يبدو المشهد السياسي في واشنطن مع اقتراب السنة الأولى للرئيس دونالد ترامب من نهايتها مماثلا لأي بلدة ساحلية يجتاحها تسونامي ضخم: ركام، ويباب، وأناس إما في حالة ذهول، أو صدمة أو نشوة لأن كل ما كان مألوفا ومتوقعا في حياتهم، أصبح غريبا وغير اعتيادي، بالمعنيين السلبي والإيجابي.
التغيير الذي جلبه ترامب إلى واشنطن، شامل وجذري لم يجلبه أي من أسلافه، على الأقل أولئك الذين سبقوه إلى البيت الأبيض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وغّير الرئيس ترامب، في سنته الأولى في البيت الابيض، السياسة الخارجية للبلاد أو على الأقل زعزع وشكك بالعديد من المسلمات التي بنيت عليها منذ سبعة عقود، وبذلك أثار قلق ومخاوف معظم الحلفاء والأصدقاء الديمقراطيين التقليديين، وإن رحّبت به أنظمة أوتوقراطية وسلطوية، بعضها، مثل الصين وروسيا، يُعدان خصمين تقليديين للولايات المتحدة الأمريكية. إعجاب ترامب بالزعماء الأوتوقراطيين في العالم، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جينغ بينغ، والرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورفضه انتقاد انتهاكاتهم لحقوق الانسان في بلدانهم وضعه في موقع يتناقض مع تقاليد جميع أسلافه في العقود الأخيرة.
في سنته الأولى، سعى ترامب، وبنجاح محدود إلى تقويض تركة سلفه باراك أوباما من أساسها، وكأن كل قرار أو إجراء أو قانون أُقر خلال ولايتي أوباما يجب نقضه كليا. وما لم يستطع ترامب أن يحققه عبر إقرار قوانين جديدة أو بديلة للقوانين التي أقرها أوباما، وأبرزها قانون الرعاية الصحية المعروف باسم “أوباماكير”، حاول أن يحققه عبر قراراته التنفيذية. ترامب الذي لم يخدم بلاده في أي منصب سياسي أو عسكري في سنواته السبعين قبل انتخابه رئيسا، لم ولن يتصرف بشكل “رئاسي”، وهو لم يرشح نفسه ليتصرف بشكل تقليدي، لأنه ليس أبن النخبة السياسية التقليدية التي تحكم واشنطن، أو ليكمل أو يطور بالضرورة ما بناه اسلافه، من علاقات خارجية، أو سياسات وبرامج اجتماعية واقتصادية داخلية (الضمانات الاجتماعية والصحية) بل لنقض أو حتى نفض ارثهم ومعظم انجازاتهم. ومن هنا يأتي اعطاء ترامب صفة “المعطل” أو حتى “الانقلابي” .
رئيس غير تقليدي
أمضى دونالد ترامب معظم حياته تحت خيمة الحزب الديمقراطي، ولم يكن هناك في سلوكه الشخصي – علاقاته مع زوجاته الثلاثة، ونظرته الاستعلائية للمرأة، وعدم تدينه- يوحي بأنه تقليدي أو محافظ، وإن كان في تبرعاته المالية للسياسيين يتبرع لمرشح أي حزب يعتقد أنه يمكن أن يستفيد منه لخدمة أعماله وشركاته. ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن لترامب قبل ترشحه للرئاسة مواقف سياسية معينة مثل معارضته لاتفاقيات التجارة الدولية الجماعية، أو لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أو سلوكياته الاجتماعية ومواقفه غير الودية والتمييزية ضد الثقافات غير الغربية كما تجلى ذلك في مواقفه من المهاجرين المكسيكيين والمسلمين واللاجئين من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وطالب ترامب خلال حملته الانتخابية بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة. وبعد انتخابه حاول منع دخول رعايا دول ذات أكثرية مسلمة، ما تسبب في دخوله في معركة لم تنته حتى الآن مع القضاء الأمريكي الذي تحدى قراراته التنفيذية بهذا الشأن، واعتبرها غير دستورية.
مواقف ترامب النابية أو المعادية للثقافات والأعراق الأخرى، عرضته لتهم التعصب وحتى العنصرية، حيث عدّه بعض المراقبين الرئيس الأكثر عنصرية في القرن الماضي منذ الرئيس وودرو ويلسون (1913–1921). صحيح أن ترامب لم ينسحب من حلف الناتو كما أوحى، ولكنه أضعف الحلف لأنه خلق شكوكا حقيقية لدى الحلفاء، وخاصة في المانيا بصدقية التزامه في صيانة الحلف أو الدفاع عن أعضائه في حال نشوب نزاعات عسكرية. مواقف ترامب السلبية تجاه الناتو، وانسحابه من اتفاقية التجارة الحرة في المحيط الهاديء، وإصراره على اتفاقيات تجارية ثنائية، وتشكيكه بجدوى التحالف العسكري مع كوريا الجنوبية واليابان، أضعف من قدرته على مواجهة الإجراءات الاستفزازية والخطيرة التي اتخذتها كوريا الشمالية في السنة الماضية والمتمثلة بتجاربها الصاروخية والنووية. تهديدات ترامب – من وراء منبر الأمم المتحدة- بتدمير كوريا الشمالية غير معهودة. وخلال السنة الماضية لم يسلم أي قائد حليف وديمقراطي من لسان ترامب وشكاويه، وفي المقابل فإن رومانسية ترامب مع الأوتوقراطيين في روسيا والفلبين والصين وتركيا، بدت، وكأنها دغدغة لرغبة دفينة لديه للإنتماء إلى هذا النادي الاستثنائي.
على الصعيد الداخلي، تجلت خصوصية ترامب بسلوكيات ومواقف انقلابية غير معهودة وخطيرة لأنها استهدفت ما يتعارف عليه الأمريكيون، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية، بالمحرمات التي لا يجرؤ الرؤساء على مواجهتها، وفي طليعتها القضاء المستقل والصحافة الحرة. وأعلن ترامب الحرب ضد وسائل الاعلام والاعلاميين الذي وصفهم بأنهم أعداء الشعب الأمريكي، وهي تهمة لم يطلقها أي رئيس في الماضي ضد الصحافة الأمريكية، التي يرى ترامب أي مقال أو تقرير نقدي يصدر عنها هو بمثابة “أخبار ملفقة”. هذه التهمة التي يكررها ترامب بشكل يومي تقريبا جعلها تبدو وكأنها وصمة عار على مهنة الاعلام وعلى سمعة الاعلاميين. هذا المفهوم التشويهي للاعلام صدّره ترامب إلى الخارج حيث يستخدمه الآن زملائه في النادي الأوتوقراطي الإستثنائي ضد الاعلاميين في بلادهم إذا ما تجرأوا على نشر أو بث أي تقارير نقدية لهم ولسياساتهم. حرب ترامب على الصحافة الأمريكية خلقت جوا ترهيبيا لم يسبق أن عاشته البلاد، حتى خلال حقبة الرئيس ريتشارد نيكسون في مطلع سبعينات القرن الماضي والذي كان معروفا بعدائه السافر للصحافة الأمريكية. ولكن الأخيرة لم ترضخ للترهيب وردت بتكثيف تغطيتها لترامب وحكومته، وقامت بنشر وبث تقارير استقصائية متميزة، أكدت من جديد أنها صحافة جدية و مميزة بالفعل.
الحرب التي يقودها ترامب ضد القضاء المستقل، وسعيه لتعيين قضاة فيدراليين محافظين للغاية ويمنيين – وبعضهم غير مؤهل – تبين أن آثارها السلبية ستكون بعيدة المدى، لأن القضاة الفيدراليين يخدمون في مناصبهم حتى استقالاتهم أو وفاتهم.
وحده ترامب الرئيس الذي ينتقد ويسخر ويهين وزرائه والمؤسسات التي يشرفون عليها. ترامب سخر من محاولات وزير خارجيته ريكس تيلرسون ترتيب مفاوضات دبلوماسية مع كوريا الشمالية. كما يسخر دوريا من وزير العدل جيف سيشنز لأنه نأى بنفسه عن التحقيق بالتدخل الروسي في الانتخابات، والذي يخشاه ترامب. وفي هذا السياق يواصل ترامب انتقاداته النافرة ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) الذي تشرف عليه وزارة العدل. كما كان لافتا هجوم ترامب على أجهزة الاستخبارات الأمريكية في بداية ولايته، اعتقادا منه بأن هذه الأجهزة سعت لحرمانه من الرئاسة. الانجاز التشريعي الوحيد البارز الذي حققه الجمهوريون خلال وجود ترامب في البيت الأبيض، وهو إقرار قانون جديد للضرائب يخدم بالدرجة الأولى مصالح الشركات والأثرياء، سوف تكون له مضاعفات سلبية على المجتمع الأمريكي لوقت طويل.
رئيس محارب
الرؤساء المحوريون في تاريخ الولايات المتحدة غيروا مجتمعاتهم لوقت أطول من مدة ولاياتهم. التغييرات والانجازات الهامة التي حققها هؤلاء الرؤساء مثل ابراهام لينكولن، و فرانكلين ديلانو روزفلت وحتى جون ف. كينيدي وليندون جونسون ورونالد ريغان لم تكن محصورة بالمجالات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية فحسب، بل تعدتها لتشمل تغيير نظرة الأمريكيين إلى أنفسهم وإلى العالم، من خلال تغيير طبيعة اللغة والمفاهيم السياسية في البلاد. الرئيس لينكولن غيّر مفردات اللغة السياسية خلال الحرب الأهلية لتعكس تغيير العلاقات بين الولايات الشمالية والجنوبية ومفهوم النظرة إلى الحكومة الفيدرالية، والعلاقات بين البيض والسود، ومفاهيم المساواة بين الأعراق. وطور الرئيس روزفلت مفردات جديدة أدخلها على الخطاب السياسي لتعكس التحول الجذري في دور الحكومة الفيدرالية في توظيف الأمريكيين خلال فترة الكساد الكبير، وتعبئة البلاد للحرب ضد اليابان، ومسؤولية الحكومة عن توفير الضمان الاجتماعي للمواطنين. واستخدم الرئيس كينيدي لغة سياسية جديدة عكست طموح الولايات المتحدة لتغيير العالم، مثل الدفاع عن حريات الشعوب و مساعدتها (مثل انشاء فيلق السلام) واستكشاف الفضاء. وقام جونسون بتغيير مفردات اللغة لتقويض بقايا التمييز العنصري في الولايات الجنوبية، وتعزيز الحقوق المدنية، وتوفير الخدمات الطبية للمسنين والفقراء. من جهته، أدخل الرئيس ريغان مفردات جديدة على اللغة السياسية، عكست رغبته بهزيمة “امبراطورية الشر” المتمثلة بالاتحاد السوفياتي، وبتدشين ما عرف لاحقا بالحرب الثقافية داخل البلاد والتي عكست رغبة المحافظين واليمينيين في تقويض إرث الاصلاحات والسياسات التي اعتمدها روزفلت وجونسون.
دونالد ترامب غيّر اللغة السياسية في البلاد حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض. ولترامب علاقة غريبة بالكلمات والمفردات. وهو قطعا ليس معروفا بفصاحته اللغوية، ما أبعده عن الرهافة اللغوية أو التلميحات الأدبية. مفردات ترامب محدودة ولا تتعدى المفردات التي يستخدمها طلاب المدرسة الثانوية. خطب ترامب مبهمة ومفككة، وتركيب الجمل لديه غير منطقي في كثير من الأحيان. ولكن هذه العيوب لا تعني أبدا أن ترامب لا يملك لغته الخاصة أو لا يجيد كيفية استخدام مفرداته الهجومية البسيطة، بفعالية قاتلة، من خلال تكرارها وتلوينها والمبالغة فيها، والمبادرة باستخدامها لصياغة أي نقاش سياسي من خلال فرض هذه المفردات على الآخرين ومنعهم من استخدام مفردات بديلة أو مفردات لمقاومة مفرداته.
ترامب لا يقرأ الكتب وهو يفاخر بذلك، ولا يجيد الكتابة الإبداعية. وما صدر باسمه من كتب صاغها كتاب محترفون استأجرهم ترامب لهذا الغرض. ولكن ترامب يجيد ويستمتع بالمبارزات اللغوية الجارحة، حيث يتلذذ بتعذيب خصومه بسهامه اللغوية السريعة، وفي الوقت ذاته الاحتفال بنرجسيته المفرطة. خلال حملته الانتخابية الطويلة استخدم ترامب كلمات ومفردات مهينة ضد خصومه نجح في الصاقها على جباههم، وهكذا لم يعد بالإمكان سماع اسم كلينتون دون أن تتبعه كلمة “المخادعة”. كما ارتبط اسم السيناتور تيد كروز بكلمة “الكاذب”، واسم السناتور مارك روبيو بكلمة “الصغير” أو بوصفه “الوزن الخفيف”. وهكذا عرّف ترامب منافسيه كما يشاء، وبالمفردات أو الأوصاف التي اختارها هو ولأنه كان يكررها في كل مناسبة التصقت هذه النعوت بهذه الشخصيات. ترامب واصل هذا الأسلوب بعد وصوله إلى البيت الأبيض حين بدأ بوصف الرئيس الكوري الشمالي كيم يونغ أون ” بالرجل الصاروخي”. ترامب اصر على استخدام هذا الوصف الاستهزائي حتى في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
خلال الحملة، ولأنه لم يكن يتوقع أن يفوز بالرئاسة، كان ترامب يردد يوميا أن النظام الانتخابي “مزور”، وهكذا حضّر أنصاره وعبّأهم ضد النظام الانتخابي لكي ينزلوا إلى الشوارع احتجاجا على النتائج لو خسر ترامب الانتخابات بالفعل. ومنذ بداية التحقيق باحتمال ضلوع مساعدين لترامب في التدخل الروسي الاستخباراتي لصالحه، وترامب يكرر وصف التحقيق بأنه “خدعة” أو “ذريعة” استخدمها الحزب الديمقراطي لتقويض شرعيته. هذه الكلمة اصبحت في ذهن عدد كبير من الناخبين الأمريكيين، كلمة لا يمكن فصلها عن التحقيق بالتدخل الروسي، وذلك في محاولة مدروسة من قبل ترامب للتشكيك بدوافع التحقيق.
طوّر ترامب أسلوب المبارزات اللغوية السريعة خلال عمله في تلفزيون الواقع، ولكن الأثر الأكبر على هذا الأسلوب هو تجربة وعلاقة ترامب برياضة المصارعة، التي كان يشارك في تنظيمها حيث يقوم المصارع بمهاجمة وإهانة منافسه والسخرية منه، وفي نفس الوقت التغني بصفاته هو ووسامته. أسلوب ترامب في هذه المبارزات، يذكر باسلوب الهجاء لدى الشعراء العرب خلال حقبة الجاهلية والعصر الأموي، حيث تستخدم الكلمات والمفردات المتلاحقة كسيوف حادة للتخلص من الخصم. وهناك تنويعات على شعر الهجاء في التراث الأدبي لعدد مختلف من الثقافات، من اليابان إلى بريطانيا. ومع أن شعار “أمريكا أولا” يعود إلى حقبة ثلاثينات القرن الماضي، واستخدمته شخصيات أمريكية محايدة أو متعاطفة مع المانيا النازية لتبرير حياد أمريكا، إلا أن ترامب حوله شعارا خاصا به وجعله عصريا وجزءا لا يتجزأ من اللغة السياسية التي جلبها معه وفرضها على الطبقة السياسية والاعلامية.
في عام 1946 نشر الكاتب جورج أورويل مقالا عن السياسة واللغة الإنجليزية، قال فيه إن “اللغة السياسية – ومع بعض التنويعات هذا يسري أيضا على الأحزاب من المحافظين إلى الفوضويين- مصممة لجعل الأكاذيب تبدو وكأنها حقائق، والجريمة محترمة، وإظهار الرياح وكأنها صلبة”. هكذا يستخدم الرئيس ترامب اللغة السياسية كما عرّفها أورويل، بعلم منه أو من دون علم.
مثل هذه المفردات اللغوية، تتطلب وقتا طويلا لتنتشر، وحين اكتشاف خطرها لا يمكن التخلص منها أو تعديلها في أي وقت قصير. ولذلك فإن آثار التسونامي الذي يُدعى ترامب، بما في ذلك تأثيره على اللغة السياسية للبلاد، سوف تبقى معنا لوقت طويل.