دخول اللاجئين من هذه الدول إلى الولايات المتحدة نهائيا، ووقف دخول اللاجئين من الدول الأخرى لفترة 120 يوما يتم خلالها مراجعة سبل التحقق من خلفيات اللاجئين. وحين استئناف استقبال اللاجئين، سوف يتم تقليص عددهم هذه السنة إلى 50 ألفا من أصل 110,000، وفقا لما قررته إدارة الرئيس أوباما السابقة في السنة الماضية. كما يقضي القرار بتعليق قبول أي لاجيء لفترة 30 يوما من دول ذات أكثرية مسلمة بسبب الأوضاع المضطربة فيها وهي : سوريا والعراق وإيران وليبيا والصومال واليمن والسودان. وقال ترامب في مقابلته مع شبكة أي بي سي إن القيود التي ستفرض على دخول اللاجئين أو المهاجرين من هذه الدول “ستكون قاسية جدا”. وجاء في نص القرار أن ترامب سيطلب من وزيري الدفاع والخارجية أن يقدموا له خطة خلال 90 يوما لإقامة “مناطق آمنة في سوريا وفي المنطقة المحيطة بها لإيواء السوريين المقتلعين من مناطقهم”بانتظار عودتهم إلى مناطقهم، أو توطينهم في دول أخرى. ولكن الوثيقة لا تتطرق إلى كيفية تطبيق ذلك، أو من سيمول نفقات إقامة هذه المناطق وصيانتها. وكان ترامب في السابق يقول إنه سيطلب من دول الخليج العربية تمويل هذه المناطق. وفي مقابلته مع شبكة أي بي سي، كرر ترامب ضرورة إقامة هذه المنطقة، وانتقد بشدة الدول الأوروبية وتحديدا ألمانيا بسبب استقبالها مئات الآلاف من اللاجئين السوريين.
وفي قرار آخر، لم يوقع عليه ترامب بعد، سوف يطلب من وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي أي” إحياء برنامجها السري السابق والقاضي باستجواب المشتبه بضلوعهم بالإرهاب في سجون سرية تديرها الوكالة في عدد من دول العالم. وكان الرئيس أوباما قد أغلق هذه المواقع في 2009، بعد الكشف عن أن المعتقلين فيها كانوا يتعرضون للاستجواب وفق أساليب قاسية من بينها الإيحاء بإغراق المعتقلين، وهو أسلوب يرقى إلى مستوى التعذيب. ويدعو القرار إلى إعادة النظر بإمكانية استخدام اسلوب الايحاء بالغرق من جديد، على الرغم من أن الكونغرس قد حرّم استخدامه. وفي مؤشر آخر حول تفرد ترامب والبيت الأبيض باتخاذ قرارات هامة تتعلق بالأمن القومي، وذكرت مصادر صحفية أن وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومدير “سي آي أي” مايك بومبيو فوجئا بمسودة القرار التي سربت إلى الصحف لأن مضمونها لم يناقش معهما.
أكاذيب لا تكشفها حقائق
أحاطت الأكاذيب والتضليلات بحملة ترامب وتحولت إلى جزء عضوي من الأساليب التي استخدمتها الحملة لتعبئة قاعدتها وتشويه سمعة منافسيها الجمهوريين في بداية الحملة، ولاحقا مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. وأكتشف الأمريكيون خلال هذا الموسم الانتخابي الغريب الأهمية الكبيرة التي علقت على ما يسمى بـ”الأخبار الملفقة” والتي ساهمت فيها الاستخبارات الروسية عبر وسائل الإعلام التي تملكها الدولة الروسية. وحفل الأسبوع الأول لحقبة ترامب بأمثلة عديدة تبين صعوبة دحض الأكاذيب التي تكررها إدارة ترامب. ويوم السبت الماضي كان يوم الأكاذيب التي لا تكشفها الحقائق بسهولة. في ذلك اليوم زار الرئيس ترامب مقر وكالة الاستخبارات المركزية وألقى أمام بعض موظفي الوكالة خطابا اتسم بالتفكك والابهام والنرجسية، وانتهى بقوله للموظفين إنه سيكون صديقهم القوي وإنه يحبهم وعليهم ألا يصدقوا الأكاذيب التي تنشرها الصحافة حول وجود نزاع بينه وبين الوكالة. ثم التفت إلى الصحفيين في الخلفية قائلا إنه في حالة “حرب مستمرة” مع وسائل الإعلام، ووصف الصحفيين بأنهم من أكثر الناس المخادعين على وجه الأرض. ولكن الواقع مغاير تماما لهذه الادعاءات لأن لترامب سجل طويل ومكتوب حول عدائه لهذه الأجهزة وتحديدا لوكالة الاستخبارات المركزية التي كان قبل بضعة أسابيع قد وصف ممارساتها بأنها مشابهة لممارسات النازيين.
في ذلك اليوم، برزت مسألة صدقية الحديث عن حجم الجمهور الذي حضر تنصيب ترامب، حيث أصر الرئيس على أن جمهوره هو الأكبر في تاريخ تنصيب الرؤساء في أمريكا، وانتقد بحدة الصور التي قارنت حجم الجمهور الذي حضر تنصيب أوباما الأول في 2009 والذي وصل إلى مليون و800 ألف نسمة، والحضور الذي شارك في تنصيب ترامب، والذي قدر بأقل من نصف مليون، وهو ما بدا واضحا في الصور التي قارنت الحفلين. واتهم ترامب الإعلاميين بتضليل الأمريكيين عن قصد دون أن يقدم أي دليل على ذلك. وفي وقت لاحق التقى شون سبايسر الناطق الجديد باسم البيت الأبيض بالصحفيين واتهمهم بحدة بتضليل الشعب الأمريكي، مصرا على أن جمهور ترامب هو الأكبر في تاريخ البلاد. وأثار أداء سبايسر الغاضب –بطلب من ترامب نفسه- استهجان قطاع الصحافة الأمريكي.
ويوم الخميس وصلت حرب حكومة ترامب ضد الصحافة الأمريكية إلى مستويات جعلت الولايات المتحدة تبدو وكأنها دولة يحكمها نظام أوتوقراطي. وقام ستيفن بانون المستشار الاستراتيجي لترامب بالاتصال بصحيفة النيويورك تايمز ليقول إن انتصار ترامب هو بمثابة “إهانة” للإعلام الأمريكي الذي وصفه بأنه “الحزب المعارض” لإدارة ترامب، وقال “يجب أن تشعر وسائل الإعلام بالاحراج والمذلة وعليها أن تصمت وأن تكتفي بالاستماع لفترة من الزمن”. وأضاف بانون أن “الإعلام لا يفهم هذه الدولة، وهم حتى الآن لا يعرفون لماذا أصبح ترامب رئيسا للولايات المتحدة”. الدستور الأمريكي يحمي الصحافة وحرية التعبير، وهي بالتأكيد لن تصمت، لا بل أنها تعد العدة للمزيد من المساءلة وكشف الحقائق.