آخر مرة زار فيها العثمانيون الأتراك بلاد الشام، بقوا فيها أربعة قرون، إلى أن انسحبوا منها في نهاية الحرب العالمية الأولى. الاجتياح التركي لشمال سوريا والذي كان يهدد به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ سنوات ليس مماثلا للاحتلال العثماني الطويل، ولكنه يؤكد حقيقة مرّة لسوريا بعد ثماني سنوات من الحروب والكوارث.
هذه الحقيقة هي أن روسيا وإيران وتركيا تتقاسم مناطق نفوذ وسيطرة عسكرية على مناطق وسكان سوريين، بالتواطؤ بين نظام الأسد في حالة إيران وروسيا، بالتواطؤ بين تركيا وروسيا، كما يبين الاجتياح التركي الراهن. الاجتياح لم يكن ليحدث لو لم يوفر الرئيس ترامب، وبشكل نافر للغاية الضوء الأخضر للرئيس التركي ليحتل شمال سوريا في مكالمة هاتفية مساء ،الأحد. ترامب أتخذ قرارا خطيرا ستكون له مضاعفات عسكرية وسياسية وانسانية بعيدة المدى على سوريا ومحيطها وعلاقات واشنطن بالمنطقة وعلى تحالفات الولايات المتحدة في العالم. قرار ترامب المتهور اتخذه لوحده ودون استشارة مساعديه السياسيين والأمنيين، الذين استفاقوا صباح الإثنين لمعالجة واحتواء الضرر الجسيم الذي تسبب به رئيس يدعي أنه يتمتع “بحكمة لا مثيل لها”.
طموحات أردوغان
الاجتياح التركي الذي قام به “الجيش المحمدي” وفقا لتغريدة لأردوغان لمناطق تسكنها أغلبية كردية، له أهداف آنية وبعيدة المدى معا. الهدف المعلن والآني هو إقامة شريط حدودي بعمق يتراوح 18 و20 ميلا داخل الأراضي السورية وبطول يزيد عن 200 ميل، بعد القضاء على أي مقاومة من قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد عمودها الفقري، والتي لعبت الدور الأهم في هزيمة قوات “الدولة الإسلامية” بالتنسيق مع القوات الحليفة التي تقودها الولايات المتحدة.
وأخطر ما في الاجتياح التركي هو أن أردوغان يخطط لاستخدام الشريط الحدودي لكي يعيد إليه ما يزيد عن مليون لاجئ سوري لجأوا إلى تركيا خلال السنوات الماضية ومن جميع المناطق السورية، في عملية اختبارية للتطهير الإثني، أي لتمييع وتعديل التوازن الديموغرافي في المنطقة لكي لا يصبح من مصلحة الأكثرية الكردية. مشكلة أردوغان هي أن معظم اللاجئين لم يأتوا من المناطق الحدودية الشمالية بل من جميع أنحاء البلاد، وارغامهم على العيش في الشريط الحدودي، عدا عن أنه مجحف وغير مقبول لأن لللاجىء الحق بالعودة إلى مكان عيشه الأصلي، ولكنه سيخلق التوتر بين معظم اللاجئين وهم عرب، وبين السكان المحليين ومعظمهم من الأكراد. هذه التجربة الخطيرة في الهندسة الاجتماعية والتغيير الإثني والثقافي ستكون لها مضاعفات خطيرة في المنطقة وسوف تخلق سوابق لن يكون من السهل تجاوزها.
الهدف البعيد المدى للاجتياح التركي هو إلحاق هزيمة كبيرة “بوحدات الحماية الشعبية” وهي التنظيم العسكري لأكراد سوريا، والتي تعتبرها أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي تصنفه تركيا (والولايات المتحدة) تنظيما إرهابيا، كمقدمة للقضاء على طموحات الأكراد بتقرير مصيرهم في يوم من الأيام. الاحتلال التركي سيكون مفتوحا، لأن أردوغان لم يحدد أي إطار زمني لمدة “زيارته” العسكرية لسوريا. ورفض أردوغان بقوة أي وصف أوروبي للاحتلال التركي للأراضي السورية احتلالا، وهدد الدول الأوروبية بخلق طوفان من اللاجئين السوريين من تركيا إلى قلب أوروبا، في ابتزاز سافر لأوروبا التي يعتقد أردوغان أنها ضعيفة للغاية للصمود في وجه تهديداته.
ترامب بين التهديد والاسترضاء
للرئيس ترامب سجل طويل من المواقف الرافضة لما يسميه استمرار حروب أمريكا “التي لا نهاية لها” في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، من أفغانستان ومرورا بالعراق وسوريا وانتهاء بليبيا. وهو يكرر دائما بأن تدخل أمريكا في نزاعات الشرق الأوسط كان أسوأ قرار اتخذته الحكومات الأمريكية في تاريخ البلاد. ترامب مثله مثل الرئيس السابق باراك أوباما يرى أن نزاعات المنطقة الراهنة لها جذور قديمة في التاريخ وأن ثقافات وشعوب المنطقة هي في حالة اقتتال مستمر منذ قرون. هذه النظرة السطحية تعني عمليا أنه لا يمكن القيام بأي شيء عقلاني لحل هذه النزاعات، أو الاعتراف بأنها نزاعات سياسية وليست دينية، ومعظمها حديث العهد، أو الاعتراف بأن الغرب ساهم بخلق بعضها أو ساهم بتأزيم بعضها الآخر.
في نهاية ديسمبر –كانون الأول الماضي قرر ترامب بشكل اعتباطي سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا، بعد مكالمة هاتفية مع أردوغان. وتسبب ذلك القرار الاعتباطي (الذي تراجع عنه ترامب مؤقتا) باستقالة وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس. برر ترامب ضوءه الأخضر لأردوغان، الذي تمثل بالانسحاب السريع لعشرات الجنود الأمريكيين المنتشرين في قواعد صغيرة في المنطقة التي ستحتلها تركيا، بالقول إن تركيا هي دولة حليفة وعلاقاتها الاقتصادية جيدة مع أمريكا. بيان البيت الأبيض مساء الأحد الماضي والذي أعلن فيه ترامب سحب القوات الأمريكية لم يذكر الأكراد بالاسم. ومع أن ترامب قال في الأيام الماضية، كم يحب الأكراد “الشعب المتميز” و”المقاتلين الجيدين”، إلا أنه كان دائما يعود لموازنة ذلك بالعلاقات القوية مع تركيا. ويبدو أن الرئيس ترامب الذي لا يقرأ الكتب أو حتى المذكرات القصيرة التي لا تتعدى الصفحة أو الإثنين، قرر أن يخفف من أهمية الأكراد كشريك استراتيجي لأمريكا، حين قال شاكيا إن الأكراد لم يشاركوا في الإنزال البحري على شواطيء نورماندي الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، أو الإنزال البحري في أنتشون خلال الحرب الكورية، أو معركة كي سون في فيتنام، أو في قندهار في أفغانستان. تحسر ترامب لأن الاكراد لم يشاركوا في معركة نورماندي، تسبب بموجة من النكات والسخرية من رئيس لا يعرف أن كردستان ليست حتى دولة مستقلة أو أنها بعيدة بمئات الأميال عن أي شاطيء، وأنه لم يعلم على سبيل المثال” أن البحرية الكردية التي غادرت قواعدها في أربيل في طريقها إلى شواطيء نورماندي تأخرت عن موعد المعركة بسبب عاصفة ضخمة قرب جبل طارق…” وهكذا.
وعندما واجه ترامب عاصفة من الاحتجاجات وصلت إلى مستوى “حالة تمرد” من قبل مشرعين جمهوريين، الذين وصفوا تخليه عن الأكراد بأنه “خيانة” و”خطأ فادحا” اضطر الرئيس إلى إطلاق تغريدات متشددة ضد تركيا، وتهديده بتدمير ومحو اقتصادها، إذا تسبب الاجتياح بخسائر بشرية عالية. وذّكر المحللون الرئيس ترامب بأن للولايات المتحدة تاريخ طويل بالتخلي عن الأكراد لمواجهة الأخطار المحدقة بهم لوحدهم، كما حدث في 1975 عندما تخلى وزير الخارجية هنري كيسنجر عن الأكراد في العراق، لكي يقمعهم صدام حسين، وكذلك في أعقاب انتفاضة الأكراد (والشيعة) في العراق ضد صدّام عندما حضهم على ذلك الرئيس جورج بوش الأب عقب حرب تحرير الكويت، لكي يتخلى عنهم بوش لاحقا ويتركهم لاصدقائهم الحقيقيين: جبال كردستان الوعرة.
وخلال أقل من أسبوع على مباركته العملية للاجتياح التركي لشمال سوريا، تأرجح ترامب بين خيارات الترهيب من جهة، وخيارات تقديم الحوافز الاقتصادية لتركيا. ووفقا لتسريبات للصحف، قال مسؤول بارز إن وزير الخارجية مايك بومبيو ومدير البيت الأبيض بالوكالة ميك مافيني حذرا ترامب من أن الرئيس التركي أردوغان قد وضعه في الزاوية.
مجلس الشيوخ يشهر سيف العقوبات
وبعد يومين من الانتقادات القاسية للاجتياح التركي من المشرعين الاميركيين طرح السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام المقرب من ترامب والسيناتور الديمقراطي كريس فان هولن مشروع قرار لفرض عقوبات مالية على القادة الأتراك بمن فيهم الرئيس أردوغان. ويدعو مشروع القرار إلى فرض عقوبات مالية ضد الرئيس أردوغان ووزير الطاقة والموارد الطبيعية، ويفرض عقوبات عسكرية في خطوة جذرية لأن تركيا هي عضو في حلف الناتو (أمريكا فرضت عقوبات عسكرية ضد تركيا في 1974 في أعقاب غزوها لقبرص). وهذا يعني أن أي دولة تبيع الأسلحة إلى تركيا أو تقدم لها أي مساعدات سوف تواجه العقوبات الأمريكية أيضا. ووفقا لمشروع القرار سوف تفرض العقوبات “ضد أي طرف يوفر إمدادات الأغذية والخدمات والتقنيات والمعلومات لمساعدة مشتقات النفط الداخلية والغاز الطبيعي الذي تستخدمه القوات المسلحة”. ويتضمن مشروع القرار بندا يدعو إلى تقييد حرية سفر القادة الأتراك إلى الولايات المتحدة، وفي حال تم تبني مشروع القرار بنصه الحالي فإنه سيكون بمثابة صدمة كبيرة وغير مسبوقة لدولة عضو في حلف الناتو. ردود فعل أعضاء الكونغرس من الحزبين، وفي أوساط المحللين والعاملين في مراكز الأبحاث ووسائل الاعلام أظهرت مدى عزلة تركيا في ظل أردوغان في واشنطن.
قرار ترامب بالتخلي السريع و الاعتباطي عن أكراد سوريا الذين حاربوا ببسالة ضد إرهابيي “الدولة الإسلامية” وحرروا المدن التي كانت تحتلها، بما فيها “العاصمة” الرقة، كان له صدى مدويا في بعض عواصم الخليج العربية. مسؤولون خليجيون ابلغوا نظرائهم وأصدقائهم في واشنطن أن تخلي ترامب عن أكراد سوريا عزز من مخاوفهم وشكوكهم السابقة حول صدقية التزامات ترامب تجاههم. وقال أحدهم “ترامب لم يرد عسكريا على إسقاط إيران لطائرة “درون” الكبيرة ، ولم يتحرك للرد على تفجير ناقلات النفط الاماراتية والسعودية، والأهم من ذلك لم يقم بأي رد فعال ضد الهجوم الإيراني ضد منشآت النفط السعودية في بقيق”. وتابع المسؤول “تخلي ترامب عن أكراد سوريا كان التأكيد الأخير بأننا لا نستطيع الاعتماد على أي وعود أو التزامات يعطينا إياها”
الاجتياح التركي لسوريا، سيخلق وقائع جديدة على الأرض سوف تزيد من تعقيدات الأزمة السورية، وزيادة تأزيم علاقات تركيا المتأزمة أصلا بدول عربية مثل مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وإذا تم إقرار مشروع قرار في الكونغرس الأمريكي يفرض عقوبات قاسية ضد تركيا، وإذا صاحب ذلك إجراءات عقابية أوروبية، ولو كانت أقل قسوة من الإجراءات الأمريكية، فإن ذلك سيضع تركيا على طريق قطيعة تاريخية مع حلفائها القدامى في الناتو، مع ما سيعنيه ذلك من تراجع علاقات تركيا بالغرب، وتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين. الرئيس أردوغان، الذي يتصرف مع تقدمه في السن وفي الحكم وكأنه سلطان فاتح ويتمتع بصلاحيات شبه مطلقة مماثلة للسلاطين الذين حكموا من الباب العالي، قد يجد نفسه معزولا أكثر من أي وقت مضى، وأنه وضع تركيا على الطريق الذي أوصلها في القرن التاسع عشر إلى مكانة “رجل أوروبا المريض”.